الامامة الالهية(5) المجلد 1

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، - 1340

عنوان و نام پديدآور : الامامه الالهیه/ محاضرات محمد سند؛ جمع و اعداد محمدعلی بحرالعلوم

مشخصات نشر : تهران : فرصاد ، - 1385.

مشخصات ظاهری : ج 3

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرست نویسی براساس اطلاعات فیپا

یادداشت : کتابنامه

موضوع : امامت

موضوع : ولایت

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : بحرالعلوم، محمدعلی، 1345 - مقرر

رده بندی کنگره : BP223/س9الف8 1385

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 81-28236

الامامة الالهية (1)

مقدمة بقلم الاستاذ الشيخ محمد سند … ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين وصلي اللَّه علي سيد الخلق محمد المبعوث للرسالة وعلي آله الأئمة الهداة. وبعد فإن البحوث العقائدية والمعرفة الدينية بمكان من الأهمية، حيث انها الراسمة لطريق الانسان والمجتمع في هذه النشأة في مختلف شؤونها وجهاتها والنشآت اللاحقة، فمن ثم احتلت موقعاً في الصدارة وأولوها عناية خاصة، فالإيمان والهداية قد شدّد علي صدارتهما القرآن والسنّة في قائمة أعمال الإنسان، فقد قال تعالي:

«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «1».

والواجب الاعتقادي المعرفي، هو فعل تقوم به النفس وجوانحها في الدرجة الأولي، فالادراك والإذعان أو المعرفة والايمان، أو التعقل والاخبات أو الاهنداء والتسليم فعلان تقوم بهما طوية القوي للنفس. ومن ثمّ يستعقبها أفعال أخري لواجبات اخري، وهذا يوازي التعبير المقرر في العلوم الانسانية الاكاديمية أن رؤية الانسان اتجاه الكون يتفرع ليها كل الامور الاخري من الحقوق والآداب والقوانين والاعمال.

ولا يخفي أن الاصول الاعتقادية الخمسة من التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد، مآلها هو التوحيد في المقامات الخمسة فالاول هو التوحيد في الذات الازلية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 6

الإلهية، والثاني هو التوحيد في الصفات، مطلق الصفات والثالث هو التوحيد في التشريع والشريعة وانه التوحيد في الافعال من نمط والرابع هو التوحيد في الطاعة والولاية والخامس هو

التوحيد في الغاية وهو الاخلاص والخلوص، فاللَّه تعالي أحدي الذات واحد لا شريك له في الذات ولا في الصفات ولا شريك له في الحكم وله الولاية وحق الطاعة بالذات، وهو غاية الغايات فليس وراءه غاية. وهذا ما تكفلت الاشارة اليه مقدمات هذا الكتاب.

كما لا يخفي أن العلوم المتكفلة للبحث في المعرفة الدينية قد اختلفت مناهجها من الاعتماد عمدة علي العقل النظري أو العقل العملي أو الواردات والادراكات القلبية الذوقية، أو الكتاب العزيز والسنة المطهرة، أو المزيج بينها علي انحاء عديدة، وليست المعرفة بحسب الطاقة البشرية المجردة كالمعرفة الحاصلة من مناهل الوحي الإلهي، فالمعرفة الأولية الفطرية وان كانت رأس المال ولكن العقل والقلب لغتان يقرأ بهما كتاب الوحي، وهما المخاطبان للسانة، ومن ثم كان البحث عن المنهجية المنطقية أمراً لابد منه ومقدّماً علي البحث المعرفي الاعتقادي، لاسيّما وأن كلًا من هذه المصادر للمعرفة كلًا منها علي حدة قد تشعبت فيه المباني وكثرت في أطرافه التساؤلات الجادة او الملتبسة فكان اللازم- متابعة البحث في ذلك وبتسلسل وهذا ما اشتمل عليه الفصل الاول من هذا الكتاب.

وقد أخذ عنان الحديث في الأوساط المختلفة في الآونة الاخيرة، عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية، التساؤل عن الخلفية القانونية للحكومة وإقامتها في عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، وكون مشروعيتها ممتدة من امامته عجل اللَّه تعالي فرجه الشريف أو أن الصلاحية مستمدة من الأمة والانتخاب وما يطلق عليه بالشوري، وتسليط الضوء عن المذهب الرسمي لعلماء الإمامية في ذلك مع قراءة قانونية للإمامة في سيرة الأئمة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 7

الاثني عشر عليهم السلام وأدوارهم في التاريخ وبالتالي البحث عن الإمامة الإلهية عند الشيعة وبعدها القانوني والتشريعي في النظام السياسي والاجتماعي، وهذا ما عالجه الفصل

الثاني من هذا الكتاب.

كما أن معترك الكلام في الأندية المتنوعة حول الإمامة الإلهية للعترة المطهرة تركز حول المقام الغيبي في حقيقة الإمامة أو أنها مقام اعتباري قانوني صرف للعترة النبوية بلحاظ تفرقهم علي صفات كمالية كما ينسبق ذلك الي الذهن من تعريف المتكلمين، فهل هي حقيقة تكوينية وصفة خارجية وسفارة إلهية كما هو الحال في النبوة وإن اختلفت عنها سنخاً، ويكون المقام القانوني أحد شؤون تلك الحقيقة، ومن الواضح أجنبية هذه الجهة من البحث عن أدوات الاعتبار والعلوم الاعتبارية القانونية، وتطلبها أدوات البحث العقلي والعياني والنقلي المعارفي، كما يستدعي البحث ثلاثة أصعدة صعيد التصور اللغوي والعقلي والنقلي وهو ما يوازي ما الشارحة في الاسلوب المنطقي، وصعيد التصديق العقلي والفقه العقلي للإمامة وهو ما يوازي ما الحقيقية وهل البسيطة عند المناطقة وصعيد التصديق النقلي والفقه الشرعي للإمامة وهو ما يوازي هل المركبة في المنهج الاستدلالي المنطقي أي كان الناقصة. ولا محالة يستلزم كان التامة أيضاً بمقتضي الفقه النقلي يقع التدبر في النصوص القرآنية والنبوية المروية عند الفريقين بالدرجة الاولي ومن ثمّ عطف النصوص المأثور عن المعصومين عليهم السلام عليها. وفي خضم هذا البحث تقع قراءة عقلية تفسيرية لحالات وشؤون الأئمة (صلوات اللَّه عليهم) المأثورة في الحديث والتاريخ ومجموع كل ذلك هو البحث في الإمامة الإلهية وبعدها التكويني عقلًا ونقلًا وهذا ما اهتم به الفصل الثالث من الكتاب.

ويستتبع ذلك شرح عدّة من العناوين المتفرعة عن البحوث السابقة كالتولي والتبري ونحوهما والتي هي بمثابة وظائف للمأموم نحو الإمام، مع لمحة فهرسية لمناهج

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 8

الاستدلال في الإمامة، وهذا ما عنيت به الخاتمة للكتاب.

وقد جاء هذا الكتاب حصيلة بحث استغرق العامين الدراسيين 1417- 1418 ه ق للحوزة العلمية

في قم المقدسة الذي عقدناه مع ثلة من الأفاضل وقرّره بنضد منسق المعاني في عبارة جزلة الفاضل المجدّ السيد محمد علي بحر العلوم دام نشاطه العلمي والديني، عسي أن يقع محلّ فائدة لدي روّاد البحث والمعرفة.

قم/ عش آل محمّد عليهم السلام/ بجوار كريمة أهل البيت عليهم السلام

محمد سند

الخامس من شوّال 1421 ه. ق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 9

المدخل … ص: 9

اشارة

ان البحث حول الإمامة ليس بالبحث الهيّن وذلك لغور معناها وتعدد جهاتها، كيف لا وأدني معرفتها أنها عِدل النبوة إلا أنها ليست بنبوة، ويصعب أكثر إذا أراد الباحث التعرض إلي كل الشبهات والاشكالات التي طرحت منذ عشرات السنين وما زالت تطرح وتتداول في الأوساط المختلفة شأن بقية الأصول الاعتقادية، وقد اتخذنا في هذا البحث طريقةً واسلوباً مختلفاً عما سبق وتناوله السلف الصالح جزاهم اللَّه خير الجزاء.

ونتعرض في هذا المدخل لعدد من النقاط المهمة التي لابد من العلم بها قبل الولوج في صلب البحث:

النقطة الاولي: … ص: 9

ان البحث حول الإمامة قد يكون اشق من البحث حول التوحيد وذلك لأن التوحيد يعني اثبات الالوهية ونفي الشرك في مقام الذات، وهذا يرتضيه كثير من الناس حتي غير المسلمين، اما الإمامة فإنها تمثل جانب آخر من الايمان باللَّه وهو جانب الانصياع والطاعة لمن أمر اللَّه بطاعتهم، ويعتبر ممارسة اعتقادية وعملية للإيمان، لذا كان من المهم الاهتمام به واعطاؤه الاولوية في البحث لإثبات ان الحق تعالي ابقي هذا الاتصال بين الأرض والسماء.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 10

النقطة الثانية: … ص: 10

من المسلّمات التي لا يختلف فيها اثنان، ان ابن آدم يتكون من بدن وروح، ومنذ بداية نشأة الإنسان علي هذه الأرض تتنازعه هاتان الجنبتان. فنري أفرادا يتغلب عندهم الجانب البدني فتسيطر عليهم المادة ويتخيل الفرد أن كمالاته تتحقق في اتباع كمالات وشهوات بدنه، وفي الجانب المقابل نري افرادا يتغلب الجانب الروحي لديهم فيوغلون في الرياضات الروحية ويُميتون حاجة أبدانهم ليرتقوا بأرواحهم في سُلّم السعادات وهم أصحاب النزعات الباطنية.

وباستعراض سريع لتاريخ البشرية يتضح لنا أن الأغلب والأكثر هم اتباع القسم الأول، الذي سيطر الجانب المادي والبدني عليهم، فعانت البشرية من مشاكل كثيرة وذلك لأن تغلب هذا الجانب سوف يواجه صعوبات في ايجاد واثبات الاتصال بين السماء والأرض، حيث يفقد المقاييس والضوابط التي في الجانب الروحي، ويحكم ضوابط ومقاييس الجانب البدني عليها مما يولد مشكلات عدة.

والإسلام والديانات بشكل عام تسعي إلي ايجاد التوازن بين هذين الجانبين في الإنسان وعدم طغيان احدهما علي الاخر. فالدهريون منذ زمن الرسالة المحمدية إلي المدارس العصرية في زماننا هذا يحملون نفس الهاجس وهو سيطرة الجانب البدني وعدم الاعتراف بالضوابط والمقاييس الروحية. ومن خلال الايات القرانية نستطيع ان نتلمس بعض المظاهر لسيطرة هذا الجانب.

* «قَالُوا مَا أَنتُمْ

إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْ ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» «1»

:الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 11

فيري المنكرون أنّ من ارسلوا اليهم ليسوا إلا بشراً، والبشر قدرته محدودة فلا يكون رسولا من عند اللَّه. وهذا مع ايمانهم باللَّه والتوحيد.

* «وَأَسَرُّوا النَّجْوَي الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ» «1»

.وهذا مثال آخر لقوم آخرين ينكرون الرسالة ولا يتصورون وجود قوة غير بشرية بل كلها داخل قدرة البشر وقواة المختلفة الادراكية والعمّالة.

* وتتدخل لانكار الرسالة دوافع الحسد والجاه «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَي رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «2»

: ويري كل فرد منهم ان يكون له اتصال مع اللَّه بنفسه وان يكون هو رسول من عند اللَّه لا غيره. بل «يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَي صُحُفاً مُنَشَّرَةً» «3»

.* وعندما يطلب المنكرون اثبات اتصال الرسول باللَّه يطلبون الرؤية «قَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً» «4»

فهم يؤمنون باللَّه وبالتوحيد لكن ميزان الارتباط هو امر مادي وهو رؤية اللَّه البصرية.

* والقرآن في قبال كل هذه الانكارات يركز علي أن الرسول بشر وهو رجل منهم ولا يمكن ان يرسل غير البشر ويتميز الرسول عن غيره بعدم سيطرة النزعة البدنية والمادية عليه بل هو في الجانب الروحي متصل باللَّه ومرتبط بالوحي ووزان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 12

الروح ليس كوزان البدن وحدود الروح ليست حدود البدن، وهذا الجانب هو الذي يميز الرسول والامام والولي الصالح.

* وفي العصور المتأخرة يتغير بيان هذه الانكارات من بني الإنسان فليجأون إلي صياغات أخري.

منها: ان وجود اتصال دائم بين البشرية وبين الجانب

الربوبي يؤدي إلي الضمور وعدم الانطلاق في الحياة والكسل والاعتماد علي المنح الغيبية.

ومنها: ان قوة الفكر البشري كافية في ارشاد الإنسان نحو الكمال.

او القول بان الركون إلي وجود مثل هذا الاتصال ولو علي شكل امامة افراط في النزعة الباطنية.

أو القول ان معني النبوة الخاتمة هو اكتمال القوي العقلية لدي بني البشر، فلا تحتاج البشرية في مسيرتها إلي تسديد سماوي، أو دعوي تساوي أفراد البشر في الكمالات الروحية.

والجامع بين هذه الدعوات والاساليب السابقة هو سيطرة الجانب المادي علي نفوس أصحابها فحرموا من نعمة الاحساس واستطعام حلاوة الروح.

النقطة الثالثة: … ص: 12

من الأمور التي يعيبها أهل الفكر من المتأخرين علي أهل التدين هو انّ الاخيرين يضفون علي عقائدهم هالة من القدسية تكون سورا أمام التفكير فيها وعائقاً يمنع عن البحث حول مدي صحتها.

وفي الواقع هذا غير تام وان القدسية مع الاعتراف بها- لا تمنع من البحث والتشكيك الذي يهدف إلي الوصول إلي الحقيقة أو إلي مزيد من اليقين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 13

بيان ذلك: ان القدسية تعني اضفاء احترام وخضوع خاص لحقيقة معينة او لقضية ما، وبتحليل أدق هي خضوع القوي العملية للإنسان للقوي النظرية، باعتبار أن هذا هو الأمر الطبيعي لقوي الإنسان، حيث ان القوي العملية ليس لها قوة الإدراك فلابد ان تجد طريقها في الهداية بتوسط القوي النظرية، فالقدسية فعل من أفعال القوي العملية، وهو احترام وخضوع لإدراك يتم بواسطة قوة العقل النظري، وهي الحالة الطبيعية لما يجب ان يكون عليه تفكير الإنسان.

ومن جهة أخري فإن التشكيك علي نحوين: احدهما: ممدوح والآخر مذموم اما الممدوح فهو التشكيك لاستكشاف المجهولات وبيان الحقائق، وهو الذي يدفع الإنسان للبحث والتنقيب، وهذا يزول بمجرد بروز الحقيقة وقيام الأدلة والبراهين الساطعة.

اما المذموم فهو التشكيك

الذي يؤدي إلي زعزعة الحقيقة الحاصلة في النفس، من دون أن يدفع نحو الفحص، بل تبقي حالة الشك والاضطراب والتحير وعدم القدرة علي الاذعان بالبرهان السليم. مستولية علي هذا الفرد. وهذه حالة مرضية مستعصية يفقد بها الإنسان قدرته علي التعايش حيث تكون الادراكات الصحيحة غير قادرة علي توليد الاذعان بها لديه.

فالشك ليس إلا جسر يُعبر عن طريقه إلي الحقيقة سواء جهة النفي أو الاثبات، اما بقاء حالة الشك فهذا مرفوض ومذموم.

النقطة الرابعة: … ص: 13

من الدعائم الفكرية التي يقوم عليها المذهب الوهابي، والتي بنوا عليها نتائج كثيرة لها أهمية اجتماعية وسياسية، هي ان القرآن الكريم في ايات كثيرة يركز علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 14

عقيدة مهمة، وهي التوحيد ونفي الشرك ولا يتعرض لأصل وجود اللَّه، والسر في ذلك ان العرب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بأصل وجود اللَّه لكنهم كانوا يجعلون له شركاء في الوجود والعبادة من أصنامهم، لذا واجه القرآن ذلك وركز علي إنه واحد لا شريك له. وبنوا علي هذه العقيدة أن الإنسان يجب ان يرتبط باللَّه مباشرة من دون أية حاجة إلي وسيط، والخضوع غير جائز إلا له، وان اللَّه لا يجعل اية واسطة أو وسيلة بينه وبين العبد.

وقد سبقهم المفسرون بعض الشي ء في اصل دعواهم بمعني ان الدارس للقران الكريم يتضح له ذلك بنحو جلي وأن هناك آيات كثيرة تركز علي هذا الجانب لكننا نقول لهم: حفظت شيئا وغابت عنك اشياء.

وذلك لانّ هذا الاستقراء ناقص، إذ أن الآيات التي تركز علي ذلك الجانب واردة في العهد المكي. اما الآيات الواردة في العهد المدني وهو عصر تكوين الدولة الإسلامية فلا تركيز لها في هذا الجانب، بل ركزت علي جانب اخر مهم، وهو التوحيد ونفي الشرك في

الطاعة.

وبعبارة أخري بعد بناء المجتمع الإسلامي واصبح مَن في المدينة موحداً في العبادة ولا يشرك باللَّه أحدا في الوجود الإلهي وبطلت اصنام الجاهلية، وجّه القرآن المسلمين إلي مفهوم آخر يعتبر استكمالا للتوحيد في العبادة وذلك ان العبادة الرسمية وحدها لا تكفي بل يجب ان تقترن بالطاعة، وهذه الطاعة تكون لِمَن نصبه اللَّه فطاعته تكون طاعة للَّه ومعصيته تكون معصية للَّه، بل ان طاعة مَن لم ينصبه اللَّه هي شرك. فليس لأحدٍ حق الطاعة إلا من خلال أمر اللَّه جل وعلا.

فإذن الايات المكية ركزت علي التوحيد ونفي الشرك في الوجود الإلهي والعبادة، والايات المدنية ركزت علي التوحيد ونفي الشركة في الطاعة، والوهابية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 15

رأوا القسم الأول وعميت أعينهم عن القسم الثاني.

ومن الشواهد علي ما ذكرته الايات المدنية:

* «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا» «1»

فان النّد هو المماثل ويكاد يجمع المفسرون علي ان المراد ليس اتخاذ إله آخر مع اللَّه فهم موحدون في العبادة الاصطلاحية الرسمية، بل يقصد بالانداد هنا الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس وأطاعوهم من غير أنْ يأذن اللَّه في اطاعتهم كما تشهد ذيل الاية «اذ تبرأ، واتبعوا».

وفي الكافي والعياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله ومن يتخذ من دون اللَّه اندادا..

قال هم واللَّه يا جابر ائمة الظلم واشياعهم.

* «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَي كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلَا

نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ».

والاية بعد ان تقرر وحدانية الالوهية وعبادة اللَّه وحده لا شريك له تؤكد علي وحدانية الربوبية وهي ربوبية الطاعة اذ ان الرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهي اي المشرع والمطاع من دون ارشاد اللَّه اليه. فالطاعة لا يجوز ان تكون لاي فرد بل هي مختصة لمن يرشد اليه اللَّه سبحانه.

*- «قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «2»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 16

فمحبة اللَّه والايمان به تعني وجوب اتباع الرسول الذي أرسله اللَّه اليكم فمن يحب اللَّه يجب ان يتبع الرسول، وبعكس النقيض من لا يتبع الرسول لا يحب اللَّه.

* ومما تكفلت الايات المدنية بيانه هو ارشاد المسلمين إلي خطأ اليهود والنصاري الذين وقعوا في خطأ جسيم وهو اتباع رؤساء دينهم فيما يغشونهم وجعلوه كأنه اية منزلة من عند اللَّه. قال تعالي «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ» «1»

. فمن الواضح انهم لم يكونوا يعبدونهم ولم يتخذوهم آلهة وكل الذي فعلوه انهم اطاعوهم طاعة عمياء.

* «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ.. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «2»

فرتب الكفر الاصطلاحي علي عدم خضوع الطاعة.

* «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» «3»

فنفي الايمان مع عدم تسليم الطاعة قلباً وعملا. ونكتفي بهذا المقدار من الشواهد مع وجود شواهد أخري عديدة تؤكد علي ان الايات المدنية وردت في اكثر من موطن لتحذر المسلمين من مغبة الوقوع في انحرافات اليهود والنصاري باتباع من لم يأمر الحق باتباعه. فالتوحيد من الطاعة من الأمور المهمة التي ركز عليها القرآن وطاعة الأئمة

تدخل في هذا النطاق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 17

النقطة الخامسة: … ص: 17

ان البعض يتصور ان البحث حول الإمامة يؤدي إلي تفكيك المجتمع الإسلامي، وبتعبير آخر ان هذا البحث هو في خط مقابل لبحوث الوحدة الاسلامية. وهذا الاعتقاد خاطئ وذلك لإننا عندما ننظر إلي الوحدة الاسلامية يجب ان نحلل هذا المصطلح طبقا للمعايير الفقهية التي أسسها الفقة الإمامي لا أن نعبر تعبيرا عصرياً فننظر إليه بمنظار ما يسمي بالثقافة الإسلامية ونحيطه بطائفة الشعارات التي لا تمس الشريعة بصلة.

فمن وجهة نظر فقهية وبقراءة سريعة لما حبرته يراع الفقهاء السابقون رضوان اللَّه عليهم نري انهم ينصّون علي ان من تشهد الشهادتين فقد دخل في الإسلام وتصبح له حرمة يجب الحفاظ عليها ومراعاتها ولا يجوز ان تهتك، وهذه الحرمة تشمل جميع جوانب الحياة اليومية من اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنائية، فلا يجوز تحميله عبئاً اقتصاديا غير ما فرضه اللَّه علي كافة المسلمين ولا يجوز معاقبته علي جناية ارتكبها بعقوبة اكثر مما فرضه اللَّه علي الجميع، لمجرد عدم دخوله في المذهب الحق. وهكذا فإنا نري ان الفقهاء قد عملوا وأفتوا عملا بما تستلزمه وحدة المسلمين وبقاؤهم كالبنيان المرصوص.

اما الآية الكريمة «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً» «1»

.فإنها تخاطب المسلمين بشكل عام وهم من تشهد بالشهادتين وتوجه لهم خطابان: احدهما وجوب الاعتصام، والآخر: عدم التفرقه، وهذا قد يكون أمرا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 18

جديدا غير الاعتصام، وقد يكون تأكيدا له. فالآية تدل علي نكتة مهمة يجب علي المسلمين التنبه اليها وهي ان مجرد الشهادتين واشتراك الجميع في اداء العبادات الضرورية- التي يعترف بها الجميع- هذه كلها غير عاصمة للمجتمع الإسلامي، وان هذه الثوابت

غير كافية في احتفاظ المجتمع لبنائه الواحد وانها معرضة للفشل لذلك تعرض الآية إلي وجوب ان يتمسك المسلمون بأمر آخر يكون عاصماً للمسلمين من الضلال والغواية وهو التمسك بحبل اللَّه، وفي هذا من الاستعارة التمثيلية ما لا يخفي فإن الحبل الذي يستخدم للنجاة طرف منه يكون بيد المنجي والاخر يكون بيد المعرّض للهلاك، واضافة الحبل إلي اللَّه دليل علي وجوب دوام الاتصال بين السماء والأرض إلي يوم القيامة، وان الباري تعالي هو الذي يجعل هذا الحبل.

وهذا الحبل هو القرآن الكريم والسنة المتمثلة بآل البيت عليهم السلام كما ورد في كثير من الروايات كحديث الثقلين. فإما ان يقال انهما حبلان كما في بعض الروايات وإنه حبل واحد وهو القرآن الكريم والحافظ والمبيّن للقران هم أهل البيت عليهم السلام.

وأخيرا سوف نشير إلي كيفية دلالة الروايات الكثيرة المتفق عليها بين الفريقين علي عدم قبول الأعمال وبطلان العبادة بدون ولاية الائمة:. وان الولاية هي اساس لقبول الأعمال وهذا هو نفس مفاد الاية «1» انه من دون تمسك بالحبل فلا عصمة من الضلال وكذا هو مقتضي آية كفر إبليس بإبائه الطاعة لآدم، ومقتضي آية إكمال الدين وإتمام النعمة بما أنزل ذلك اليوم من فريضة الولاية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 21

الفصل الاول: منهج المعرفة الدينية … ص: 21

اشارة

منهج المعرفة الدينية

ونتناول فيه منهج الحجج في بحث الإمامة فيقع البحث في الكتاب والسنة والعقل والمعرفة القلبية. والعلاقة والارتباط بين هذه الأدلة لكن قبل الولوج في هذا البحث لا بأس بذكر عدة مقدمات نتعرض فيها لتصوير الأحكام الشرعية في مجمل العقائد وبالتالي يمكن تطبيق قواعد اصول الفقه لاستنباط الاحكام الشرعية في العقائد.

المقدّمة الأولي … ص: 21

اشارة

ينقسم الحكم الشرعي إلي قسمين احدهما الفقهي والاخر الاصولي، ويقصد بالأول الحكم الشرعي الواقعي المجعول بالجعل الأولي كوجوب الصلاة ووجوب قراءة السورة، ووجوب الخمس ويكون ملاكه في نفسه … فهو ناظر إلي الواقع ويتعلق بالعناوين والموضوعات الواقعية وبتعبير آخر حكم أولي مرتب علي واقع الافعال.

اما الحكم الشرعي الأصولي فهو الذي يبحث عنه في علم الاصول ويكون حكما طريقيا الهدف منه احراز الحكم الواقعي فملاكه ليس في نفسه.

والبحث في إمكان تصوير كلا القسمين في العقائد أم لا؟

ولذا سوف يكون يكون البحث من الناحية الثبوتية والإثباتية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 22

أولًا: البحث الثبوتي: … ص: 22

والبحث من جهتين الاولي امكان التعبد بالحكم الواقعي الأولي في العقائد سواء تفاصيلها أو امهات مسائلها. والثانية امكان ثبوت الحكم الشرعي الأصولي في العقائد بمعني هل يثبت بالظن النشآة السابقة، أو أحوال البرزخ … فعندما يُقال لا يمكن التعبد بالظن، لا يكون ذلك منعا للحكم الشرعي الواقعي بل منعا للحكم الأصولي.

امّا الجهة الأولي:

وهو امكان وجود حكم شرعي فقهي في باب العقائد، اي هل يمكن للشارع ان ينشأ حكماً شرعياً بوجوب الايمان بالرجعة- مثلا- أم لا؟

ان تصوير الحكم الشرعي في تفاصيل العقائد بل حتي في مسائل الإمامة والنبوة والمعاد ليس بالأمر المشكل وذلك لعدم تأتي اشكال وشبهة الدور اذ ان هذه المسائل تثبت بعد توحيد الحق تعالي والايمان به لذا سوف نركز الكلام حول التوحيد، واثبات امكانية الحكم الشرعي فيه.

والمدعي هو امكان ذلك وعدم وجود المانع منه. والدليل علي ذلك يتضح من خلال النقاط التالية:

ان الايمان الذي يحصل لدي الفرد هو من وظيفة القوة العملية أي العقل العملي وليس من وظيفة القوة النظرية وذلك لان الايمان هو عقد القلب علي شي ء أي الاذعان والتسليم بذلك الشي ء، وبهذا يكون فعلا

من أفعال النفس.

اما القوة النظرية فوظيفتها الادراك البحت، والإدراك بعد حصول مقدماته من الأدلة والبراهين لا يكون اختياريا بل يحصل تلقائياً، لكن ليس كل ادراك يستتبعه اذعان من القوة العملية فقد يحصل ادراك بحقيقة ما، ومع ذلك تأبي النفس

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 23

التسليم بها والإخبار الي وجودها والالتزام بها ويتصرف الإنسان علي خلاف ذلك.

ومن هنا فان الخطابات الشرعية والاحكام التي يجعلها الشارع لا يكون متعلقها الادراك ولا الفحص عن مقدماته، وإنما متعلقها هو الفعل القلبي الذي تقوم به القوي العملية، وهنا يكمن موضع الاشتباه حيث ان البعض تصور أن متعلق الحكم الشرعي هو الادراك بأن يخاطب الشارع الفرد: «أدْرِك ربك او اعْرِف ربك» فأشكل بالدور وما شابههه، وما دام الايمان وظيفة القوي العملية، فان الترغيب والترهيب سوف يكون مؤثرا للنفس حتي تنصاع القوي العملية للأدلة الصحيحة والبراهين الساطعة التي ادركتها القوي النظرية.

قد يشكل البعض ان المناطقة عرّفوا العلم بأنه التصديق والجزم فيعود الاشكال؟

والجواب عن ذلك: انه طبقا لاخر تحقيقات مدرسة الحكمة المتعالية فان الحكم في القضية هو غير العلم. بيان ذلك:

ان صدر المتألهين ذهب إلي ان العلم الحصولي هو حصول صورة الشي ء لدي العقل، وهذا التصور تارة يكون كاشفاً تاماً بحيث يتولد منه اذعان النفس، وتارة لا يولد الاذعان وهذا هو الحكم، فتارة يستتبع الحكم «وهُو فعل نفساني ليس من قبيل العلم الحصولي والصورة الذهنية» «1»

.واصحاب النفوس المريضة لا يتولد لديهم اذعان حتي لو كان التصور مبنياً علي ادلة حقيقية وذلك للحُجُب المانعة أو الأمراض النفسانية الادراكية أو العملية نظير

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 24

الجربزة والوسوسة والعناد واللجاج والعصبية وغيرها من حصول التصديق، لذا يجب علي الباحث والمستدل أن يعمل علي تهذيب النفس. وهذا التهذيب يكون

بأحكام الشريعة. والحاصل أن قوام الحكم الفقهي هو كون متعلقه فعلا اختيارياً ويجعل علي امتثاله الثواب وعلي تركه العقاب وكلا الركنين متوفرا في الايمان بالتوحيد وإليه الاشارة في قول الصادق عليه السلام: «الايمان عمل كله».

ومن هنا يمكن القول بأنه من اللطف الالهي الواجب أن يأمر الحق وأن يرغِّب في توحيده وأن ينهي ويرهب من الشرك به، وهذا الأمر يفسر لنا الاحاديث الواردة بأن علي اللَّه المعرفة والبيان وعلي العبد الايمان والتسليم «1».

ان الشبهة الحاصلة لدي البعض هي ان البراهين والادلة المتكونة من الصغري والكبري علة فاعلية للنتيجة والحكم، فقالوا باستحالة تخلفها عنهما، وهذا غير تام.

والصحيح أن هذه البراهين لها وظيفة اعدادية بمعني انها لاتولد اليقين والجزم بل هو فعل النفس نتيجة لاعداد وتهيئة تلك الادلة ومادام ذلك فعل النفس يكون لاعداد النفس وتهذيبها اثر فعال في تولد اليقين من الادلة الصحيحة.

والفلاسفة يعترفون ان تلك الادلة لا تورث اليقين بل الظن ولذلك يقولون إنه اذا حصل اذعان وتسليم من النفس فإن هذا كاف في المقام، وقد مدح الحق تعالي: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقُوا رَبِّهِمْ» «2»

فمع انهم من جهة الادراك ظن لكن من جهة الاذعان والتسليم لا يوجد لديهم تردد.

فاتضح من خلال هذا الاستعراض ان الحكم الشرعي يعم كل المعارف الالهية حتي التوحيد، فثبوتا امكن تصوير الحكم الشرعي الفقهي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 25

اما الجهة الثانية:

وهو امكان التعبد بالحكم الشرعي الأصولي.

ذكرنا سابقا ان الغاية من الحكم الأصولي هي الارائة، فهل تحصل الارائة من الظن؟ وهذه المسألة تداولها المتأخرون بشكل وافٍ بعد ان تعرض لها الشيخ الانصاري في رسائله في تنبيهات الانسداد وحكي «1» عن كل من المحقق الطوسي والاردبيلي وتلميذه صاحب المدارك والشيخ البهائي والعلامة المجلسي والمحدث الكاشاني

وغيرهم إمكان ذلك، وحكي «2» عن الشيخ الطوسي كفاية الجزم والظن في الاعتقاد إذا طابق الواقع وإنْ عصي المكلف بترك تحصيل الاعتقاد عن دليل قطعي لأنه واجب مستقل، وذهب إلي ذلك الميرزا القمي في قوانينه «3» والمحقق الاصفهاني في نهاية الدراية «4» والسيد الخوئي في مصباح الأصول. وقد ذهب الشيخ نفسه إلي إمكانه بحسب مقتضي الصناعة إلا أنه منعه بحسب الوظيفة الشرعية.

والسر في ذلك ان اليقين والجزم ليس علي درجة واحدة اذ أنه كما ذكرنا يتأثر بدرجة الادراك وبالعوامل النفسية المختلفة، فلدينا إذعان ينبع من اليقين العلمي واذعان ينبع من الظن الاطمئناني- المتاخم للعلم-، وهناك اذعان يتولد من تساوي الطرفين، وذلك فيما دأبت عليه النفس من أخذ الحيطة في المحتملات البالغة الأهمية فلا تراعي درجة الاحتمال، وانما تراعي أهمية المحتمَل فيحصل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 26

الاذعان والجزم مع وجود الاحتمال فقط وذلك لاهمية المحتمل وخطورته.

والخلاصة: فان الاذعان وهو فعل القوي العملية يتبع- في الغالب- الادراك وهو فعل القوي النظرية وبما ان الادراك ذو درجات تبدأ من تساوي الطرفين وحتي اليقين والعلم، فان الاذعان كذلك تختلف درجته- مع بقائه اذعانا وتسليما.

تبقي الإشارة إلي ان البعض يعتبر ان الشك هو درجة ادراكية وهذا غير صحيح اذا ان الشك هو عدم الاذعان وحالة التردد العملي وبالتالي فهو صفة لحالة من حالات القوي العملية، فلا اذعان مع الشك، فما ذكر من كون تساوي الطرفين هو الشك الادراكي فهذا غير صحيح لذا لم نعبر عنه كذلك.

ثانياً: البحث الاثباتي: … ص: 26
اشارة

بعد أن تم تصوير امكان توجه الحكم الشرعي في العقائد سواء أصولها ام تفاصيلها تصل النوبة للبحث الاثباتي وهو مقدار ما قامت عليه الادلة في الاحكام الشرعية.

1- الحكم الشرعي الفقهي: - … ص: 26

اي الحكم الأولي فيمكن القول أن الآيات الواردة بصيغة «أمنوا باللَّه» كلها احكام شرعية لوجوب التوحيد لذا لم تخاطب الجانب الادراكي البحت، بل أتت بلفظ الايمان وهو ما اشرنا اليه سابقا في البحث الثبوتي، وعليه تكون هذه الاوامر مولوية لوجوب طاعة اللَّه والايمان به وتوحيده.

اما الايات الواردة بوجوب الفحص والتفكير والمعرفة نحو «انْظُرُوا مَاذَا فِي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 27

السَّماوَاتِ …» «1»

وغيرها فهي اوامر ارشادية ترشد إلي وجوب الفحص الذي ادركه العقل اذ ان الفحص مقدمة للادراك، والادراك متقدم علي الاذعان.

اما بالنسبة لتفاصيل الاعتقادات فأيضاً قامت ادلة كثيرة علي وجوب الاعتقاد بها اذا حصل العلم بذلك بمعني أي أن الحكم فيها بخلاف الاصول فهناك يجب تحصيل الايمان، اما هنا فالحكم معلق علي قيام العلم أو الحجة المعتبرة علي تلك التفاصيل فالاعتقاد والايمان بها واجب حينئذٍ.

بل في بعض الاخبار وجوب التسليم الإجمالي بما انزله اللَّه وما جاء به الرسول وبيّنه الائمة وان هذا هو مقتضي الايمان بهم.

ففي الرواية عن ابي عبد اللَّه عليه السلام قال: من سرّه ان يستكمل الايمان كله فليقل:

القولُ مني في جميع الاشياء قول آل محمد، فيما أسروا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني «2».

2- اما بالنسبة للحكم الشرعي الأصولي: … ص: 27

فهل من الممكن التعبد بالظن في اصول الاعتقادات وتفاصيلها؟

والبحث هنا يختلف عن البحث في الحكم الأولي، لذا سوف نقسمه إلي ثلاثة اقسام: -

التعبد بالظن في التوحيد والنبوة.

ويوجد تسالم علي عدم التعبد بالادلة الظنية في هذين الأصلين وذلك للدور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 28

الحاصل في المقام. توضيح ذلك:

ان الايمان بالتوحيد والنبوة يجب ان يستند إلي شي ء حجيته ذاتيه، اما اذا كانت حجيته عرضية فيجب ان ينتهي إلي ما هو بالذات اي إلي دليل عقلي اعتبره الشارع، و الفرض ان

البحث مازال في التوحيد فلم يثبت الشارع بعدُ حتي نثبت اعتبار الشارع له أو عدمه.

التعبد بالظن في الإمامة والمعاد والعدل.

فالأشكال السابق غير وارد هنا وذلك لأن البحث فيما بعد ثبوت التوحيد والنبوة واذعان النفس بهما. لكن مع ذلك يوجد تسالم بين الفقهاء علي عدم جواز الاستناد إلي الدليل الظني في اثبات الإمامة والمعاد بل يجب الاستناد إلي الدليل القطعي.

والسر في هذا التسالم هو ان الواجب في اصول الاعتقادات التحرز والتحفظ عن الوقوع في الضلال وهذا الوجوب عقلي والركون إلي الظن لا يؤمن هذا الجانب. لا أن الظن غير محصل للاذعان بل يمكن الاذعان والتسليم مع الادراك الظني لكن هذا لا يكون حصنا امام الشبهات والاشكالات.

التعبد بالظن في تفاصيل المعارف الالهية.

والبحث هنا حول المقدار الذي ثبت من جواز التعبد بالظن لنيل تفاصيل الاعتقادات، وبعد أن ثبت في علم الاصول حجية أخبار الآحاد والظواهر لتحصيل الأحكام الشرعية الفقهية الفرعية، يرد التساؤل هل يمكن تعميم الحجية لتشمل تفاصيل المعارف.

وقبل البدأ بأخبار الاحاد نشير إلي أن كثيراً من تفاصيل المعارف قامت عليها الاخبار المتواترة او المستيفضة والتي تورث القطع ويحصل بها العلم وهي خارجة عن بحثنا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 29

اما اخبار الاحاد:

فأول اشكال يعترضنا هو ان العمل يكون بالخبر واجبا اذا كان مؤداه حكماً شرعياً او موضوعا لحكم شرعي، وتفاصيل الاعتقادات ليس من الواجب الاعتقاد بها، فلا معني لوجوب العمل بخبر الواحد.

والجواب عن هذه الشبهة- وان كان يظهر مما تقدم ذكره في البحث- لكننا نفصل ونقسم تفاصيل الاعتقادات إلي قسمين: -

أحدهما: المعارف التي تتعلق بعالم المادة وشئون الدنيا نحو: ان تحت الارض كذا أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال القرون الماضية وكيف كانت حياتهم ولم يقل احد بوجوب الاعتقاد

بها حتي وان حصل العلم بها.

والثاني: - التفاصيل المتعلقة بأفعال الحق سبحانه، وكيفية خلقه ونحو أفعاله، وما هو مرتبط بعالم الغيب من مختلف المعارف، وهذه يجب الاعتقاد بها، لكن في حالة حصول العلم او قيام الحجة المعتبرة وقد جعلها المتقدمون كالصدوق والمفيد من قسم العقائد.

والدليل علي ذلك مضافاً إلي أنه مقتضي عموم أدلة الحجية التعبدية- لو ثبت شمولها- عدم تعليق وجوب الاعتقاد بها علي خصوص العلم، وإيجاب الاعتقاد بتوسطها، ولو بدرجة العقد الظني: -

إنه هناك الكثير من الايات التي توجب الايمان بالغيب مطلقاً بل تذكر ان الايمان بالغيب من الصفات الممدوحة في المؤمنين، وإذا كان الملتزم بالغيب علي نحو الاجمال ممدوح فتدل علي عموم موضوع الأدلة الاولي، لمن قامت لديه ادلة تفصيلية علي هذا الغيب فإن الإيمان بذلك يكون واجباً.

ان مقتضي الايمان بالنبي صلي الله عليه و آله ورسالته هو التسليم بكل ما صح عنه وبكل ما ثبت نسبته اليه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 30

ان هذه الروايات تتناول صفات الحق وحكمته وأفعاله التي دلّت الأدلة العامة علي لزوم الاعتقاد بها مع أن الاعتقاد بهذه التفاصيل لا ريب في رجحانه ويزيد من قوة الايمان وهو مصحح للحجية.

ان بعض الروايات الواردة في بعض التفاصيل قد صرحت بوجوب الاعتقاد بها كالرجعة. وهذه لا خصوصية لها فيعم الحكم جميع التفاصيل كعذاب القبر والبرزخ ونحوهما، ولا يتوهم الدور كما لا يخفي خصوصا اذا ضممنا الي ذلك ان الكثير من التفاصيل ثبت بروايات مستفيضة.

إنه قد وردت روايات كثيرة في كفر- وإن لم يكن بالمعني الخاص الاصطلاحي- من جحد ما تقوم به الحجة في بعض الضروريات ولا يعتقد بها وخصت الحجة بنقل الثقات «1».

ثم إنه لو فرض الشك في وجوب الاعتقاد وعدم قيام

الدليل فانه لا يسوغ الرد عقلا ولا شرعاً إذ بينهما مغايرة.

اما عقلًا وذلك لعدم قيام الدليل علي النفي فاذا ردّ وجزم بالنفي فيكون كذباً لعدم قيام الدليل علي النفي حتي لو كان رده صحيحا.

اما شرعاً فلأن احتمال الصدور من الشارع وارد فمع احتمال الصدور كيف يجوز الرد وقد ورد في رواية زرارة عن ابي عبد اللَّه عليه السلام: لو ان العباد اذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا «2»

.ثم قد يورد اشكال ثان حاصله ان المطلوب هو الاعتقاد وهو جزم واذعان فكيف يمكن تحصيل ذلك من الظن؟

وجواب هذا الاشكال واضح وهو ان الاذعان والجزم ذو مراتب، فقد يحصل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 31

من العلم والقطع وهو أعلي المراتب، وقد يحصل من الظن المعتبر فهو جزم إلا إنه ظني فالتفرقة في الفعل النفسي.

وقد يشكل اخيرا بالآيات الواردة في النهي عن اتباع الظن وخصوصا ان علماء الاصول حملوا هذه الروايات علي الظن في الاعتقادات وان المطلوب فيها اليقين.

وقد اجيب عن هذا باجوبة عدة:

منها: ان المراد من الظن المنهي عن اتباعه هو الظن الذي لا يرجع إلي اليقين اما اذا كان مدرك حجية هذا الظن قطعياً فلا مانع من متابعته.

ومنها: ان النهي من اتباع الظن وارد في اصول الاعتقادات اما في التفاصيل فلا يعلم ان الاية تنهي عنه.

ومنها: ان الايات واردة في ذم قسم من الناس الذين يرون المعاجز النبوية الثابتة ولا يؤمنون بها ويتبعون الظن وما جاءهم به اباؤهم. فالآيات واردة في ذم من يتبع الظن المقابل والمنافي لما دلّ عليه اليقين.

ومنها: ان الظن انما يذم اتباعه حيث يمكن تحصيل اليقين والعلم، اما مع عدم امكان تحصيل اليقين فان النوبة تصل إلي الظنون المعتبرة.

وبعبارة أخري أن المسائل في

المعارف كلما ترامت وابتعدت عن الاستدلال بالبديهيات وتوغلت في النظرية كلما قلّ وضوح يقينيتها كما هو مشاهد بالوجدان وكانت إلي الظن منها أقرب من اليقين، كيف لا وهذا ابن سينا يقرّ بالعجز عن إقامة الدليل العقلي علي المعاد الجسماني مع أنه من أصول الدين، ويتوسّل ببرهان اخبار الشريعة الحقة المحمدية بذلك.

ثم هناك نكتة مهمة يجب التنبه اليها وهي جواب ايضاً عما هو وارد في القرآن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 32

وهي ان الظن واليقين في اصطلاح القرآن «1» ليس هو طبقا للمتعارف الشائع من كونهما درجتين من درجات الإذعان بل المراد منهما ان المقدمات اذا كانت لا يصح الركون اليها وإن ولّدت احتمالًا فانها تسمي ظنا، واما اذا كانت المقدمات مما يصح الركون اليها فانه يعبر عنها باليقين.

ومنها: ما ذكره صاحب القوانين «2» ان الاستناد إلي دلالة ظواهر تلك الايات هو استناد إلي الظن أيضا فكيف يمكن الاستناد اليها.

اما ادلة عموم التعبد بخبر الواحد:

بالنسبة للآيات الواردة علي حجية خبر الواحد فان أهم آية دالة علي ذلك هي آية النفر. وفيها أنّ التفقه متعلق بالدين وهو يشمل الاحكام برمتها فرعية واصولية فمن يريد التفقه يجب أن يسعي للتفقه في كلا المجالين، والانذار كذلك يكون في الفروع والاصول غاية الامر وجد مانع من شمول الاية لاصول الاعتقادات- دون تفاصيلها- وهو المانع الخارجي الذي اشرنا اليه سابقا.

ومن ادلة حجية خبر الواحد السيرة وهي قائمة علي تعاطي خبر الواحد في تفاصيل الاعتقادات، بل هو مرتكز في وجدانهم كما نري في كتبهم، فهذا العدد الكبير الهائل من الروايات التي يرويها الرواة في تفاصيل المعارف شاهد عليه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 33

وهذه هي السيرة الفعلية، ويمكن التعبير عن السيرة بان لها اطلاق تقديري بمعني

إنه لو لم تكن لهم سيرة بالفعل قائمة علي العمل بخبر الواحد في التفاصيل، فان ارتكاز السيرة بنحو يكون مدعاة لتعميمه وعدم الردع من الشارع لهذا الارتكاز يعني امضاؤه له.

كما أن الأصوليين يستندون في حجية أخبار الآحاد إلي روايات مستفيضة مفادها مثل أن السائل يسأل الإمام عليه السلام فلان ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فيجيب الامام عليه السلام بالايجاب.

واخذ معالم الدين شامل للفروع والاصول.

اما بالنسبة لحجية الظواهر:

فقد اشار الكثير إلي ان حجية الظواهر ليس امرا متنازعاً فيه، وهذا يعني ان الدليل علي حجيتها هو القطع بتقريب ان الشارع لم ترد له طريقة أخري في التعامل مع المكلفين غير الطريقة القائمة فيما بينهم وهو الاعتماد علي الظواهر. وأن كثيراً من المعارف الالهية وتفاصيلها قد ورد في القرآن الكريم ولم تكن للشارع في تفهيم القرآن طريقة غير طريقة أهل المحاورة فهذا يثبت حجية الظواهر في المعارف أيضا.

وقبل ان نختم البحث في هذه المقدمة نشير إلي نكات مهمة: -

ان هذه المقدمة والتي تليها تبرز أهمية ان البصيرة في هذه المباحث توجب حصول بصيرة في كثير من المجالات والعديد من المخاصمات في تفاصيل الاعتقادات.

من المقرر في علم الاصول ان حجية خبر الواحد والظواهر منوطة بالفحص عن المعارض، والأمر هنا كذلك بل الفحص عن المعارض في تفاصيل الاعتقادات يكون أشد واخطر واهم لكثرة القرائن المنفصلة في هذا الباب ومنها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 34

القرائن العقلية فلا بد من الخوض في البحوث العقلية بمقدار كافٍ حتي يمكن فهم كثير من الروايات.

ان الاحكام الشرعية الواردة في التفاصيل حكمها علي وزان الفروع فما كان منها ضروري فإن عدم الايمان به وردّه حكمه حكم الارتداد، وغيره قد يوجب الفسق في حالة التقصير.

المقدمة الثانية … ص: 34

ونتناول فيها البحث

حول الميزان واصول الادلة في علم العقائد.

ونستعرض فيها العلاقة القائمة بين العلوم وما يرتبط منها في بحث العقائد.

فما هي اصول العقائد؟

يطلق الاصل علي معان عدة فقد يطلق ويراد به الاساس للشي ء، وتارة يطلق ويراد به ما هو السبب للمسبب. وفي الاصطلاح عندما يطلق علي ما يعتبر اصلا لعلم اخر فانه يقصد به العلم الذي يتكفل ايضاح منهجية علم آخر وتهيئة قواعد لا تدخل نفسها كمواد في قياس ذلك العلم. ومن هنا تفترق القواعد الفقهية عن القواعد الاصولية بالنسبة لعلم الفقه فإن القاعدة الفقهية بنفسها تدخل في استنباط الحكم الشرعي فيستفاد منها في باب التطبيق، بينما القاعدة الاصولية لا تحضر بنفسها في الفقة بل هي تحدد المنهج الذي يجب اتباعه في الاستنباط.

وبالنسبة للعقائد يمكن القول ان القواعد العامة التي تذكر في علم الكلام أو الفلسفة يتم تطبيقها في الالهيات فتكون من قبيل القواعد الفقهية، ويمكن التعبير عن التطبيق بالقول «ان المحمول بنفسه يأتي في النتيجة».

وعلي كل ففي اصطلاح أهل الفن يطلق الاصل ويراد به احد هذين المعنيين.

والغرض هنا هو البحث حول اطلاق اصول ادلة العقائد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 35

هل يراد بالاصل ما يبحث في منهجية الاستدلال ام يُراد به ما يرادف القواعد الفقهية؟

والجواب عن هذا التساؤل:

إنه اذا اطلق الاصل هنا واريد المعني الأول فالعلم الباحث عن منهجية الاستدلال في العقائد هو علم اصول الفقة.

والسر في ذلك اننا ذكرنا فيما سبق ان المقصود بالاحكام الشرعية لا يخص الفرعية (عبادات ومعاملات) بل يعم ويشمل العقائد اصولا وتفاصيلا طبقا للتصوير السابق ذكره. وعلم اصول الفقة هو الباحث عن معيار الحجة في استنباط الاحكام الشرعية وبالتالي يتدخل في العقائد. ويشهد لذلك ان المتكلمين «حتي ان القيصري في مقدمات شرح الفصوص

بحث مفصلًا بالملائمة بين الكتاب والسنة والكشف. وهو بحث اصولي محض» عندما يتطرقون في بعض مسائلهم إلي كيفية الاحتجاج لحجة معينة يستعينون بما تم تصويره وتحريره في علم الاصول. بل ان صدر المتألهين مبتكر الحكمة المتعالية كثيرا ما يتعرض لمنهجة الملائمة بين الوحي والعقل ومتي يقدم كل واحد منها وما هو مدي كل منها.

* أصول الفقه والمنطق: من الضروري جداً بيان الفارق بين العلمين وأن لا تعارض بينهما، ولا يكون علم الاصول بديلًا عنه بل يظل علم المنطق هو الباحث عن حجية الادلة العقلية فقط ويعتبر اصولا للفلسفة ويمكن التمييز بينهما.

أ- ان علم الاصول يبحث عن منهجة المعارف القلبية.

ب- إن في علم المنطق لا يبحث عن اساس حجية الدليل العقلي من حيث المواد وإنما يوصلها إلي البداهة أو اليقين، بينما يبحث عنه في علم الاصول.

ج- في المنطق لايبحث إلا عن الدليل العقلي بينما في الاصول يبحث عن الملائمة بين العقل والنقل والكشف.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 36

والحاصل أن كلا من العلمين يبحث عن الحجية حتي أن علم المنطق يشتمل علي صناعة كل من البرهان والجدل والثاني فيه حيثية الالزام فيقترب من علم الأصول وإن كانت حيثيته ليست للخصومة، إلا أن بينهما فوارق، ومن ثم أضحي علم الاصول منطقاً للعلوم الدينية وللمعرفة الدينية.

فعلم الأصول له دخالة في كل معرفة دينية وعملية استنباط يسعي اليها الإنسان لاستكشاف المجهول.

- ثم اننا عندما نذكر تقدم علم علي آخر لا نلتزم بذلك مطلقا، بل نقول أن من المتسالم عليه هو قاعدة التعاون بين العلوم فقد يكون علم مقدما علي آخر من حيثية، ويكون العلم الثاني مقدما علي الأول من حيثية اخري.

2- وان اريد بالاصول القواعد الفقهية وهو المعني الثاني فيعتبر علم

الفلسفة هو اصول العقائد- هكذا قيل-.

لكن الصحيح ان جميع القواعد العامة التي حررت في علم الكلام، وفي مقدمات التفسير، وروايات المعارف والبحث فيه كلها تكون اصلا لعلم العقائد.

ومن هنا نشأت مدارس مختلفة في ارساء وتحرير القواعد العامة التي يحتاج اليها الباحث في علم العقائد. وهي عديدة: -

منها مدرسة المشائين: والتي اعتمدت العقل كأساس لتفسير العقائد والايمان بها ولا يوجد منبعا آخر لا نقلا ولا كشفا، واساس هذه المدرسة الفلسفة اليونانية وتبناها منهم ارسطو.

ومنها مدرسة الاشراقيين: وهي أيضا متأثرة بالفلسفة اليونانية والتي تري ان نيل المعارف الربوبية يكون عن طريق الاشراق والكشف الذي يتنزل إلي العقل. وبهذا تتميز هذه المدرسة عن المدرسة العرفانية اذ لاتشترط ان تتنزل المعارف القلبية علي العقل، بينما تشترطه الأولي واشتهر قول شيخ الاشراق لولا العقل والقلب لما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 37

أمكن الوصول إلي هذه المعارف.

ومنها المدرسة العرفانية: والتي تري عجز العقل عن الوصول إلي المعارف العالية تماماً بل يصل الإنسان إلي المعارف عن طريق المجاهدات وتصفية القلب، فينجلي امامه المجهول وتنكشف امامه الحقائق.

ومنها مدرسة المتكلمين: الذين حاولوا الربط بين العقل والنقل، لكنه يركز فيه علي ما ورد في الشريعة ويحاول بعدئذ اقامة الدليل العقلي عليه، ويحرص علي موافقة الحكم المستنتج من العقل لما عليه الشرع.

ومنها مدرسة الحكمة المتعالية: وهي قمة ما وصل اليه متأخرو الفلاسفة وقد ظهرت من تحقيقات صدر المتألهين الذي حاول الجمع بين المدارس المختلفة لتظهر خلاصة تحقيقات المتقدمين، فوافق بين العقل والعرفان وجعل محورهما هو الوحي وحاول الملائمة بينها.

ومنها مدرسة المفسرين: حيث انها ترجع إلي ظواهر القرآن لاستلهام مجموعة من القواعد في المعارف الالهية.

ومنها مدرسة التفكيك: والتي ظهرت علي يد الميرزا مهدي الأصفهاني حيث قامت بالتفكيك بين العقل

المحدود والعقل اللامحدود وهو الوحي والاعتماد اساساً علي القرآن.

ومنها مدرسة المحدثين: وهذه استقت معارفها الالهية من الاحاديث والروايات فحرروا مسائل كثيرة لم تذكرها المدارس السابقة وقد برز منها المجلسيان وصاحب الوسائل 0 وصاحب تفسير البرهان …

فهذه المدارس كلها وغيرها مما ظهر وانتشر كان هدفها ابتكار ارفع الأساليب وأسلم المناهج للوصول إلي المعارف الإلهية.

ولا يمكن القول بالاقتصار علي لغة مدرسة منها والاكتفاء بها بل كل مدرسة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 38

امتازت بقواعد حررتها لم تهتد اليها المدرسة الاخري، فاذا كان المراد من الاصل هو المعني الثاني فيجب ان تشمل الدراسة كل القواعد التي دونت دون الاقتصار علي بعض منها في سبيل الوصول إلي معارف الوحي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 39

المبحث الأول: حجية الكتاب الكريم … ص: 39

اشارة

من بديهيات الفكر الإسلامي حجية الكتاب وأنّه المعجزة الخالدة وخاتم الرسالات الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد أسهب الاصوليون في هذا البحث ورد الشبهات ومناقشة الاخباريين وغيرهم ممن فصل في حجيته فلا نعيد الكلام فيه وانما نتعرض إلي نقطتين:

1- نظرية تفسير القرآن بالقران والتي نادي بها العامة وبعض الخاصة، وآخرهم العلامة الطباطبائي.

2- كيفية الملائمة بين حجية الكتاب والسنة والعقل.

اما النقطة الاولي: تفسير القرآن بالقران..

وتعتبر هذه النظرية في الطرف المقابل لنظرية المحدثين والتي تقضي بعدم امكان التفيسر إلا بالرجوع إلي الروايات والاحاديث.

اما العلامة الطباطبائي فانه يري ان القرآن فيه بيان كل شي ء، وفي تفسير كل آية يجب الرجوع إلي الآيات الأخري التي توضح المراد والمقصود، فمثلا قوله تعالي: «الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» «1»

يشتبه المراد من كيفية الاستواء لكن اذا رجع إلي قوله تعالي: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» «2»

علم ان المراد من الاستواء هو

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 40

التسلط علي الملك والاحاطة علي الخلق دون التمكن والاعتماد

علي المكان الذي يستلزم التجسيم المستحيل.

ولم يكن العلامة في نظريته منفرداً بل متبعاً لطريقة أهل البيت: فإنهم قلما يفسرون آية من دون ذكر اية أخري توضح المراد منها. وكأنهم يرشدون أتباعهم إلي كيفية تفسير القرآن والتدبر في آياته بالاستفادة من الآيات الأخري في تفسير ما ابهم من المعاني.

ويضيف أن ما ورد في تقسيم آيات القرآن إلي المحكمات والمتشابهات لا يعني أن الاية في نفسها مبهمة ولا يتضح منها معني البتة، بل ان التشابه هو بلحاظ فهم السامع والقاري ء وتردده بين معني وآخر بحيث لايتعين المراد منها إلا بالرجوع إلي آية محكمة والتي هي بمنزلة الأصل الواجب الرجوع اليه عند تردد المعاني في المتشابهات.

وحصول التشابه لدي السامع او القارئ امر طبيعي، ومرجعه انس الإنسان بالامثلة المادية المحسوسة فيحمل الالفاظ لا علي معانيها بحدها الماهوي بل يخلط بها المصداق المألوف لديه فيختلط عليه المراد، اما اذا التفت إلي أن الألفاظ موضوعة لروح المعاني دون النظر إلي المصاديق التي هي عرضة للتبدل والتغير، ارتفع لديه الاختلاط، فمثلا السجود موضوع لمنتهي الخضوع والخشوع وليس موضوعا للهيئة الخاصة المتداولة وعندها يمكن فهم امر الحق تعالي ملائكته بالسجود لادم.

وقد يشكل عليه بأن هذه الطريقة من التفسير هي ضرب القرآن بعضه ببعض، وقد نُهي عنها صراحة في قول الصادق عليه السلام ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 41

إلا كفر «1»، وغيرها.

ويجيب عن ذلك بأن المقصود بالضرب هو التفسير بالرأي الذي يؤدي إلي اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ودفع مقاصد بعضها ببعض.

ويستدل العلامة علي نظريته بأدلة وشواهد عدة:

منها: ان القرآن وُصف بأوصاف متعددة منها إنه نور، وهدي، ومبين، وفرقان، وان فيه بيان لكل شي ء وهذه كلها تدل علي

عدم اغلاقه وإنه لا يحتاج إلي مفسر خارج عنه.

ومنها: أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تحدي به الرسول صلي الله عليه و آله كافة الناس ان يأتوا بسورة أو آية مثله، ومقتضي التحدي كونه واضحاً غير مبهم فهو يبين نفسه بنفسه.

ومنها: وردت روايات عديدة ترشد إلي كيفية تمييز الحجة عن اللاحجة من الروايات بالعرض علي كتاب اللَّه، فهذا يعني ان في كتاب اللَّه البرهان الواضح والمفاهيم الساطعة التي يمكن فهمها وعرض الروايات عليها.

ومنها: قوله تعالي: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً» «2»

تدل علي امكانية نيل المعارف القرآنية وأنه لا معني لارجاع ذلك إلي بيان السنة لان ما بَيّنه إما أن يكون معني يوافق ظاهر الكلام أو ان يكون معني لا يوافق الظاهر، فإن كان الأول فهو مما يؤدي اليه اللفظ ويمكن التوصل اليه ولو بعد التدبر، وإن كان الثاني فهو مما لا يلائم التحدي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 42

ومنها: ما ورد من الروايات التي كالنص في ذلك كرواية الباقر عليه السلام فمن زعم ان كتاب اللَّه مبهم فقد هلك وأهلك «1».

ومنها: ما ذكره في حاشيته علي الكفاية.

- ان حجية السنة منبثقة عن حجية الكتاب فبينهما طولية حيث قد ورد في القرآن حجية السنة «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ …» «2» «وَلَكُم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «3»

.- ويري ان قوله: «إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» «4»

: يعني أنه لا يبطله شي ء وبالتالي لا ينسخ القرآن إلا بالقران أما ما اتفق عليه العامة والخاصة من امكانية النسخ بالسنة القطعية فمدفوع بهذه الاية.

تقييم نظرية العلامة: - … ص: 42

إن أصل ما ذكره العلامة متين ونوافقه عليه،

لكن النتائج التي رتبها علي ذلك من استقلال الإنسان في تفسير القرآن بالقرآن بعد معرفة طريقة أهل البيت هذا غير صحيح، حتي أنه رضوان اللَّه عليه لم يتبع ذلك في تفسيره.

وما ندعيه هو أننا دائما في تفسيرنا للقرآن نحتاج إلي الرجوع إلي السنة الشريفة، لأن المعصوم هو القيّم والحافظ للقران بدليل حديث الثقلين «5»،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 43

والرجوع اليهم لا يعني نقصاً أو تقليلا من حجية القرآن، فلقد قُرر في علم الاصول ان حجية الظواهر انما تكون بعد استفراغ الوسع في البحث عن القرائن المنفصلة سواء من القرآن او السنة القطعية او المعتبرة او من القرائن العقلية.

ولتقريب الفكرة نضرب مثالًا في علم الرياضيات؛ حيث أنه من العلوم المستقلة التي لا تعتمد علي علوم أخري، ويحتوي علي بديهات ونظريات ومعادلات، لكن هل الجميع علي حد سواء في هذا العلم؟ بالطبع لا، فالأفهام تتفاوت والعقول تختلف ودرجات الادراك ليست علي حد سواء، فيحتاج إلي قيّم وحافظ يدرك كل شي ء ولا تستعصي عليه مسألة ولا يكون هذا القيم إلا من اتصل بعالم الغيب ونهل معرفته من العقل المحيط، كما نري في أجوبة مسائل امير المؤمنين في باب الارث.

وعليه فإنا نقول إن الافهام بما انها متفاوتة في فهم القرآن واستظهار معانيه لذلك يحتاج إلي قيّم وحافظ، فهمُه محيط بكل معاني القرآن فيُسترشد بفهمه دائما

واما ما استدل به العلامة: -

من الدعوة إلي التدبر الواردة في القرآن فيجاب عليها: بأن التدبر المشروط لا ينافي التدبر، والشرط هو الاسترشاد بروايات أهل بيت العصمة، بل ان العلامة كما ينقل من سيرته لم يبدأ التفسير حتي قرأ بحار الأنوار قراءة دقيقة بتفحص ثم بدأ في تفسير القرآن وما ذاك إلا من أجل مراعاة خط

أهل البيت وفهمهم في تفسير القرآن.

نعم الدعوة إلي التدبر تقع في قبال السلب الكلي الذي ادعاه الاخباريون من عدم امكانية فهم القرآن إلا من خلال الروايات.

* واما الاعجاز والتحدي فهو ممكن لكنه غير مشروط بأن يصل فهم الكافرين إلي كل بطون وأسرار القرآن بل مع الفهم البسيط إلي بعض أسرار القرآن وعجزهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 44

عن الاتيان بمثله اكبر دليل علي إعجاز القرآن وأنه من عند اللَّه. بالاضافة إلي أن جهات الاعجاز في القرآن كثيرة لما يحتوي من اسرار الخلق وشؤون النظام والمعارف العقلية. وهذا كله دليل علي ضرورة وجود القيّم والحافظ للقران الذي يرشد إلي تلكم المعارف، ويأخذ بيد المتعلم والمتدبر إلي بطون القرآن التي لا تنالها الافهام العادية.

* وما ذكره من أن جميع الحجج منبثقة من الكتاب أمر لا ينكر لكنه لا يعني انحصار حجية السنة بالكتاب، وذلك لأن المعجزات الاخري للرسول صلي الله عليه و آله تثبت رسالته وحجيته كما هو الحال في بدء الدعوة، بل إن في بعض الآيات ما يشير إلي حجية الكتاب وصدق ما أنزل بتوسط صفات النبي صلي الله عليه و آله من الصدق والإمانة «.. أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ..» «1» «.. فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً..» «2»

، وكذلك حجية كلام الائمة عليهم السلام يعلم بمعجزاتهم وبليغ خطابهم واخبارهم عما هو مجهول في ذلك العصر، وإلي قرون متمادية لاحقة.

* أما ما ذكره من روايات عرض السنة علي الكتاب، فقد تقرر في علم الأصول بان السنة بعضها قطعي ولا معني للعرض، اما الخبر الظني الصحيح فمعني عرضه هو عدم مباينته للكتاب وليس المراد الموافقة التفصيلية وكذلك يعرض علي السنة القطعية.

واما حديث النسخ وامتناعه فهو غريب منه لأن

القرآن قد صرح بصدق الرسول وحجية خبره فما المانع من النسخ.

ونورد عليه نقضا بأن القائلين بهذه النظرية متعددون من العامة والخاصة، ومع ذلك لا نراهم يتفقون في تفسير الايات، وهذا الاختلاف إما راجع إلي الخطأ في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 45

المنهج أو خطأ في التطبيق، اما الأول فذكرنا إنه صحيح في نفسه فتبين ان الاختلاف راجع إلي الثاني حيث يجب الاسترشاد بالروايات لا الانعزال التام عن السنة، حيث ان المنهج وحده لا يوجب العصمة في التطبيق.

* وقد أرشد القرآن الكريم إلي حَفَظَته بقوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ» «1»

فهم الحافظون للكتاب المطلعون علي أسراره وبدونهم لا يمكن الاهتداء إلي بطونه ولا يمكن التدبر في آياته.

تنبيه: - يجب التفرقة بين طائفتين من الروايات احداهما هي الروايات المبينة لتفسير الآيات فمعها لا يمكن الاعتماد علي الظاهر القراني، والاخري هي الروايات المتعرضة للتأويل التي لا تمنع من حجية الظاهر بل يبقي الظهور علي حجيته.

النقطة الثانية: في الملائمة بين الحجج وقد ذكرت في ذلك نظريات متعددة، والذي نراه أن الكتاب والسنة والعقل حجج متكافلة متضامنة فيما بينها تشير جميعها إلي حقائق واحدة، ويجب الرجوع في كل منها إلي المحكم منها لا المتشابه، ويجب الابتداء بالعقل لأن اليه ترجع كل الحجج وليكون هو الاساس.

والاسترشاد بالادلة الواردة في القرآن الكريم في باب التوحيد. والسر في ذلك ان العقل مع كونه هو المبدأ في حركة الارادة إلا إنه ليس بالعقل المحيط ولا المرتبط بالوحي، فيجب حتي يأمن الخطأ ويسير في الجادة الصحيحة أن يرتبط بالوحي وهو علي نحوين احدهما القرآن الكريم والاخر هو السنة النبوية والمعصومة.

وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 47

المبحث الثاني: حجية السنّة … ص: 47

اشارة

وكما تقدم في حجية

الكتاب ليس البحث في اصل حجية السنة فإنه موكول إلي مباحث أخري من علم الكلام وإلي علم الأصول بل البحث في نكات جانبية لم يثرها الاصوليون: -

أولًا- اقسام الحديث: … ص: 47

ذكروا للحديث اقساما متعددة منها المتواتر والمستفيض والاحاد وقسموا الاخير إلي اقسام منها الصحيح والحسن والموفق والضعيف والمعلل …

وليس الغرض التعرض إلي هذه الاقسام فهو موكول إلي علم الدراية بل الإشارة إلي عدد من المطالب يجب ملاحظتها في العمل الروائي: -

أ- ذكروا في تعريف المتواتر انه اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم علي الكذب، وقد قسم المتواتر إلي لفظي ومعنوي واجمالي- كما نبه اليه المحقق الخراساني- وقد ذكروا ان تعدد الجماعة يجب أن يكون في كل الطبقات وان اختلفوا في تحديد العدد المطلوب «1»، لكن الصحيح هو عدم التعبد بعدد معين بل الضابطة هي امتناع التواطي ء علي الكذب.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 48

وهذا يعني ان انتاج المتواتر انما يكون لضابطة رياضية وقلة احتمال الكذب بل انعدامه في بعض الصور. وما دام انتاج الخبر المتواتر للعلم عبر تلك الضابطة الرياضية فاننا نخلص إلي عدم اشتراط تساوي دائرة التواتر في كل الطبقات، بل قد يكون في بعض الطبقات واسع الانتشار بينما ينحسر ذلك في دائرة أضيق في الطبقات الاخري فيقتصر علي فئة معينة او باصحاب مسلك معين وهذا لا يخدش في التواتر. والسر في ذلك ان احتمال الكذب كما يتأثر بالجانب الكمي كذلك يتأثر بالجانب الكيفي الذي يعرف بتمييز طبقات الرواة وكيفية اختلاطهم والوضع السياسي والاجتماعي لكل طبقة، ومن هنا نخلص إلي أن وجود تواتر بدائرة معينة في حديث ما في طبقة معينة وهي الأولي وانحسار تلك الدائرة من التواتر في الطبقات الاخري لا يمنع من اعتبار الخبر متواتراً، اذا اخذنا بعين الاعتبار

تلك الجهة الكيفية، فتحصل ان التواتر علي درجات فقد يكون واسع الانتشار بين الناس وقد يختص بطبقة دون أخري وبفئة معينة دون أخري، لكن ذلك كله لا يخدش بالتواتر وتحققه ضمن دوائر متعددة تختلف سعة وضيقاً.

ويمكن تمثيل ذلك بعلم اللغة من صرف ونحو وبلاغة … فان التواتر بدائرته الوسيعة التي كان عليها في عموم من ينطق بالضاد في طبقات عديدة متأخرة قد انقطع وانحصر وجود التواتر بالدائرة المزبورة بالطبقات الأولي، وأما وجود التواتر في الطبقات اللاحقة فهو بدائرة أهل الاختصاص بالأدب اللغوي، وهم الحاملون لتراث اللغة عن الاندراس بكامل خصوصياته جيلًا بعد جيل. وهذا لا يمنع من ثبوت اللغة وشواهدها بالتواتر ولو ضمن طبقات أهل الاختصاص الادبي. وكذا الحال في بقية الاختصاصات والفنون.

فمن ثم قسموا الضرورات في العلوم وعلم المنطق إلي ضرورات عامة عند عموم الناس وضرورات خاصة عند خصوص شرائح معينة. وهذا يدل علي عدم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 49

اشتراط حصول التواتر بدائرة ثابتة في جميع الطبقات حتي الآن بل يكفي حصوله بأي دائرة في البعض مع مراعاة ضابطة التواتر.

وبتعبير اخر اذا حصلت ضابطة التواتر في طبقةٍ فإن عدم حصوله بتلك الدائرة بعينها في طبقات أخري لا يخدش في ذلك، ولا يمكن الاستدلال علي عدم قطعية الحديث وبطلانه بعدم التواتر بدائرة ثابتة في بعض الطبقات وجهل كثير من الناس له والأمثلة علي ذلك متعددة. فإن هناك دوائر من التواتر علي نطاق البشرية جمعاء، وتواتر علي نطاق المسلمين خاصة، وتواتر علي نطاق الطائفة الإمامية، وهلم جراً مادامت شرائط التواتر منحفظة في الدوائر المختلفة، وإن كانت بين درجات الضرورة والتواتر المتعددة اختلاف كبير، ولا يخفي أن جهة بحثنا هذا هو من زاوية النقل والصدور، لا من زاوية

مضمون المنقول وتمامية موازينه.

ونتيجة لما تقدم لا وقع للتعجب من تتواتر الخبر الواصل إلينا وإن اضيقت دائرة التواتر وهذا ما نراه في بعض الأحاديث التي هي مواد خلاف بين المسلمين كحديث الغدير والثقلين حيث نجد أن دائرة التواتر في الصدر الأول واسعة ثم تنحسر هذه الدائرة في العصور المتأخر حتي تكاد تقتصر في نطاق ضيق لدي المتخصصين في هذا الفن.

وأخيراً نشير إلي أن التواتر علي درجات كما أن اليقين والجزم علي درجات واختلاف الدرجات لا يعني عدم التواتر.

ب- ان النقطة المهمة في التواتر هو التكرار الذي يحصل في روايات مختلفة وهذا هو المحصل للتواتر اللفظي والمعنوي والاجمالي. ومن هنا تبرز اهمية الأخبارالضعيفة (غير الموضوعة او المدلسة) حيث انها تمثل المادة والمنبع الذي يحقق التواتر.

فما يدعيه البعض من وجوب غربلة الاحاديث وترك الضعيفة والاقتصار علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 50

الأخبارالمعتبرة فقط حديث لا أساس له من الموازين العلمية والصحة ودعوي جهالة، ويمكن ابراز فوائد تلك الأخبار فيما يأتي: -

1- ان الاخبار الضعيفة تمثل مادة ومنبع المتواترات.

2- ان الأخبارالضعيفة اذا كانت محفوفة بقرائن توجب الوثوق بالصدور تجعلها معتبرة يعتمد عليها.

3- ان المطالع والمتتبع في تاريخ البشرية يلاحظ أن اعتماد الناس علي الخبر الضعيف بلحاظ التواتر او الاستفاضة، وهذا هو الذي يجعل الخبر موثوقاً بصدوره، وخير مثال علي ذلك الإخبار عن الأمم والقرون الماضية، حيث ان مادتها الأولي اخبار لا ترقي الي الصحاح مع قبول الناس لها بلحاظ ما تفيده من الوثوق بصدورها. وتحليل ذلك يعود الي ما يسمّي بعملية حساب الاحتمال وتصاعده البالغ لذلك الحد من الوثوق طبقاً للقواعد الرياضية البرهانية.

4- إن المباني في قبول الأخبار مختلفة ومتنوعة، فكم من خبر رفض الشهيد الثاني العمل به بينما صححه

المتأخرون خصوصا بعد بزوغ طريقة التحليل المشابه للتحليل التاريخي، والاستفادة من طبقات المحدثين التي ابتكرها السيد البروجردي والمحقق الاردبيلي صاحب جامع الرواة. وعليه لا يمكن اعتمادها ضابطة عامة لتضعيف الخبر فالضابطة اجتهادية.

5- ان الخبر الضعيف (الذي لا يُعلم وضعه او تدليسه) يحرم رده وإن لم يجب العمل به، إذ بين حرمة الرد والحجية فرق، كما حرّر في علم الحديث والاصول، ولم يخالف في هذا الحكم أحد، وتلك الغربلة تعني الرد.

6- ان الخبر الضعيف ان لم يجب العمل علي طبقه فإنه يفيد في مواطن عدة من باب توليد طرح الاحتمال، فهو ليس بأقل- بل يفوق- استدلالًا منقول عن احد الحكماء أو العلماء السابقين، فأي ضرر فيها ان اعتبرت اشارتها إلي احتمال من

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 51

الاحتمالات.

ج- ان الخبر الضعيف لا يساوي الخبر الموضوع او المدلس وهذه نكتة قل الالتفات اليها، وهي احدي الاسباب التي ادت إلي ترك الأخبارالضعيفة. فاننا نسلم ان الأخبار الموضوعة المدلسة يجب طرحها واهمالها وتركها إذا عُلم وضعها وتدليسها حيث اتفق علي أنه اذا ثبت كون حديث موضوعاً حرمت روايته لكونها اعانة علي الاثم واتيان للفرية في الدين، وأما ما كان ضعيف السند غير الموضوع فلا بأس بروايته مطلقاً، نعم العمل علي طبق مافيه يحتاج إلي جبر الضعف «1»، وقد وضع العلماء اعلي اللَّه مقامهم طرق وقرائن لكشف الحديث الضعيف الموضوع عن غيره فمثلًا مجرد اتصاف الراوي بالكذب لا يعني وضع الخبر، فإن الكذوب قد يصدق، كما في وهب بن ابي وهب. كما انا نلاحظ ان طائفة كبيرة قد وصفت بالكذب لمجرد روايتها لأخبار المعارف.

فما ثبت وضعه وتدليسه من الأخبارالضعيفة يجب ردها وتركها اما الأخبار الضعيفة كلها فلا يجوز ردها خصوصاً ان لدينا

ضوابط سهلة يمكن بواسطتها تمييز الوضع والتدليس كعرضها علي المحكمات في الكتاب والسنة والعقل. وبالتالي لا يكون نقل الاحاديث الضعيفة تغريراً علي المسلمين حيث ان الخبر الضعيف مهما بلغ شأنه لا يمكن ان يحرف المسلمين عن جادة المحكمات في الحجج الثلاث.

ومن هنا تساهل القوم في نقل الضعاف لما لها من فوائد جمّة في الحجية، ولا مجال لتوهم اتحادها مع اخبار الوضع والدس «2».

د- إن المسألة المهمة التي يجب الالتفات اليها هي مسألة تجميع القرائن حتي يوثق بصدور الرواية عن المعصوم، حيث من النادر ان تكون قرينة واحدة كافية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 52

لاثبات الصدور بل تتجمع القرائن من هنا وهنالك. وهذا علي غرار ما ذكرناه في بحث الرجال أن المشيخة أو ورود الراوي في أحد الاصول المعتمدة كلها قرائن مع اجتماعها تفيد التوثيق لا أن كلا منهما بمفرده يفيد التوثيق.

وهذا ايضاً علي غرار ما ذكر في بحث الاجماع حيث ذكر الشيخ تبعا لصاحب المقابيس أن قيمة الاجماع بكونه جزء الحجة تنضم إلي الحجج الاخري لا أنه حجة مستقلة.

ومن القرائن التي تذكر في هذا الباب الشهرة العملية والروائية بل حتي الفتوائية وهي ممكنة الحصول في باب الاعتقادات من ملاحظة كتاب الاعتقادات للصدوق والامالي، والشهرة وإن نوقش في مدي جبرها للضعف، لكن علي ما ذكرناه في المقام تكون قرينة من القرائن لا انها قرينة مستقلة.

ومنها: ان يرد الخبر في بعض الكتب المعتبرة ككتب صفوان بن يحيي او محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الزيات، والحسن بن محبوب المعروفين بضبطهم.

ومنها إنه يروي الخبر راوٍ هو علي مذهب مخالف لما يرويه من مضمون.

وغيرها من قرائن توثيق الصدور المحرّرة في تلك المسألة.

ه- نشير اخيراً إلي قسم من اقسام الحديث هو المستفيض،

وهو الخبر الذي يقرب من المتواتر ويرتفع عن الآحاد، حيث أن رواته لم يبلغوا حد التواتر لكنه يكون مؤيدا ومدعوماً من جهة القرائن الداخلة والخارجة فيصبح مستفيضاً والخبر المستفيض أو الموثوق الذي بدرجته يصح الاستناد اليه كما هو مقرر في علم الأصول، بل درجة حجيته تفوق الخبر الصحيح.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 53

ثانياً: احوال الكتب الاربعة والمصادر الروائية: … ص: 53

وفي بحث الكتب توجد مسألتان يجب معالجتهما قبل الاستناد إلي اي كتاب:

اولا: إثبات نسبة هذا الكتاب إلي المؤلف.

وثانياً: اثبات ان هذه النسخة الواصلة الينا هي النسخة التي ألفها المؤلف، ولم تصل لها يد التحريف.

وعلم الدراية هو العلم المختص بمعالجة هاتين المسألتين، لكنهم لم يذكروا سبيل العلاج علي نحو مفهرس، لكنّا نستطيع عملًا اقتناص بعض النقاط لتوضيح منهجهم في العمل: -

1- الالمام بكتب الفهارس حيث أنها تختص بذكر كتب الطائفة واسماء مؤلفيها.

2- التعرف علي سلسلة اسناد وطرق صاحب الفهرست للكتاب أو صاحب المجاميع الروائية المتأخرة أو المتقدمة، فيُعرف انه لم يذكره في فهرسته اعتمادا علي الشياع ونحوها بل بطريق مسلسل مسند.

3- التعرف علي مدي اشتهار الكتاب بين طبقات المحدثين والفقهاء وذلك بملاحظة: -

أ- سلسلة الاجازات المعروفة كإجازات العلامة المجلسي، واجازة العلامة الحلي لابن زهرة، وكذلك اجازات صاحب الوسائل.

ب- متابعة كتب الاستدلال في الاحكام الفرعية- بحسب القرون المتعاقبة- حيث يعلم منها مدي اشتهار الكتاب، وهذا يفيدنا فيما نحن فيه باعتبار ملاحظة روايات الاعتقاد المذكورة فيه.

4- من خلال ملاحظة المجاميع الروائية في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، فانه يعلم منها ان لكل منها طريق خاص إلي الكتب الروائية الأم مع افتراق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 54

اصحاب ومؤلفي المجاميع بين الامصار، ومنه يُعلم مدي اشتهار تلك الكتب الروائية وتوفرها بين المحدثين.

5- مراجعة النسخ المختلفة الخطية وغيرها وعدم الاكتفاء

بما هو مطبوع منها.

6- ملاحظة الحواشي والتعاليق والتملكات الحاصلة علي النسخ الخطية حيث يتبين من خلالها مدي معروفية النسخة وموثقيتها.

7- يجب علي المتتبع والباحث ان يلفق ويقرن بين الطرق المختلفة ويستعين بكتب مختلفة من اجل ان يحرز صحة رواية او صحة نسبة كتاب لمؤلفه، فمثلًا في العصور المختلفة إلي اصحاب المجاميع يستعان بكتب الذريعة، ورياض العلماء، واعيان الشيعة، وطبقات الشيعة وغيرها، ومن اصحاب المجاميع كالوسائل والبحار والوافي وتفسير البرهان وغيرها، ويستعان بما يذكره المؤلف في مشيخته او فهرسته او كتبه الاخري، وقد ترد طبقات مجهولة تقريباً وهي ما بين اصحاب الكتب الاربعة وما بعدهم فهذه يجب ان يتم التتبع والمقارنة والتلفيق بين كتب مختلفة.

ومثال ذلك رواية القطب الراوندي في باب ترجيح الروايات رواها صاحب الوسائل في باب 9 من ابواب صفات القاضي، ومشكلة هذه الرواية مع اهميتها ان صاحب الوسائل يرويها عن رسالة للقطب الراوندي في رسالة ألفها في احوال احاديث اصحابنا، ولم يرد ذكر هذه الرسالة في كلام مَن عدد وذكر مصنفات الراوندي، لا سيما تلميذه ابن شهر اشوب ومنتجب الدين، وقد توسل السيد الشهيد الصدر بطرق عدة للتصحيح هذه الرواية والتلفيق بين اسناد وطرق مختلفة «1».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 55

ثالثاً- العلم الاجمالي بوجود الدس: … ص: 55

من المسائل المثارة في علم الحديث هو دعوي وجود علم اجمالي بحصول دس ووضع في الاحاديث والروايات، وقد ذكرها الشيخ الانصاري في كتاب الرسائل في حجية خبر الواحد. ومن القرائن علي دعوي حصول هذا الدس: -

- ما ورد من روايات عن الائمة بوجود كذابين:

منها: ما رواه الكشي في ترجمة عبد اللَّه بن سبأ عن الصادق عليه السلام: انا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس،

كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله اصدق الناس لهجة واصدق البرية كلها وكان مسيلمة يكذب عليه «1».

- ما رواه في ترجمة المغيرة بن سعيد «2».

عن الرضا عليه السلام: ان ابا الخطاب كذب علي ابي عبد اللَّه عليه السلام لعن اللَّه أباالخطاب.

وعن ابي عبد اللَّه عليه السلام: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب علي أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان اصحابه المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من اصحاب أبي. فيدفعونها إلي المغيرة لعنه اللَّه، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلي أبي ثم يدفعها إلي اصحابه ويأمرهم ان يبثوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة ابن سعيد في كتبهم.

وقد وصف الرضا عليه السلام وهب بن أبي وهب البختري: لقد كذب علي اللَّه وملائكته ورسله.

وهذه القرائن وغيرها تكون محققة لعلم إجمالي بوجود الدس والوضع والتزوير في الأخبارالتي بين أيدينا، وهذا العلم الاجمالي هو الذي دعا البعض إلي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 56

ادعاء انسداد باب العلم بالاحكام عن طريق الاحاديث.

لكن في قبال هذا العلم الإجمالي بالدس يوجد لدينا علم ويقين بما سعي اليه العلماء والمحدثون في ازالة هذا الدس وهو يوجب زوال وانحلال العلم الاول وهذا العلم الثاني متولد من قرائن:

1- ما ورد من عرض الكتب علي الائمة.

منها: ما رواه الكشي عن داود بن القاسم ان ابا جعفر الجعفري قال: ادخلت كتاب يوم وليله الذي الفه يونس بن عبد الرحمن علي ابي الحسن العسكري عليه السلام فنظر فيه وتصفحه كله، ثم قال: هذا ديني ودين ابائي وهو الحق كله «1».

ومنها ما رواه الكشي «2» في ترجمة الفضل بن شاذان من ان ابا محمد عليه السلام دخل عليه حامد بن محمد- الملقب

بغورا- الذي بعثه الفضل بن شاذان فلما اراد ان يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف برداء له، فتناوله عليه السلام ونظر فيه وكان الكتاب من تصنيف الفضل، وترحم عليه.

ومنها: ما ورد في عرض كتاب سليم بن قيس علي السجاد عليه السلام.

ومنها: عرض كتاب ظريف بن ناجح في الديات علي ابي عبد اللَّه عليه السلام والرضا عليه السلام «3».

ومنها: ما ذكره الحر العاملي «4» حول عرض كتب يونس بن عبد الرحمن، وكتب بني فضال، والفضل بن شاذان، وعبيد اللَّه بن علي الحلبي علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 57

الصادق عليه السلام.

مضافاً إلي روايات كثيرة تثبت ان الاصحاب كانوا يعرضون كتبهم علي الائمة او نوابهم كالعرض علي الحسين بن روح، ويصححة الائمة او ينكرونه او يقبلونه.

2- ان اصحاب الكتب كانوا يدققون في الكتب والروايات ولا يودعونها إلا بعد ان يتيقنوا عدم الدس. كتشدد القميين في قبول الرواية، واخراجهم الضعاف او من يروي عن الضعاف من قم. وكاستثنائهم لروايات كتب الحديث كالذي استثنوه من نوادر محمد بن أحمد بن يحيي الاشعري وما نقل من تشدد محمد بن الحسن بن الوليد معروف. ومن يتصفح تراجم القميين يراه حافلًا بعملية تصفية وغربلة الأحاديث.

3- ما ورد في ترجمة العديد من الرواة من أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة كابن ابي عمير وغيره.

4- اهتمام الاصحاب بكتب الفهارس والتي غرضها تصحيح السند إلي صاحب الكتاب، وقد بدأ تصنيف الفهارس من الحسن بن محبوب.

5- ما ورد في طريقة رواتهم حيث لا يعتمدون علي التلقي فقط بل يروون عمن سمع من الثقات اما من وجد في الكتب فقط فيتحرزون في الرواية عنه حتي ان علي بن الحسن بن فضال لم يرو كتب ابيه الحسن

عنه مع مقابلتها عليه، وانما يرويها عن اخويه احمد ومحمد عن أبيه، واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلة الحديث عن ابيه كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالحديث.

وملاحظة ديدنهم في كتب الامالي، وما ذكره الميرزا النوري من ان التهذيب وصل اليه وعليه توقيع تلامذة الشهيد الثاني وأنهم قرأوه عليه وكذا ما ذكره الفخر في الايضاح عن التهذيب، يظهر مدي عناية المحدثين في النقل والرواية.

6- ما هو منقول في كيفية تصنيف كتب الحديث فالكليني قضي عشرين سنة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 58

في التصنيف، وهذه الفترة انما احتاج اليها لانه كان يدقق في الحديث وينتقي من بين الاحاديث.

7- ما ذكره اصحاب المصنفات كما في الفقيه وكامل الزيارات من انهم لا يكتبون من الاحاديث إلا ما يعتقدون حجيته بينهم وبين اللَّه. وانهم رووه عن المشايخ الثقات وقرائتهم عليهم من الكتب المعتبرة.

مضافاً إلي أن خصوص القرائن المولّدة للعلم الإجمالي الأول هي بنفسها مذيلة بما يوجب انحلالها، فإن الأئمة عليهم السلام كانوا علي ترصّد ومراقبة لما يدلّسه أولئك الكذبوان، وذكروا ضوابط لمعرفة الحديث المدلس والموضوع من أولئك بحيث تمت عملية الغربلة في ذلك الحين. مضافاً إلي ضوابط روايات العرض علي الكتاب والسنة القطعية.

فيتحصل ان القرائن الكاشفة عن اهتمام الاصحاب في تنقيح الأخبار كثيرة جدا، مما يدعو إلي انحلال العلم الإجمالي الأول. وهذه الاحاديث التي بين دفتي كتب المتأخرين صادرة عن المعصومين عليهم السلام. بالاضافة إلي قرائن الدس المزعومة ما هو حاصل في مسائل معروفة معينة، وهذا إن ادي إلي الانسداد فانه يسده في بابه لا في كل الأبواب كما ذهب اليه البعض، فدائرة العلم الإجمالي الأول ليست واسعة حتي تشمل كل الروايات. ويؤدي إلي القول بالانسداد في جميع ابواب الفقه.

الامامة

الالهية(5)، ج 1، ص: 59

المبحث الثالث: حجية العقل … ص: 59

وينقسم العقل إلي قسمين نظري وعملي.

1- اما النظري فهو القوة الموجودة في الإنسان المجردة عن المادة والتي بواسطتها يحصل الادراك وهي تنطلق من رأس مال البديهيات والفطرة وهو معصوم فيها ومنها ينطلق إلي النظريات والتي لا يكون معصوما فيها. وتجدر الإشارة إنه في بديهياته لا يكون خالقاً لها وانما تصل اليه عن طريق اتصاله بالعوالم العالية عن طريق الالهام الفطري او الايحاء.

- والحقائق التي يقوم علي اثباتها العقل النظري غير متناهية بل متطورة فبعض الحقائق عجز عن اثباتها بالبرهان الفلاسفة المتقدمون كابن سينا بينما اثبتها المتأخرون نحو المعاد الجسماني فقد عجز عن ذلك ابن سينا بينما اثبتها صدر المتألهين مسترشداً بالدليل النقلي، وكذلك مسألة الرجعة فقد اثبتها من المتأخرين بالبرهان ابو الحسن الرفيعي «1»، فعدم اقامة السابقين الدليل العقلي علي مسألة لا يعني عدم امكان المتأخرين علي ذلك، فليس من سبق كُمّلي العقول حتي يمتنع علي المتأخرين اقامة البرهان بل العقول في سير تكاملي إذ الفحص والاسترشاد بالوحي يفتح ابواباً واسعة من العلوم والمعارف العقلية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 60

- ما ثبت بالقطع من الوحي المحمدي يعتبره فلاسفة العهد الاسلامي وسطاً برهانيا وذلك لأن الشريعة الحقة ثبتت بالبرهان وكذلك ثبتت القدرة الغيبية بالبرهان، ومع ذلك لا يختلط علم الكلام بالفلسفة لأن الأول يعتمد التعبد الظني أيضا.

- ان كثيرا من روايات المعارف ذكر فيها الاستدلال العقلي فالعمل بها لا يكون من باب التعبد بالنقل بل يكون عقليا وبرهانيا أيضاً.

2- اما العقل العملي فقد عرفوه بانه القوة المدركة للقضايا التي ينبغي ان يقع العمل عليها.

ومنذ القدم بزغ الخلاف في ان العقل العملي والنظري قوتان مختلفتان ام انهما قوة واحدة والاختلاف بينهما من حيث المدركات

والصحيح انهما قوتان مختلفتان، وقد ذكر لذلك ادلة متعددة نذكر منها دليلان: -

1- ويتكون من مقدمتين الأولي ماقرره الفلاسفة في علم النفس ان التعرف علي قوي النفس انما يتم باختلاف اثارها فكل أثر يكون ويتم عن درجة معينة من درجات النفس.

والثانية. ان الفلاسفة قرروا في الحكمة العملية ان كمال الإنسان يكون عندما تنصاع قواه السفلية إلي القوة العقلية. أي ان القوة العقليه تدير القوة الوهمية والحسية والشهوية والغضبية، بمعني ان القوة العقلية تقوم بالتأثير في هذه القوي والهيمنة عليها. وهذا يعني ان القوة العاقلة لها عملان ادراك وتأثير وهو عمل وهو غير سنخ الادراك.

فهذا يدل- بضميمة المقدمة الأولي- علي انه توجد قوتان عقليتان نظرية وظيفتها الادراك وعملية وظيفتها العمل والتأثير.

2- ان آخر التحقيقات لدي صدر المتألهين أدت إلي القول بان التصور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 61

والتصديق هما قسما العلم وكلاهما يعرفان بحصول الصورة لدي العقل والفرق بينهما ان التصور لا يوجب الاذعان والحكم بينما التصديق يوجب حصول الاذعان والحكم، ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وانما هو فعل تقوم به النفس فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة تصل إلي الحكم وهو الدمج بين الموضوع والمحمول وهذا وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والاذعان بما أدركه وتصوره العقل النظري وهذا فعل غير الادراك. تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الادراك.

ومن هنا نقول ان العقل له امر ونهي تكويني اي بعث وزجر للقوي الاخري الكلية.

* بناء علي هذا التفكيك بين القوتين تتضح لنا حقيقة العقل النظري فهو يدرك نمطين من القضايا احدهما لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي.

والاخري ترتبط بالعمل وهذا القسم من الادراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثر علي القوي المادون لتنصاع

اليها فهو الرابط بين العقل النظري والقوي السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلي ادراكات العقل النظري الصادقه.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا اثرناها في مقدمة الفصل الأول من ان معني الايمان والتسليم هو الاذعان وهو وظيفة العقل العملي وإنه ليس ادراكاً صرفا. فهناك ثلاث مراحل فحص و ادراك واذعان وايمان.

* قال العرفاء ان الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين، ومقصودهم من ذلك ان الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة ادناها هي المتصلة بعالم المادة واعلاها هي المجردة تجردا تاما، فيبدأ من الدرجات الحسية وهي المجردة عن المادة دون احكام المادة، إلي الخيال وهي مجردة عن المادة لا عن المقدار ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلي الوهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 62

وهو ادراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض وهي مع تجردها عن المادة وأحكامها إلا انها متعلقة ومضافة إلي جزئي معين. إلي العقل ذي التجرد التام عن المادة واحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذب والكامل في صلاته يتوجه بقلبه إلي ما فوق عالم العقل حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية وهذا نمط من الادراك لكنه ليس بالقوة العاقلة.

ويطلق عليه الادراك القلبي وهو ذو درجات أربع سر وخفي وأخفي وهي ليست من سنخ الادراكات الحصولية بل ادراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي وذلك لاننا قلنا ان مهمته الاساسية هي الاذعان والحكم وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل وحينئذ يترتب علي الحكم والاذعان بها تأثر القوي السفلية، وقد يكون بالحكم والاذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم

وعدم تناهيه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 63

التنبية الأول: الحسن والقبح العقليان: … ص: 63

اشارة

وهذه المسألة من امهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جري البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الاسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية.

وقد ذهب الاشاعرة إلي كونهما اعتباريين بجعل العقلاء وأيدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلي القول بعقليتهما وتكوينيتهما، ويبتني علي هذه المسألة ثمرات عدة اذ ان اغلب البراهين تعود إلي حسن العدول وقبح الظلم فاذا كان الحسن والقبح اعتباريين فان الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية.

وتظهر خطورة المسألة اكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلي اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة وذلك لأن المتكلمين يقولون أن الاحكام الشرعية ألطاف في الاحكام العقلية، أي ان العقل لو علم بملاكات الاحكام الشرعية لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فاذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية وهي مسألة الحسن والقبح وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الاحكام تبعا لتغيير الافكار وهو ما يُعرف حديثا بنظرية تغير المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة فلا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 64

تتصف الشريعة حينئذ بالثبات.

ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الاشكال وغيره مدفوع حتي علي القول باعتبارية الحسن والقبح. كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرت بمراحل متعددة: -

1- ان الفلاسفة القدمي قبل الاسلام سواء في الهندية او البهلوية او الحرانية أو اليونانية كلهم قائلون بعقلية المسألة، ومن المسلمين مَن اشار إلي عقليتهما الفارابي في كتابه المنطقيات.

2- ان ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبين عدوله ولم يشر اليه، وهكذا

أثر في مَن أتي مِن بعده حيث تعاملوا مع كتبه علي انها ترجمة امينة لكتب القوم. وقد تأثر هو في ذلك بما ذكره ابو الحسن الاشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته فهو في منطق الشفاء والاشارات (يمثل للمشهورات بالحسن والقبح وهي الاراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء)، وفي مقام اخر في النمط الثالث من الاشارات يقول: «ان احكام العقل العملي يستعين بالنظري وقضاياه اما اوليات او مشهورات»، وكذلك عبارات أخري كما في الهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها ان قضايا الحسن والقبح قضايا حقة يمكن اقامة البرهان عليها.

3- بعض المتأخرين كالمحقق اللاهيجي في كتابة «گوهر مراد» والسبزواري في شرح الاسماء الحسني ذهب إلي انها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخري.

4- المحقق الاصفهاني ومن بعده ذهب إلي أنها اعتبارية مطلقا ولا يمكن اقامة البرهان عليها وهذا هو المذهب السائد إلي الان.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 65

فمن خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحولت هذه القضية من عقلية تكوينية إلي اعتبارية جعلية.

اما الاسباب التي دعت ابن سينا إلي القول بالاعتبارية: -

1- المغالطة التي ذكرها ابو الحسن الاشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، اما معني المدح والذم فليس كذلك، وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو اول من ذكر هذه المغالطة بل ان السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلفاته

2- تعريفه للعقل العملي حيث إنه قد عرفه بتعريف هو عين العقل النظري، والاختلاف بينهما في المدرَك وأن العقل مطلقا شأنه الادراك وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصور ان العقل له تدخل

في اعمال الافعال النفسانية! بل العمليات ليست إلا تأديبات وعادات، وهذا المبني علي خلاف مبني الفلاسفة المتقدمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلي نظرية وعملية.

3- غض ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما ارسطو وهو البرهان العياني او الشهودي ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام علي اثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفي بالقسم الأول المعروف في باب البرهان وهو مختص بالكليات لذا يشترط فيه الابدية وعدم التغيير.

ولابأس بذكر نبذة عن هذا البرهان: -

هناك قوة في الإنسان تسمي بقوة الفطنة وهذه قوة تُرَوي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الارادة علي طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة باحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات علي الجزئيات والوصول إلي الكمال المنشود.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 66

توضيح ذلك:

ان ادراك القضايا حتي العملية لايكفي للوصول إلي الكمال، وانما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوي السفلي يكون بالانصياع إلي القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي بل يجب ان تكون هناك آلة وأداة تميز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية، وعدم ادراك الواقع الجزئي علي ما هو عليه يؤثر في عدم الوصول للكمال المنشود. لأن تنزل القضايا الكلية إلي الجزئية لا يتم إلا بأداة قادرة علي استكشاف حال الجزئي علي ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

*- مرحلة ادراك الكمال في الاعمال والبرهان عليها وهذا يقوم به.

العقل النظري- ثم مرحلة الاذعان في العقل العملي والتأثير علي القوي السفلي- ثم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزل من الاعلي إلي الاسفل قوله تعالي: «بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ» فهو اشارة إلي السداد والعصمة في مراحل التنزيل، حيث كونه حقا لوحده لا

يكفي بل يجب ان يكون السداد في النزول، وفي النفس الانسانية الادراك والاذعان وحده غير كاف بل يجب ان يحصل التسديد في التنفيذ علي الأمور الخارجية الجزئية وهذا لا يكون إلا بقوة الفطنة. وهي قوة فوق القوي المادون (الغضبيية والعمّالة والشهوية) فهي تستخدم هذه القوي للوصول إلي الجزئي الحقيقي المندرج تحت الاجناس العالية، فتصدر بعد ذلك اوامرها في عالم النفس لتولد الشوق والارادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات علي الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ علي هذا البرهان

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 67

1- ان البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات

2- ان النظري يتوسط العقل النظري والعملي، اما العياني فالنظري والعملي والفطنة.

اما كيف أدي الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلي انكار الحسن والقبح العقلي فبيانه:

انه لو اذعنا بلزوم كون الاعمال برهانية فلا بد من القول بارتكاز الجزئيات علي انها قضايا برهانية والذي يمكنه البرهنة علي ان الجزيئات حسنة وحكيمة اما الحسن والقبح او التشريع، اي ادراك حسن وكمال الافعال الجزئية يكون باحد هذين، والاحكام الشرعية ألطاف في الاحكام العقلية.

وبتعبير اخر: ان البرهان العياني يبرهن علي ان العمل الجزئي علي وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة علي كل واقعة جزئية إلا بتوسط استناد البرهان إلي قضايا يقينية لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلا الاعتبار. فحينئذ يحصل الالتفات إلي أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

- وحينئذ نقول ان التوحيد النظري وحده من دون تنزله إلي توحيد عملي هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزل من التوحيد النظري إلي التوحيد في الطاعة إلا بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن

هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يقبل: «اليوم أكملت لكم دينكم ورضيت لكم الإسلام ديناً» وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سببت الخلط الحاصل لدي ابن سينا وعليه ابتني اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن نعرض للأدلة التي اقيمت علي اعتباريتهما ومناقشتها ثم تعرض الي الادلة التي ذكرها صدر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 68

المتألهين.

أولًا: ادلة اعتبارية الحسن والقبح: -

1- اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الازمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت بحيث يبقي الشي ء حسنا دائما أو قبيحا دائما.

2- نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما او عقليتهما.

3- يذكرون في اثبات النفس أن الإنسان لو خلق من دون اعضاء أصلا فإنه سوف يدرك ذاته وهذا يدل علي مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه فلو خلق الإنسان وحيدا في هذا العالم ولم يؤدب علي العادات الحسنة ولم يلاقِ أي انسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم فهذا يدل علي أنهما ليسا تكوينين بل هما امران جعليان.

4- ان العقلاء انما يحكمون بهذا الحكم من اجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام لما حكم العقلاء بذلك. وبعبارة أخري أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخري بواسطة هذا الاعتبار.

5- ما ذكره المحقق الاصفهاني: - ان الفعل المقتضي للمدح والذم علي أحد نحوين إما بنحو اقتضاء السبب لمسببه والمقتضي لمقتضاه وإما بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

اما السببية والمسببية فهي تكوينية لكنها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوي الإنسان العقلية، بل هي ناشئة بداوعي حيوانية كالانتقام والتشفي والغيظ. اما الغاية وذي الغاية فانها اذا ثبتت فهي تعني وتدل علي الاعتبارية، لأن الغاية لهيئة الاجتماع

الاعتبارية، والمدح والذم موجب لما فيه صلاح العامة فهو اعتباري محض.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 69

6- ما ذكره ابن سينا والاصفهاني: ان الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين لما خرج عن احدي البديهيات الست وهي ليست بواحدة منها. فيبطل كونها من البديهيات.

7- ان المدح والذم يعده العقلاء من الانشائيات، والانشاء من سنخ الاعتباريات.

8- ما ذكره الشهيد الصدر ان تعريف العدل هو اعطاء كل ذي حق حقه، والظلم هو منع الحق، والحق امر اعتباري قانوني فكذلك العدل والظلم، ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح علي الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة و قبل ان نستعرضها نتعرض لما ذكره الاشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح و هو كما ذكرنا احد الاسباب التي ادت إلي مغالطة ابن سينا.

* اننا يجب ان نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم، فالمدح هو القضية المتكفلة لحمل كمال معين علي موضوع معين والذم بخلافه، وعليه يعلم انه يجب ان يكون الممدوح آت بكمالٍ فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن ان يُمدح بغير كمال او يذم بغير نقص. فيجب ان يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: فان وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال اي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالا رتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متحدان هوية ومختلفان وجوداً، فالكمال الحقيقي وجود خارجي والمدح وجود ذهني.

وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 70

الموجودات عن وجود الخالق اذ انها آيات عظمته وقدرته وكلما كان الوجود أكمل فحكايته عن الوجود الالهي اعظم وأتم. وقد قال عليه السلام: «ما

للَّه آية أكبر منّي» باعتبار ان الكمالات التي وصل اليها عليه السلام (بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق اكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكيا عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول.

فالحكاية ليست مقتصرة علي الوجود الذهني. بل ان الافعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثم إنه لا مضايقة في ان يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للامور الخارجية العينية وذلك لغرض الاحتياج إلي هذا الاعتبار من اجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح الوجود اللفظي والوجود الكتبي فهما وجوادن اعتباريان دعت اليهما الحاجة وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلي اعتبار وجودات أخري حاكية عن الوجود الغيبي

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن فهو وان كان انشائيا لكنه حاك عن امور تكوينية وواقع خارجي وانما اظهره القرآن بانشاء الهجاء لاعلام الآخرين بما حصل في للأقوام الآخرين.

* ثم ان الشجار في الأمر البديهي لا يؤدي إلي عدم البداهة. نوضح ذلك في علم المنطق إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدي إلي انكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الانكار لا يؤدي إلي انكار بديهية القضية.

وقد يكون الانكار في بعض الاحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة حيث لاينصاع العقل العملي لمدركات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كله لا يؤدي إلي عدم بداهة القضية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 71

هذا كله جواب إجمالي عن ادلة اعتبارية الحسن والقبح، أما الجواب التفصيلي.

1- ان اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الازمنة والامكنة إما أن يكون ناشئا من اختلاف التشخيص أي عدم اصابة الكمال

الواقعي والنقص الواقعي وذلك لاختلاف الافهام والعقول. واما ان يكون ناشئا من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الاماكن الباردة والحارة فانه في الاولي يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2- اما وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء فيُعلم جوابه مما مر.

3- اما ما ذكروه من ان الإنسان لو خلق وحيدا او لم يؤدب لما حكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة علي المطلوب، بل أن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولولم يكن هناك اجتماع، ولو لم يؤدب فان الظلم كما سوف نبين هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرف العقل بذلك التعريف وفكّر به فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض حيث قال في الهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرع والتوسل أن اكثر ما في ايدي الناس من الحسن والقبح حق يقام علية البرهان.

4- اما ما ذكره المحقق الاصفهاني من ان سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داع عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم وهذا واضح في الكُمّلين من البشر حيث نلاحظ ان انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية، وذلك لأن قواهم كلها منصاعة تماما للقوي العقلية فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمون ظالما مثلا لا يكون الذم بداعي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 72

الغريزة الحيوانية. ويمكن ان يكون تعبير القرآن عن موسي: «وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسي الغَضَبُ» اشارةً إلي ذلك، اذ ان النطق والسكوت من خصائص الإنسان بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة علي أن غضبه لم يكن ناشئا من القوي الحيوانية بل من القوي

العاقلة وسره هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه، لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقاه من مدركات عن العوالم العلوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخري أي عندما نُخبر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة «ان اللَّه يرضي لرضا فاطمة ويغضب لغضبها» فانّ هذا يعني عصمتها لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلي القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربه.

5- اما اشكال الشهيد الصدر فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فان التعريف الصحيح للعدل هو وصول كل موجود إلي كماله المطلوب من دون اعاقة وممانعة موجود آخر، والظلم هو مما نعة موجود من وصول موجود آخر لكماله.

فالعدالة الاجتماعية مثلًا هي وصول كل افراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلي كمالاته الممكنة من دون اعاقة الافراد الاخرين. أما عندما تصل طبقة لكمالها علي حساب طبقة أخري فانه يكون من الظلم الاجتماعي، والتشريع انما يكون عادلا لأنه يكون كاشفا عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينيا لا اعتباريا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 73

اما الاحترام والتعظيم فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم لما فيه من ترويض النفس وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص. فالتقديس لا للبدن بل للصفات العالية، ومن هنا نقول ان التقديس اذا كان للحقائق والكمالات فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الاباطيل والخرافات فهذه قدسية باطلة، وبتعبير آخر يمكن القول

ان القدسية والتقديس هو خضوع قوي الإنسان السفلي إلي قواه العقلية العملية، فاذا كانت تلك القوي العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للاباطيل فتكون قدسية مذمومة، أما لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوي المادون فإنها قدسية محمودة.

6- أما ما ذكر من ان المدح والذم من الانشائيات. فقد ذكرنا ان الانشاء لا يصدر إلا من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني، فالهجاء هو اظهار للنقص التكويني والمدح ابراز للكمال الخارجي الحقيقي. والبلاغيون قد اذعنوا بان اقسام الانشاء هي عناوين لماهيات الدواعي.

فتبين من كل ما سبق ان الحسن والقبح امران تكوينيان واقعيان وليسا اعتباريين كما ذهب اليه جلّ المتأخرين.

أدلة واقعية الحسن والقبح: … ص: 73
اشارة

ونلفت أخيرا إلي براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح ذكرها بعد ان كان قد انكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلي الخلط والتردد الحاصل لدي مَن أتي بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته والبراهين التي ذكرها للدلالة علي واقعية الحسن والقبح فيه ثلاث: -

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 74

1- العناية الالهية: … ص: 74

اي أن للحق تعالي عناية بخلقه والقاعدة الفلسفية المثبتة هنا هي ان علمه بالنظام الاتم والاكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

ان الباري يكون علي اكمل واشرف واعلي ما يمكن ان يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك حيث ان ايات ومخلوقات اللَّه تدل علي صفة الكمال في الباري. والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي

وافاضة الكمال علي ما دون هو من العناية وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ افاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلي تحقيق الكمالات الوجودية بنحو اكثر وأرفع فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالارادة إلي أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل علي ضرورة التشريع والتقنين الالهي حيث إنه يرشد الفاعل الارادي إلي طريق هذا الكمال.

ومؤدّي هذه القاعدة (العناية) يمكن ان يستبدل بقاعدة اللطف المعروفه إلا ان الاولي الحاكم بها هو العقل النظري والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول ان الافعال يجب ان تؤدي إلي الكمال المطلوب، وهذا يقتضي ان يكون لهذه الافعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدد طبقاً للكمال الذي في المعلوم وهذا يعني ان في الأفعال الإرادية في حد نفسها

كمال ونقص وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي علي طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عما هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الاشعري ان واقع الفعل تابع لنمط التشريع ولا هوية له في نفسه، أو لك أن تقول ما قدمناه من أن حقيقة المدح الاخبار عن الكمال، والذم الاخبار عن النقص فللافعال الإرادية في نفسها مدح وذم أي حسن وقبح.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 75

2- تجسم الاعمال: … ص: 75

وهي قاعدة مهمة نقحها بوضوح فائق فلاسفة الامامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك ومؤداها ان تكرار الفعل يولد ملكات اما حسنة نورانية او ملكات رديئة، وكلما ازدادت ترسخت في النفس اكثر حتي تصبح جوهرية، ومن هنا قالوا ان الإنسان ليس هو النوع الاخير بل يتلبس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل اما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا وفي كل نوع هناك شعب أخري.

بيان ذلك:

ان الإنسان في سعيه نحو الكمال انما يبتغي ان يحصل علي ما له ثبات، الكمال العرضي يكون في معرض الزوال فتعود حاله إلي ما كانت عليه قبل تحصيله.

فهو يسعي لأن يحصل علي كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا يكون معرضا للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الافعال المؤدية للكمال حيث يحدث الفعل- عند تكراره والمواظبة عليه- حالات في النفس تنتقل إلي هيئات ثم تتنقل إلي ملكات فتشتد حتي تصل وتصبح فصولا جوهرية.

بالاضافة إلي ذلك فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملكها الإنسان وغيره، فمثلًا في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلت الروايات علي ان الاجسام الاخروية هيئتها تابعة للفصول

الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

اما تطبيق القاعدة علي ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين انها توجب تجسم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك ان الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً بل امراً عقلي له من مناشي ء تكوينية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 76

3- قاعدة الغاية: … ص: 76

وهذه قاعدة تبحث في ابحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته، بمعني انّ تصور النتيجة المترتبة علي الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدمة علي الفعل والثاني متأخرة عن وجود الفعل.

وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدة «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي» فهناك تقدير مقدّم علي الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي وهو الغاية التي من اجلها خلقت، وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وان اقتربا من بعضهما. وانكار العلة الغائية يساوق انكار العلة الفاعلية.

اما تطبيق ذلك علي الحسن والقبح فبيانه ان الفاعل الإرادي لا يفعل فعلًا إلا لأجل غاية وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس وتكون موجبة للقرب الالهي، اما في موارد القبح فان الكمال الذي تحققه بالافعال هي كمالات للقوي الشهوانية والغضبية.

فدعوي الاشعري ان لا حسن ولا قبح واقعي في الافعال يساوق انكار العلة

الغائية، وانكار العلة الغائية يؤدي إلي انكار العلة الفاعلية.

فتلخص من مجمل البحث ان الحسن والقبح العقليين امران تكوينيان واقعيان بالادلة المثبتة سواء علي مبني المتقدمين كابن سينا او علي مبني صدر المتألهين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 77

التنبيه الثاني: الخطأ في الفكر البشري … ص: 77

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري وقد اثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة واجابوا باجابات متعددة.

منها: ان علوم المنطق تتكفل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقي علي عاتق الإنسان مراعاته عند التطبيق، فالخطأ الناشي ء هو من سوء التطبيق.

ومنها: - أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة حيث ان بعضها نظري، وكلما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: - ان الخطأ هو نتيجة عدم توازن في افعال النفس فقد ذكرنا سابقا ان الاذعان والجزم الحاصل لدي النفس هو غير النتيجة، وان وظيفة العقل النظري هو الادراك، فالخلل يحصل عندما يحصل تجزم واذعان غير متناسب مع درجة الادراك الحاصلة لدي العقل النظري.

وقد سعي الفلاسفة والمفكرون لازالة هذا الخطأ أو علي الأقل تقليل نسبة الخطأ. ومن تلك المحاولات ما دعي اليه السيد الشهيد الصدر رحمه الله باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلا من القياس الارسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية. حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتي تصل إلي نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بالغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 78

معاملة اليقين الصحيح التام وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا علي هذه النظرية تعليق لا يتصل في جوهرها فهي متينة وتامة لكن: -

1- ان ما توصل اليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاءله ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية، وهذا خطأ اذ ان النتيجة ليست برهانية بل

العمل بهذه النتيجة برهاني، بمعني أنه اقام البرهان علي تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الاصول عبر دليل الانسداد علي وجوب العمل بالظن، وبعبارة أخري النتيجة ليست يقينية وان كان العمل بها لابد منه بالدليل اليقيني.

2- لقد ذكر السيد ان بامكان استخدام هذه النظرية لاثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة وهذا غير تام لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج اليها في اثبات الغيب اذ لدينا كثير من البراهين كبرهان الصديقين التي تورث اليقين.

3- ان احتمال الخلاف يظل قائماً وجزم النفس علي خلافه- لانه قليل جداً- لا ينفيه من اساسه بل يبقي قائما ولا يتحول إلي يقين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 79

التنبيه الثالث: الثابت والمتغير … ص: 79

اشارة

من المسائل المهمة التي تبتني علي مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيره. فبناء علي اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء فإن الحسن والقبح يتغير بتغير الزمان والمكان وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع بل هو متغير. وبناء علي انهما امران واقعيان فالنتيجة خلافها.

- وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخري وهي ان ختم النبوة يعني أن لا حاجة إلي النبوة حتي يوم القيامة، وذلك لأن العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة ولا تحتاج إلي رعاية نبي ولا وصي ولاهدايتهما.

- وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلامة الطباطبائي وخلاصته ان الارادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغير هذا الاعتبار تتغير وجهة سير هذا الإنسان.

أما جواب هذه الصياغات:

أولًا: بما مر بالبراهين التي اثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: ان دعوي تكامل العقول يعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدي البشرية لاطلاعهم علي الحقائق واصابتهم لها، والحال انا نجد من أنفسنا الاذعان بعدم توقف

هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدي الفطرة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 80

البشرية، وهذا يدل علي أمرين:

الاول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعي البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلي الاحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وان كانت الاصابة النسبية مستمرة وهذا وان لم يزلزل الحقائق المتوصل إليها إلا انها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الامران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلي التشريع السماوي والنبوة المحمدية لأن رب الواقعية هو المحيط تماماً بها كما يثبت بذلك عدم احاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: اما جواب ما يدعي من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار والذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي فهو يستدعي ان نلقي نظرة علي ما سطره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار: … ص: 80

وملخص ما ذكره العلامة:

أ- ان الاعتبار يمثل جانبا من نشاطات العقل العملي ومدركاته وشأناً من شؤونه.

ب- ان كل موجود يسعي نحو كماله، فالفاعل غير الارادي يوجد له صراط معين يسير فيه، اما الموجود الارادي فانه يسعي نحو كماله من خلال ارادته.

ج- ان الفاعل الارادي في تحريك ارادته يسعي نحو تحقيق ما هو غير موجود، اما ما هو موجود فلا يسعي لتحصيله كما هو واضح.

د- ان الارادة تنطلق من قضايا غير حقيقية أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولد الارادة ومن دونها لا يمكن للإرادة ان تنطلق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 81

ه- اول اعتبار قام الذهن بتصويره حتي يحرك الارادة هو ايجاد نسبة الضرورة بين موضوع ومحمول لم تكن بينهما تلك النسبة من قبل، بيان ذلك:

ان الإنسان يري وجود نسبة حقيقية بين ذاته وبين اعضائه، فيقوم بجعل نفس هذه النسبة بين

نفسه وبين الأكل فيسعي نحو تحقيقه فيتحرك نحو الغذاء. وعبّر عن هذا بانه أول خديعة.

بعض تلامذة العلامة يصور الخديعة بنحو اخر وذلك بان الخديعة التي تقوم بها هي تصوير ان حاجات البدن هي حاجات الروح، ويجعلها ضرورية لها، وتفسير هبوط آدم إنه هبوط ادراكي حيث جعلت الروح البدن جزء حقيقة نفسها، فجعلت كمالات البدن وحاجاته هي حاجات لها فأول خديعة هي من جعل البدن جزء من الروح. خدعت بها الفطرة الانسانية اياه لتتوصل بها إلي الخير بالذات والكمال المطلق الحقيقي.

و- ان نسبة الضرورة تعني الوجوب وهو متقدم علي الحرمة كما ان الاستحباب متقدم علي الكراهة وذلك لأن الشعور بالحاجات والضرورات متقدم علي الشعور بالمضرات والمؤذيات التي نسبة الامتناع.

ز- مثال آخر علي نشأة اعتبار آخر هو اعتبار الملكية وكيفية حصوله: هو أنه رأي وجود نسبة حقيقية بين الإنسان وسلطته علي اعضائه وتصرفه بها كما يشاء، فجعل هذه السلطة بين الأمر الخارجي وبين نفسه حتي يستطيع التصرف والاستفادة منه وحده ولا ينازعه فيه أحد.

ح- وأول اعتبار اجتماعي نشأ هو اعتبار الالفاظ ودلالتها علي المعاني، ثم بعد ذلك تولد اعتبار العقد والمعاملات، واعتبار الرئاسة وذلك لأن في الإنسان توجد قوة العقل التي تكون مهيمنة علي بقيه القوي، فانتزع العقل هذه النسبة وجعلها في مملكة صغيرة هي مملكه الأسرة ورئاسة وهيمنة ربها ثم للمجتمع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 82

ط- ان الاعتبارات غير ثابتة و متزلزلة فلا يمتنع ان لا يأتمر و لا يتبع الإنسان ذلك الاعتبار، لذا مست الحاجة إلي ان تعتبر ما يدعم هذا الاعتبار ويجعله مؤثرا في ارادة الإنسان، فاعتبر الثواب والعقاب واعتبر المدح والذم، فاعتبار المدح والذم انما هو لاجل أن يكون دافعا لأن يتبع الإنسان الاعتبار

الأصلي حيث يضعف تأثيره وكلما قوي تأثيره ضعفت الحاجة إلي الثواب والعقاب او إلي مدح وذم العقلاء.

والعلامة الطباطبائي في المقالة الثانية من رسالة الاعتباريات يركز علي أمر مهم، وهو كيفية نشأة التكوين من الاعتبار حيث أوضح في مقالته الأولي كيفية نشأة الاعتبار من التكوين والحقيقة، وكيف ان الاعتبار هو اعطاء حد الشي ء أو حكمه لشي ء آخر بتصرف الوهم، وانه ينشأ بسبب النقص وهو امر حقيقي، اما في المقالة الثالثة فبيّن ان الاعتبار يولد الارادة والارادة تحقق الفعل التكويني الخارجي، وهو إما كمال للانسان أو نقص، فينشأ حينئذ التكوين من الاعتبار، فولّد العقل التكوين من خلال عنوان اعتباري.

وجوه التأمل في نظرية العلامة: … ص: 82

لا يخفي ما في النظرية من ظرافة ودقة نظر ويظهر كذلك مدي أهميتها في صياغة الفكر البشري، وهذا لا يمنع من وجود بعض التأملات لنا عليها:

1- اننا نتفق مع العلامة في:

* ان العقل النظري لا يحرك الارادة، لذا سوف يأتي في الفصل الثاني ان التوحيد النظري من دون التوحيد العملي، وهو تولي وليّ اللَّه الذي يهدي لإرادات اللَّه ومشيئاته، لا يوجب تحرك الإنسان بل توجد مراتب أخري متوسطة حتي تصل إلي مدركات العقل العملي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 83

* ان الفاعل الارادي لايتكامل إلا بتوسط ارادته.

* ان الارادة لا تسعي إلي تحصيل ما هو متحقق بالفعل لانه تحصيل للحاصل.

لكن نختلف مع العلامة في تحديد القضايا الحقيقية، فقد ذكر ان كل ما ليس له تحقق خارجي فعلي فهو قضية اعتبارية، وهذا غير صحيح وغفلة منه قدس سره، وذلك لأن القضية الحقيقة لا تساوي القضية الخارجية بل هي تشمل ما يكون الموضوع فيها حاك عن وجودات في ظرف الاستقبال، وما تكون حاكية عن وجود تقديري، وما تكون حاكية عن موضوعات ممتنعة

وهي القضايا غير البتية التي ليس فيها سوي فرض الوجود وهذا أمر متسالم عليه، وبناء عليه فإن القضية التي يتصورها العقل ويحكم بها العقل العملي هي غير حاصلة في الخارج فعلًا لكنها ليست اعتباراً محضا بل تكون قضية حقيقية.

2- لقد حصر العلامة رحمه الله الحاجة إلي الاعتبار لانه مولد للأرادة وهذا غير صحيح بل ان الحاجة للاعتبار هو امر آخر ذكره المتكلمون والأصوليون حاصله:

ان الارادة تنبعث من مدركات العقل العملي ومدركات العقل العملي هي من الكليات الفوقانية كحسن العدل وقبح الظلم، ومن هذه المدركات التي تمثل رأس مال العقل العملي ينطلق في سلسلة ادراكاته، وكذلك يستطيع ادراك الكليات القريبة وفوق المتوسطة كحسن الصدق وقبح الكذب، اما الكليات النازلة والجزئيات الحقيقية فإن العقل العملي لا يصل اليها كما في قبح القمار، ونكاح الشغار، ناهيك عن الجزئيات الحقيقية المتكثرة وغير المتناهية، من هنا يحتاج إلي ضابطة تكون كاشفة عن حسن هذه الأمور وقبحها وهذه الضابطة تكون بالاعتبار، فالاعتبار وظيفته الكشف عن الحقائق وما تخبأه من حسن وقبح، وحينئذ الارادة تنطلق من هذا الاعتبار الكاشف لا من كونه اعتباراً محضاً.

والاعتبار انما يكون كاشفا صائباً للواقع في حال صدوره من العقل اللامحدود

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 84

الذي يعلم بحسن وقبح جميع الافعال.

3- ما ذكره من توسط الاعتباريين بين حقيقتين وتكوينين صحيح لكنه الاعتبار بما هو الكاشف لا بما هو هو اعتبار.

ونضيف علي ما ذكره العلامة وتكملة لما ذكرناه من الحاجة للاعتبار.

- إنه قد يتساءل لماذا لجأ إلي الاعتبار- الذي هو انشاء- في الكشف عن الحقائق ولم يلتجأ إلي الأخبارعن حقيقة الافعال الخارجية؟.

والجواب عنه:

أ- ان الجزئيات غير متناهية فاذا اعتمد اسلوب الأخبارالتفصيلي فهذا يعني اخبارات غير متناهية لعدم تناهي الافعال وعدم

تناهي الاشخاص فيجب ان يكون اخبارا لكل أحد. ويترتب عليه ان يجعل كل الناس انبياء، وأنّ لا يخطئ الكل في فعل وهذا يبطل عالم الامتحان والابتلاء.

ب- ان برهان النظام الأصلح يقتضي وجود مراتب في العلم والوجود.

والأخبار التفصيلي لكل أحد يقتضي عدم وجود مراتب ويبطل النظام الأصلح.

ج- ان الأخبارقد يؤدي إلي اختلاط الجزئيات حيث ان الجزئي قد تكون له جهة حسن، وله قبح من جهة أخري هي العامة، وقد يختلف الجزئي الواحد في تقديم جهة علي جهة عن جزئي آخر فلا تنضبط القضايا بضابط معين، بخلاف ما لو جعل ضابط يكون غالب المطابقة للواقع فانه ينظم حالة الإنسان بنحو افضل.

فالاعتبار أحد أمثلته القانون الوضعي حيث يراد من وضعه أن يكون كشفه غالبيا.

د- ان وساطة الاعتبارين الحقيقين هي وساطة اثباتية باعتبار كشفه عن الواقع، ولا يتبعه الإنسان لأنه اعتبار بل لأنه كاشف من الواقع، وما ذلك إلا لأن الإنسان لا ينطلق الا من الحقائق، وما ذكره من أن أول اعتبار هو الأكل ونحوه فمحل إشكال إذ لا داعي فيه إلي الاعتبار حيث ان الاكل يعتبر مكملا للبدن، ويشعر الإنسان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 85

بحاجته ويقصد اليه وهذه حقيقة يتولد منها الشوق والارادة، وهذه الواقعية يدركها العقل سواء العملي او النظري بسهولة فلا حاجة إلي الاعتبار.

وهنا قد يرد تساؤل حول ما يظهر من التناقض بين قولنا فيما سبق ان الارادة دوما تنطلق من الحقائق- القضايا الحقيقية- وبين ما ذكرناه في الاسطر السابقة من انطلاق الفاعل الارادي من القضايا الاعتبارية.

وحل هذا الاشكال يتم بالتدقيق فيما بيناه من الحاجة إلي الاعتبار إذ انما يلجأ اليه العقل لجهة كشفه عن جهات الحسن والقبح في الفعل فهذا الاعتبار يساوق الحقيقة، لأنه يكون كاشفا

عن أمر واقعي، وليس بما هو اعتبار محض، ومن هنا لا يتبع الفاعل الارادي أي معتبر كان بل يتحري المعتبر المطّلع علي جهات الحسن والقبح. وخير مثال علي ذلك الاعتبار التشريعي الإلهي فيتبعه الإنسان لأنه صادر من عقل لا محدود ومن المحيط بكل شي ء، فهو كاشف عن الواقع والتكوين، وهكذا الاعتبار في القانوني الوضعي لأنه يقتضي صدوره من الكُمّلين في مجتمع بشري ما فيتبعه لهذا الكشف ايضاً، ومن ثَمّ ذكر ارسطو أنه لا يمكن ان يصدر التقنين الا ممن يكون انسانا إلهيا.

اما ما ذكر من الاثارة وهي التغير في التشريع وعدم الثبات فيمكن الجواب عنه بما يلي:

1- ان الحسن والقبح واقعيان فأحكام العقل العملي ليست متغيرة وقد برهنا علي ذلك.

2- ان الاعتبار ليس امرا اعتباطيا يقوم به كل أحد بل لاجل الكشف عن الواقع فيجب ان يتولاه من تكون له تلك القدرة، وآية ذلك ان المقنن الوضعي لا يوكل كل من هب ودبّ بل يتخير من افراد المجتمع فئة خاصة تمتلك الخبرة والتجربة.

3- هناك نظريتان مشهورتان احدهما المسماة بنظرية التضاد او الديالكتيكية،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 86

والاخري نظرية العقل التجريدي.

والأولي تفترض عدم الثبات والتغير الدائم، واما الثانية فتفترض الثبات ولو بنحو الموجبة الجزئية. وقد اثري البحث فيهما بنحو تام وكامل، وثبت خطأ الأولي لأنهم لابد ان يفترضوا ثوابت حتي في نفس نظريتهم فيكون نقضا عليهم، اذن لابد من الاستناد إلي ثوابت، واذا افترض ان كل شي ء في تغير ولا ثابت، فما هو الهدف من البحث والاكتشافات فما دام لاثبات فالسعي من اجل اكتشاف المجهول لن يصل إلي حد وغاية حيث لا واقع ثابت.

4- انا نسلم بوجود ثابت وبوجود متغير، لكن المشكلة في تحديد ضابط كل منهما.

فمنطقة الثبات كما اشرنا اليها سابقا هي منطقة الكليات العالية كحسن العدل وقبح الظلم والكليات المتوسطة القريبة من العالية كالأخلاق الفاضلة المنبعثة عن الملكات الفاضلة. أما ما دونها وهي منطقة الاعتبار فهي تحتاج إلي ضوابط لمعرفة المتغير والثابت.

ونستطيع ان نستفيد من القانون الوضعي وتقسيمه لتقريب فكرة الثابت والمتغير في الاعتبار بعد ثبوت أن لغة القانون والاعتبار واحدة. فإن القانون الوضعي علي ثلاثة اقسام الدستور- التشريعات البرلمانية- التشريعات الوزارية، فالقسم الأول غير قابل للتغير عادة «1»، والقسم الثاني اقل ثباتا اما الثالث فهو دائم التغير وهكذا في الاعتبار فنجد بعض الاعتبارات غير قابلة للتغيير والبعض الاخر يحصل فيه التغيير والتبديل.

لكن ما هي ضابطة الأمور والاعتبارات المتغيرة. لقد ذكر هناك ضوابط متعددة نذكر منها:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 87

1- ذكر الميرزا النائيني ان ما هو قابل للتغير هو الاحكام السياسية، أما بقية التشريعات فثابتة، وتوضيح المقصود من الاحكام السياسية.

ان التسيس هو التدبير، وكيفية جعل الجزئيات متطابقة مع الكليات الفوقانية، حيث ان الامر الكلي الذي يكتشف بقوة العقل يتنزل حتي يصل إلي هذا الجزئي الحقيقي، فابتداءً هذا الجزئي لا يكون مندرجاً تحت قانون معين ولا محدود بميزان مخصوص، وانما يختلف باختلاف الاعصار والامصار ويتغير بتغير المصالح والمقتضيات، وبالتالي يجب ان تكون هناك قوة خاصة لدي الإنسان تُرجع هذه الجزئيات إلي كلياتها حسب جهات الحسن والقبح وهذا يكون بقوة الفطنة، وهذه الجزئيات هي منطقة البرهان العياني. فالفطنة لا تتدخل في الجزئي الخارجي بقدر ما تشخصه إنه تحت اي كلي وكيف يتنزل هذا الكلي في مدارج النفس إلي العمل الجزئي.

2- من الأمور التي تؤدي إلي تغير الاحكام هو تبدل الموضوع الجزئي.

3- وجود التزاحم والورود بالعناوين الثانوية كالعسر والحرج والضرر علي صعيد

الاحكام الاجتماعية والأمور العامة، لكن ليلتفت ان الحكم الثانوي لا يكون إلا مؤقتا دائماً ولا ينقلب إلي الدوام لانه خروج عن مقتضاه.

4- الاختلاف في الاحراز ومدي رعاية الضوابط الموضوعة سواء في فهم القانون الالهي او القانون الوضعي فكم نجد من فقهاء القانون يختلفون في تفسير القواعد القانونية، وهكذا في فقهاء الشريعة حيث يختلفون في تفسير وفهم بعض النصوص الالهية.

وهذا الاختلاف لا يتناول الكليات الفوقانية وذلك لانها ثابتة وغير متغيرة، والأمور الثابتة اكثر وضوحا والخفاء فيها يقل بل يندر والخفاء يظهر في الجزئيات والمتوسطات- التي هي ذات درجات كثيرة وعرض عريض- حيث تتداخل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 88

الجزئيات مع بعضها البعض فيكون عنصر الغموض.

وتتفق هذه الاسباب الثلاث علي ان مورد الاختلاف والتغير هو في الجزئيات، ومن هنا تنشأ الحاجة إلي فهم الضوابط التي تمنع الإنسان من الوقوع في الاشتباه عند تمييز الجزئيات وهذه الضوابط تقع في مباحث اصول الفقة.

و يتلخص من كل ما مر: -

1- ان الاساس للأحكام الشرعية هو الحسن والقبح العقليين وهما برهانيان وهذا يعني أن لا تبدل فيهما ولا تغير.

2- ان منشأ الحاجة للاعتبار هو محدودية العقل البشري، فتظهر عناية ولطف واجب الوجود بأن يبين لهم تشريعات ثابتة في تلك المنطقة التي لايدركها العقل المحدود.

3- ان جهات التغير والتبدل في الاعتبار هي غالباً في منطقة الجزئيات.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 89

التنبيه الرابع: في تبعية الولاية التشريعية للولاية التكوينية … ص: 89

اشارة

والمقصود من هذا البحث بيان انّ من له صلاحية التشريع وسن القوانين

يجب ان يكون له مقام تكويني خاص. فبعد اتفاق جميع الموحدين أن المشرّع الأول والمحيط بالواقع وحقائق الوجود هو اللَّه عز وجل. يرد التساؤل والبحث ان هل اعطيت صلاحية مقدار من التشريع للبشر؟ واذا كان بالايجاب فأي بشر هو الذي يمكنه سن القوانين؟

للاجابة

عن هذا التساؤل يوجد مسلكان:

احدهما: النقل والاستدلال بالايات القرآنية والروايات الشريفة الدالة علي هذه التبعية من نحو قوله تعالي: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»، «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1»» «2»

، «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «3»

.ومن امثلة الروايات ما ورد أن الصلاة الرباعية كانت ثنائية فأوكل التشريع للرسول فجعلها رباعية وغيرها من الروايات.

المسلك الثاني: - العقل وهذا هو المقصود بالبحث هنا فيمكن اقامة وجوه ثلاث لاثبات تلك التبعية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 90

الوجه الأول: … ص: 89

وهو ما ذكرناه سابقا في التنبيه الثاني من وجه الحاجة إلي الاعتبار حيث بينا.

أ- الحاجة إلي التشريع والقانون لتنظيم الاجتماع ولمسيرة الإنسان في هذه الحياة.

ب- ان العقل البشري لمحدوديته لا يستطيع التوصل إلي الواقع ولا يحيط بجهات الحسن والقبح والموازنة بينها.

ح- يحتاج العقل المحدود إلي من يسن له تلك القوانين، فتتم صياغة الحقائق عن طريق قضايا اعتبارية قانونية.

وحتي لا تكون هذه الصياغات جهلا يجب ان تكون مطابقة للواقع فيجب ان يتصف من يسن تلك التشريعات ان يكون له علم متصل ومرتبط بالذات المقدسة وإلا لأصاب التشريع والتقنين التغيير والتبديل كما نراه في التشريعات الوضعية الحديثة علي مرّ الزمان.

د- ان من رحمة اللَّه بعباده ورأفته بهم ان يوصل العباد إلي كمالاتهم ويُبعدهم عن نقائصهم، فطبقا لذلك ولما ذكره المتكلمون بقاعدة اللطف او ما ذكره الفلاسفة بقاعدة العناية الالهية، يجعل الباري تعالي في بني الإنسان من له ذلك الاتصال الغيبي وتلك المنزلة الرفيعة.

وبذلك يثبت ان من تكون له الولاية التشريعية وصلاحية سن القوانين فان له ولاية تكوينية واتصال غيبي بالذات المقدسة.

الوجه الثاني: … ص: 90

ويعتمد علي:

1- ملاحظة الجهاز الادراكي للانسان وتفصيل قواه العقلية وكيفية توصله للنتائج، وقد ذكر الفلاسفة ان هناك جهازين يحكمان اداركات الإنسان احدهما الجهاز القلبي وهو يعني بالعلم الحضوري ومراتبه اربعة قلب، وسر، وخفي وأخفي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 91

والجهاز العقلي الذي يحكم ادراكاته الحصولية ومراتبه: - العقل النظري- والعقل العملي- وقوة الفطنة والروية- والقوة النازلة الادراكية كقوة الوهم والخيال والحس.

والقوي العملية النازلة كقوي الغضبية والشهوية.

وهذه القوي النازلة تكون منصاعة إلي قوة العقل العملي بحسب الفطرة الإلهية الأصلية وهو يمارس هيمنته وتوجيهه لها.

2- ذكرنا في التنبيه الأول ما يميز العقل العملي عن النظري، فالادراك لأي قضية يمر عبر افعال

ثلاث احدها الفحص والبحث في الفكر، الثاني ادراك النتيجة المتولدة من المقدمات، الثالث الاذعان بتلك النتيجة والتسليم بها

وقد اشار صدر المتألهين في رسالته في التصوير والتصديق وتبعه جل المتأخرين ان النتيجة والحكم في القضية لا يعتبر جزءاً للقضية. فالتصور وهو الصورة الحاصلة لدي الذهن تارة تكون مؤدية ومؤثرة في حصول الحكم فتكون تصديقا وتارة لا تكون مؤثرة فتسمي تصورا. وهاتان المقدمتان هي من ادراك العقل النظري فهو يدرك النتيجة المتولدة من المقدمات، لكن هذا غير الاذعان والحكم الذي هو من افعال العقل العملي ويفسر العلامة الطباطبائي الحكم بأنه «1» قيام النفس بدمج صورة الموضوع مع صورة المحمول في صورة واحدة

وقد تقدم منا الإشارة إلي ان المراد من وجوب المعرفة هو الفعل الثالث ومن هنا قلنا بامكانية كونه واجباً شرعياً.

3- كثير من المفكرين يتوهمون بان العلاقة والارتباط بين المقدمات (الصغري والكبري) والنتيجة والعلاقة بين النتيجة والحكم والاذعان، هي علاقة العلية والمعلولية بمعني استحالة تخلف النتيجة عن مقدماتها واستحالة تخلف الاذعان عن النتيجة. لكن الحق ان الفلاسفة اثبتوا خلاف ذلك. فقد ذكر السبزواري في منظومته في بحث القياس ان الرابطة ليست هي رابطة العلة والمعلول بل المقدمات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 92

اعدادية فقط، والمتكلمون ذكروا بأن سنة اللَّه جل وعلي قد جرت علي أنه اذا أدركت تلك المقدمات فإنها تكون معدة لافاضة النتيجة علي الإنسان. وهذه الافاضة من العقول العالية علي العقل البشري النازل.

والذي اوقع البعض في هذا الوهم هو عدم التخلف وغفلوا عن أن هذا لا ينحصر بالعلية، وقد ذكر الحق سبحانه في امثال الفلاح الذي يقوم بعملية الزرع حيث نص سبحانه علي ان وظيفته ليست افاضة وجود الشجرة علي البذرة بل يقوم الفلاح بالاعداد عن طريق

تهيئة التربة ووضع البذرة وريّها اما المفيض لوجود هذا النبات هو الحق سبحانه «ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» وقد اثبت الفلاسفة ان الجسم لا يمكن ان يُفيض صورة جسمية أخري. وهكذا الارتباط بين النتيجه والحكم والاذعان فالوظيفة التي يقوم بها العقل العملي هو الاذعان بالنتيجة فهذا هو الحالة الطبيعية وهي بذلك تكون معدة لحصول ذلك الاذعان وليست علة.

4- ان ما ذكرناه سابقا في تسلسل عملية الادراك في الجهاز الوجودي للانسان هي الحالة الطبيعية والتي بمقتضاها ينصاع الاسفل إلي الاعلي، وتمارس القوي العليا هيمنتها علي القوي النازلة، وتنساب عملية الفكر والادراك في هذه المراحل المتسلسلة.

لكن هذا التسلسل لعملية الادراك يواجه عوائق وموانع تمنع عن حصول الادراك الصحيح وتمنع من خروج التصرف الصحيح طبقا للادراك الصحيح، وتؤدي هذه العوائق إلي قلب عملية التفكير حيث تسيطر القوي النازلة علي القوي العالية وتتحكم بادراكاتها بمعني ان ما ندركه هو ما يحقق كمالات تلك القوي، فيندفع الإنسان حينئذ إلي تحقيق شهواته واشباع رغباته الفتاكة.

ومن هذه الأمراض «1»:

مرض الجُربزة وهي مقابل للبلادة وهي البطء الشديد في ادراك النتائج بعد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 93

ادراك- المقدمات العناد- وهي عدم انسياق العقل العملي لمدركات العقل النظري مع العلم بصحتها- الوسوسة- الاضطراب.

فهذه الامراض التي تمنع من حصول اذعان النفس بمدركات العقل النظري.

وهذه الامراض هي التي تصيب قوي الإنسان في ادراكاته الحصولية، وهناك امراض تصيب درجات اداركه الحضورية، حيث تمنعه من الترقي الوجودي وتمنعه من الوصول بل ومن الاتصال بالصقع الربوبي، فيبتعد اكثر عن ساحة الحق ويصير بينه وبين الحقائق حاجبا وساترا لا يزول إلا بالتقوي والعمل الصالح ولقد قال عز من قائل «اتَّقُوا اللَّهَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» «1»

.ومن هذه المقدمات الاربعة تنتقل إلي ما نريد التوصل

اليه وهو إنه مع وجود هذه المراحل في ادراك الإنسان، ووجود مثل تلك الموانع والعوائق التي تؤثر في صدور القرار الصحيح والفعل النافع، كيف يمكن تقليده صلاحية التقنين والتشريع، فيجب ان يمتلك زمام التشريع والتقنين من يكون جهازه الادراكي في مأمن من تلك العوائق والموانع ويكون محلا لافاضة العلوم عليها من العوالم العلوية وتنزلها في مأمن من تشويش ومشاغبة قوي النفس الدنيا.

هذا أذ أرادنا تشريعا يكون مظهرا للحقائق الواقعية ومطابقا وصحيحا.

وهذا الإنسان الذي يمتلك تلك القابلية هو الذي يكون مظهرا للرضا الالهي وللغضب الالهي وللعزائم الالهية وذلك لا يكون الا بأن تتساوي كل حركاته وسكناته بلحاظ التأثر بالعوالم العلوية.

ومن لا يمتلك تلك المكانة والقابلية فلن يكون تشريعه سالما وصحيحا ومن هنا قلنا بأن الولاية التشريعية تابعة للمقام التكويني الخاص.

والمقام الأكمل الذي يصل اليه المشرع والمسن للقوانين هو مقام العصمة، وهي كما لا يخفي علي درجات فبعضهم أصحاب شرائع، وبعضهم اولوا عزم،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 94

وبعضهم شرائعهم دائمة وأبدية وهكذا تختلف درجاتهم العصموية بالاختلاف درجات قربهم من الصقع الربوبي. وتتنزل درجات العصمة حتي تصل إلي العصمة في الإنسان العادي وتتمثل في حدود البديهيات الموجودة في العقل البشري حيث ان عدم وجودها يؤدي إلي نوع من الاضطراب والخلل حيث لا يوجد حينئذ ما يتكأ عليها الفكر البشري.

الوجه الثالث: … ص: 94

السنن التكويني والسنن التشريعي.

ذكرنا فيما سبق ان الإنسان يركز ويستند في علومه إلي نوع محدود من العصمة وذلك من خلال البديهيات الموجودة في العقل البشري والتي ينتهي اليها في كل قضية، وبدونها يحل الاضطراب في الفكر البشري، كما اشرنا فيما سبق إلي ان مدركات العقل العملي والنظري هي الكليات الفوقانية، ولمحدودية العقل البشري احتاج إلي التقنين والاعتبار لضبط الجزئيات الخارجية

وان التفكير البشري في تنزل العلوم الكلية إلي الجزئيات يمر بمراحل متعددة وبجملة من البراهين التي يستعين بها لاحراز التفكير الصحيح. وهما البرهان النظري ورأس ماله العلوم البديهية او البرهان العياني الذي يتصل بالجزئيات، ويضمن اختيار الفعل الاصلح عن طريق قوة الفطنة والتروي التي تستلم من العقل العملي والبرهان النظري النتائج الصادقة الحقيقية. وتستخدم قوة الفطنة القوي الادراكية الجزئية والقوي العمالة السفلية حيث الغضب الرافع للموانع والشهوة المولدة للشوق وبهذا الشكل يصدر الفعل الجزئي صحيحاً غير خاطئ.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 95

التنبيه الخامس: العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري … ص: 95

نلاحظ بعض الظواهر التي يتحد فيها حكم العقلين وان اختلف طريقهما من امثلة ذلك قاعدة اللطف الكلامية المعروفة ومدركها العقل العملي، وقاعدة العناية الفلسفية ومدركها العقل النظري وهما قاعدتان ينتجان نتائج متشابهة بنحو كبير.

وهكذا في بحث العقوبة الاخروية بمقتضي المعاد الجسماني وكون القبح والحسن عقليين، فان العقل العملي يحكم بالعقوبة الاخروية حيث ان مدح اللَّه ثوابه وذمه عقابه أو أن مدح الفعل بالكمال المنتهي إليه وذم الفعل بالنقص، والعقل النظري يحكم به بالعقوبة الاخروية بتوسط نظرية تجسم الأعمال وهكذا سوف نجد موازاة بين قواعد أخري يحكم بها العقلان. فهذا الارتباط بينهما ليس ارتباطاً عفويا وصدفة وانما له منشأ تكويني.

بيان ذلك: أن ضابطة مدركات العقل العملي هو ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وما ينبغي فعله هو الحب التكويني الفطري والانجذاب نحو الكمال فلذا هو يطلبه طلبا تكوينيا ويبتغيه كغاية، وما لا ينبغي فعله هو خلافه أي ما تنفر منه تكوينا.

والكمال هو الخير والوجود والنقص هو الشر والعدم، وضابطة مدركات العقل النظري هي الوجود ونفي الوجود، فمباحث الحكمة النظرية مرتبطة بالكمال والوجود، ومباحثه تؤثر في العقل العملي الذي ينجذب تكويناً نحو الكمال الذي

الامامة الالهية(5)،

ج 1، ص: 96

يحكم به العقل النظري وقد ذكرنا فيما سبق ان محمولات العقل العملي هي الحسن والقبح بمعني المدح والذم، والمدح هو الحكاية عما يختزنه الفعل من الكمال والذم هو الحكاية عما يكنزه من النقص.

وهكذا نلاحظ الارتباط الحاصل بين العقلين والاندماج بين مدركاتهما بحيث يفتح بابا جديداً في الاستدلال الحكمي البرهاني والمعرفة العقلية ويمكن استخدام الادلة الكلامية في المباحث الفلسفية حيث تكون كاشفا كشفا إنيا وكذلك العكس واستخدام الادلة الفلسفية في المباحث الكلامية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 97

المبحث الرابع حجية المعارف القلبية … ص: 97

اشارة

والبحث فيها من جهات: -

الجهة الأولي: في بيان المراد من المعارف القلبية … ص: 97

ان الحديث عن المعارف القلبية متشعب وطويل وسوف نتناول منه ما يهمنا في بحثنا وعن المقدار الذي يكون فيه حجة متميزة عن غير الحجة.

يتفق الفلاسفة علي أن هناك نحوين من الادراكات التي يتوصل بها الإنسان لمعرفة الحقائق الأول هي الادراكات العقلية والثاني هو الادراكات القلبية، وضابطة التفصيل بينهما يعتمد علي كيفية الادراك فالأول يتم عن طريق الصور الحصولية للأشياء والثاني يتم عن طريق الادراكات الحضورية وهو الارتباط بالشي ء ارتباطاً ما.

توضيح ذلك: ان الادراكات العقلية تعتمد علي الصور ويختلف مدي ارتباط هذه الصور بالمادة حسب المراتب.

ففي الصورة الحسية فان نفس الصورة وان كانت مجردة عن الخارج إلا ان لها ثلاثة تعلقات:

1- من جهة الابعاد الطول والعرض والعمق.

2- من جهة المشخصات والالوان.

3- لابد من محاذات وجود خارجي محسوس، ففيها تجرد عن نفس المادة ولها ثلاث تعلقات من لوازم المادة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 98

اما الصورة الخيالية ففيها شي ء من اللطافة اذ يضاف اليها تجرد عن المحاذات لشي ء محسوس لكن مع تعلق من جهة الابعاد ومن جهة العوارض المشخصة.

اما الصورة الوهمية فيضاف اليها تجرد عن الابعاد الثلاثة وعن العوارض لكن تبقي لها تعلق باعتبار وجوب اضافتها إلي الجزئي الحقيقي كحب زيد وبغض عمر وهكذا.

واما في العقل العملي والنظري ففيه تجردات تامة لكن يبقي له تعلق بالصور.

والنفس في ادراكها لهذه الصور المختلفة لها إياب وذهاب وخلط وترتيب وربط بين هذه الصور المختلفة، فقد تغرب عن الصور الحسية اي الوهمية أو الخيالية وتحمل المعني الوهمي علي المعني الحسي وهكذا.

وهذا ما يسمي في الاصطلاح ان النفس لها حركة تجرد وتعلق.

اما المعارف القلبية فهي أشد تجردا حيث لا تتعلق بالصور كما في الادراكات العقلية بل هو الارتباط بالشي ء

بنحو ما.

وللنفس أيضا اياب وذهاب في مراتب المعارف القلبية الاربعة وهي: -

1- القلب وهو الارتباط بحقائق الاشياء من دون توسط الصور المادية، نعم يدرك في هذه المرحلة الصور العينية البرزخية كما في سماع انين الموتي من الصالحين وكذلك تشمل ادراكات عالم المثال، و يقال حينئذ انها تدرك صور الجوهر المثالي.

2- السر وهي الادراكات التي فوق عالم البرزخ والمثال فهي اكثر سعة من مرتبة القلب واكثر احاطة وجودية.

الخفي والاخفي وهي المرتبة المتعلقة بالانوار الربوبية وادراك الاسماء الالهية.

اذا اتضح ذلك نقول:

1- إنه كما ان الادراكات العقلية موجودة في كل انسان لكن قد لا يستطيع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 99

البعض استخدامها ويعجز عن الوصول حتي إلي القوة الوهمية بل تظل نفسه محبوسة بين الحس والخيال، فهكذا المراتب القلبية فهي مراتب شأنية يستطيع كل انسان ان ينالها لكن تحتاج إلي قوة ايمانية وكمالات عالية حتي يكون للنفس سبح في هذه المراتب ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، والإنسان بعمله ومناعة نفسة يرتقي إلي هذه المراتب.

2- ان التمييز بين المراتب القلبية الأربعة هو التمييز في الحدود الوجودية.

3- ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام تبنت الرؤية القلبية للذات المقدسة لا الرؤية الحصولية الوهمية ولا الخيالية ولا الحسية وأما الرؤية العقلية بتوسط المعاني المجردة فقد أثبتتها العديد من الروايات الواردة عنهم المتضمنة للتنبيه علي لزوم الوحدة والبساطة في المعاني والصفات وعدم تطرق التركيب العقلي التحليلي فيها، وأنه الفارق في التوصيف العقلي للذات الواجبة عن الممكنات وهو متطابق مع ما قام عليه البرهان الحكمي.

وفي بعض الروايات «1» انه لو احيل الادراك بالمعاني العقلية لكانت المعرفة أمر لا يطاق عند عامة البشر، كما أن الروايات نبهت علي أن المعبود هو المحكي بالمعاني العقلية وهو المسمي لا

نفس المعاني العقلية وهي الاسم. فالذات المقدسة لا تقتنص بحس ولا بوهم ولا بخيال لعدم الحدود والمقدار فيه. فكيف يمكن اقتناصها بتلك القوي واثبات الرؤية الحسية لها، نعم الادراكات العقلية هي الحالة الوسط بين الادراكات الصورية النازلة وبين الادراكات القلبية، ولذا فهي بوابة علي الغيب لكنها تبقي معان حاكية وليست هي نفس المحكي أي ليست هي نفس الواقع، وهذه الادراكات العقلية بهذا المقدار، والحاكية عن أقصي غيب

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 100

الغيوب وهو الباري جل وعلا هو المقدار المكلف به الناس. اي العبادة عبر ادراكاتهم العقلية.

4- فوائد المعارف القلبية:

أ- ان الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم بل هو مخلوق لعوالم أخري، فهو يعيش منذ ولادته عالمه البرزخي بمعني إنه يصنع بأعماله وعقائده عالمه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الاخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً علي تلكم العوالم.

وقد يظن البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات فما الحاجة إلي الاشراف علي هذه العوالم وهو لم يعشها بمعني لم يحن ظرفها الزماني فنقول: - خير مثال علي ذلك الطفل الذي يعيش في بطن امه يكون له اذن وانف وفم ولسان وشفتين وكل شي ء فَلِمَ كل هذه الاجهزة هل هي حتي يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح ان هذه الاجهزة لأجل ان يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم. وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية فالانسان لا يحتاج اليها في ادارة شئون عالم الدنيا إلا إنه محتاج لها في عالم الاخرة.

ب- ان المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب فكلّ يستطيع ادراك الغيب وكلا يعيش الغيب ولو مرتبة

ضامرة.

ج- الفائدة الجليلة والعظيمة في الادراكات القلبية هي رؤية أشرف مرئي وهو نور واجب الوجود.

5- ان الإنسان اذا أدرك بلحاظ المراتب القلبية حقيقة من الحقائق وأراد لها ان تنزل إلي الادراك العقلي النظري فلابد ان تتنزل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها، فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعني وبوحدة المفهوم،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 101

فالمراتب القلبية تدرك الشي ء بوجوده العيني وهويته العينية اما القوة العقلية فهي اكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الادراكين بمن يدرك الشي ء المقابل للمرآة تارة ويدرك تارة أخري صورته في المرآة.

والمرآة هي القوي الادراكية الحصولية العقلية.

6- ان الادراكات العقلية يتصور فيها التصور والشك والترديد والجزم، اما في المدركات القلبية فهي صحيحة دوماً علي صواب أبدً لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية. والسر في ذلك إنه في الادراكات العقلية يكون المدرك هو صورة الشي ء، والحاكي عن الشي ء، فيرد التساؤل عن مدي مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته وان تحصيل اليقين في الامور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما اذا كان نفس الشي ء وعينه حاضرا فإنه يكون يقينا لا لبس فيه ولا ترديد، ومن هنا نجد ان الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية اشار إلي ندرة الحصول علي اليقين بل كلها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلي ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ».

ومن هنا نعرف السر في حث كثير من العلماء علي تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يقتصر علي تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور. إذ الادراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة

لها.

7- ان مراتب الادراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا حيث أن الوصول إلي الحقائق تتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الانسان إلي هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلي تلك المراتب وتكون بالنسبة اليه كفصل جوهري حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلي تلك المرحلة فيتصفح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 102

فالذي يدرك الغيب لا يعني إنه ادرك كل الغيب، فاللَّه عز وجل لا تحيطه الابصار والقلوب بل عرفته القلوب بحقائق الايمان.

8- مما ذكرنا يتضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، واوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من اجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتي تتهيأ النفس لتصفح انوار الملكوت وتقوي الادراكات القلبية، فمنهم من وصل إلي المراد وهو المتبع لطريقة أهل البيت عليهم السلام ومنهم من ضل الطريق وأضل غيره.

9- ان معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية، وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد فيقال ان كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست علي نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبر بذلك الفلاسفة، او حكاية المظهر عن الظاهر كما عبر العرفانيون. لكن هذه الحكاية وان كانت غير قابلة للخطأ والصواب بل هي صواب دائم إلا انها ليست حكاية احاطة لأن الرقيقة لا تمثل كل كمالات الحقيقة.

10- من الأمور التي تدلل علي أهمية الادراكات القلبية هو رجوع جميع الادراكات العقلية اليها بيان ذلك: -

إنه قد ثبت في محله رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلي البديهيات التصورية والتصديقية وهي

رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نري انها في تكونها محتاجة إلي الادراكات القلبية فعندما نقول إنه صادق فيعني عدم احتمال اللامطابقة والسر في ذلك ان النفس تدرك ذاتها ووجودها والصورة نفسها مدركة لديها بالعلم الحضوري فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدي النفس فلا يحتمل اللانطباق، وهذا ببركة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 103

العلم الحضوري.

ونفس الشي ء يقال في أول البديهيات التصديقية وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما فموضوع القضية اجتماع النقضين ومحمولها هو الامتناع.

حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود وحيث إن للوجود محكياً، فتري ان هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلي حقيقة في وجود الإنسان هي إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية اما اتصاله بالغيب فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية: حول ضابطة حجية المعارف القلبية … ص: 103

قد يتراءي لغوية هذا البحث وذلك لما ذكرناه سابقا من ان المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حجة كله، بل كل ادراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلي هذا البحث وذلك لأن العرفاء انفسهم في بحث المكاشفات يشيرون إلي ان المكاشفات علي اقسام وان الادراكات الحضورية علي درجات، وأن بعض الاشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثلات العيانية من الشياطين أو كون قوي النفس قد اختلقتها. فلا يمكن القول بحجية كل الادراكات القلبية، فكما ذكرنا في العلوم الحصولية قد تحصل الحجب والامراض التي تمنع عن ادراك الحقائق فهنا كذلك تحصل حجب النفس التي تحجب الواقع عن ادراكه- وقد تعرضنا تفصيلا في بحث الرؤية القلبية «1» إلي تصرف الشياطين والجن في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 104

قلب الكائن البشري هو تصرف تكويني وفعل حضوري ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

-

وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص والسيد حيدر الآملي في نص النصوص، علي ان من الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني …

فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة باعتبار ان الكتاب ارتباط بعالم الغيب وان القرآن تنزل من الصقع الربوبي.

نلاحظ مما تقدم ان العرفاء ركزوا علي نكتة ان المدركات قد لا تكون من الحقائق فلذا يجب الاعتماد علي الميزان المعصوم وادراك معصوم.

ويتبقي جانب آخر نشير اليه وهو تنزل المدركات القلبيه الي المدركات العقلية، حيث ان العلوم الحضورية يجب ان تنزل إلي القوة العقلية حتي يستطيع ان يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزل يجب ان يكون مأموناً والمقصود بالأمن ان الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب ان تكون متطابقة مع حقائق الاشياء التي توصل اليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا توجد امراض تمنع من تنزل ادراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي علي القوة السفلي، فهنا ايضاً توجد امراض واخطار تمنع من حصول الادراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة وقد تكون الصورة مشوشة.

وبتعبير أخر: ان مرآة العقل قد تصاب بسبب الاخلاق الرديئة او الأعمال السيئة تشوبها حجب فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم

ومن هنا نحتاج إلي ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاحجة. حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ لا في نفس المدرَك، ولا في تنزله، ويظهر من هنا الميزة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 105

للفرد المعصوم حيث إنه لا يدرك الا ما هو حق ولا يتنزل إلا بتنزل من الحق. ومن هنا نري ان القران يوصف بأوصاف متعددة «لَا

يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» فهو مدرك حق «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» اي المعصومون من الذنوب والخطأ «بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ» فالعصمة في صدوره لا تكفي بل عصمة في التنزل من العوالم العلوية.

فالقران الكريم سار مسيرة طولية من العوالم العلوية إلي نفس النبي الاطهر صلي الله عليه و آله إلي ان يصل إلي رسم الخط فيجب ان يحرز ان هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الادراك الحسي وهي مطابقة لقوة المخيلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبيه المطابق لما اوحي له من اللَّه عزوجل.

لذلك نفي عن النبي صلي الله عليه و آله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للاعلي وعدم تصرف الشيطان في قلبه، فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول صلي الله عليه و آله من اجل بيان ان هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل علي أنه ليست كل مدركات القلب حجة و الا لما احتيج إلي كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة الميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة حيث يعبران عن الوحي المعصوم وكذلك العقل البديهي والنظري فيمكن عرض التنزل علي تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني انكار الغيب او انكار للمدركات القلبية بل هي الضابطة التي تحتاج اليها النفوس البشرية غير المعصومة. ونحن لا ننفيها بنحو مطلق بل ننفي الحجية المطلقة لها.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 106

خاتمة: حول العلاقة بين الحجج الاربعة … ص: 106

لقد مضي الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الاربعة اثنان نقليان هما الكتاب والسنة واثنان تكوينيان هما العقل والقلب والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلي الارتباط والعلاقة

بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها امور: -

- ان الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل والعرفان وهو الباحث عن لغة الادراكات الحضورية، وهما تلميذان يؤهلان لفهم نكات الوحي.

- ان العقل والقلب يرجع اليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يرجع إلي محكمات النص ليرفع متشابهات العقل والقلب فيرفع متشابة كل منهما بمحكم الآخر.

- ان العقل والقلب شأنهماالادراك، اما الوحي فهو نفس المدرَك.

- وقال البعض: - ان وظيفة العقل والقلب هو التصور، وأما الحكم فهو من وظيفة الوحي بمعني ان المخاطَب هو العقل والقلب اما نفس الخطاب هو الكتاب والسنة حيث انهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوي النازلة بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها احداث التصور، واللغة العقلية وظيفتها احداث أصل الادراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع فالمدرك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرك لهذه الاشعاعات النورية هو القلب.

فكما أن الالفاظ موصلة للمعني وبها يحتج فكذلك في لغة العقل بهما يحتج علي الإنسان فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هو الوحي.

بتعبير آخر: ان العقل ايضاً يحكم ويصدق ويدرك التصورات ولكن يتبع حكم الوحي والشارع. فليس فيه الغاء لدورهما.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 107

- ان هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عز وجل في طريقة التفكير البشري، فالعلم وان كان نورا يقذفه اللَّه في قلب الإنسان الا ان طريقه القذف تعتمد علي أحد نحوين:

الاول: هي الوصول إلي الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدمات والمواد وعبر مراعاة موازين ما يسمي بالمنطق، وذكرنا انها معدات تعد الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل والايمان والمعارف، فيصل الإنسان إلي العلوم الحضورية وهذا مسلك الاشراق والعرفاء …

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الانسانية، ويضاف إلي

هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي (الكتاب والسنة).

وهذه الطرق ليست متقابلة بل يجب الاستعانة بكل منها مع الاخر فاذا استمد الإنسان بالسنتين التكوينيتين دون الوحي فيعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الاخير إلا بالرافدين الاوليين لانهما قناتي وطريقي المعارف.

- ووجه آخر لبيان العلاقة وهو ان الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغة الأهمية من حيث كونها معدة للتأهل وخوض الوحي لفهم اسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الاجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطرق المختلفة بوضع كلٍ في دوره الموظف له بحيث لا يلغي أحدهما الاخر بل الوصول إلي الحالة الوسطية، وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية، ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 108

وفي حديث طويل عن الصادق عليه السلام أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم وانهم مخلوقون … وعرفوا به الحسن من القبيح وأن الظلمة في الجهل وان النور في العلم فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: ان العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته علم، أن اللَّه هو الحق وانه هو ربه، وعلم ان لخالقه محبة وان له كراهية وأن له طاعة وان له معصية فلم يجد عقله يدله علي ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه …» الحديث «1».

فيبين الإمام عليه السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل، ثم سأل سائل

هل يكتفي بالعقل فقال: إنه علّم العقل بانه لا يصل الي الحقائق من رضي اللَّه وغيرهما … بل يصل اليها بعلم الوحي.

فلابد منهما كليهما ولا يتوهم ان الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض بل هو غيب وشهادة وذلك اننا اذا حافظنا علي موازين تلقي معارف الغيب حينئذ يكون التنزل سليما حتي الي عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب ان تؤتي من ابوابها فلابد من التدرج عبر بوابة العقل ثم بوابة القلب، فكما ان سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرج فكذلك تنزل هذه المعارف.

فالنتيجة ان التمسك بالوحي ورفض العقل والقلب هو رفض للوحي ايضاً وذلك لأن المخاطب بالكتاب والسنة هو العقل وجعل المخاطب غير العقل والغاء شرط العقل هو في الواقع الغاء للكتاب والسنة.

وكذلك من تمسك بالعقل من دون الكتاب والسنة فقد ضيع العقل ايضاً،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 109

وذلك لأن التمسك بالعقل والقلب هو ابقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلي المعاني العالية وهو حرمان للعقل من المعارف الالهية، وكذلك من ادعي انه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلي النكات العقلية فقد أنزل المعارف من مستواها العالي، فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلامة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الاربعة ولا يقتصر علي جانب دون آخر، وممن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق هو الملا صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدي موفقية كل منهما في النتائج التي توصلا اليها إلا أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه فلم يقصر فكره علي طريقة واحدة ومنهجية واحدة، حيث إنه استفاد من نكات مذكوره في السنة في ايجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن اثباتها كالمعاد الجسماني.

- اما الشيخ الانصاري

فيذكر في الرسائل:

ان التنافي بين الادلة النقلية والادلة العقلية لو قدر وجوده لا يخرج عن صور ثلاث:

اما صورة التعارض لدليلين قطعيين.

واما صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

واما صورة تعارض نقلي ظني وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

اما الصورة الاولي: فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين اليها قط.

اما الصورة الثانية: فهي وان كانت بدوا تعارض إلا أن الإنسان اذا دقق ولاحظ في مواد الدليل العقلي لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن اننا للوهلة الاولي لا نلتفت الي ذلك بل بعد فتره من الزمن حيث نتصور استحكام التعارض والسر في عدم التعارض هو ان الوحي برهان وقطعي حيث ثبت واقعيته. وإنه من واجب الوجود فلا يمكن ان يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبّه الملا صدرا إلي ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 110

قول المعصوم يمكن ان يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

اما الصورة الثالثة: إنه لو اعيد النظر في العقل القطعي وتأكدت من قطعيته فانه يكون قرينة علي التصرف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي وفي هذه الصورة نلاحظ ان العقل الظني ليس بحجة اما النقلي الظني فقد ذكرنا في بداية بحثنا امكان اعتباره ووقوعه- كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلي ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلي توصية هامة وهي: -

انه في بحوث المقام يجب التتبع وبذل الجهد للحصول علي المعارف النقلية القطعية منها والظنية المعتبرة بناءً علي اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرف»، فكما نجهد انفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية فانه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيات النقلية، ومما يؤسف له قلة الجهود المبذولة

في هذا المضمار بالقياس إلي حجم النقل الواصل بإيدينا وبالقياس إلي ما يبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو اثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية ولأمكن العثور علي جم كبير من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

****

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 111

الفصل الثاني: نظرية الحكم علي ضوء الإمامة الإلهية … ص: 111

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 113

نظرية الحكم علي ضوء الإمامة الإلهية

المبحث الأول لمحة تاريخية … ص: 113

ان الناظر للتاريخ الاسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته ل منها في مسألة الخلافة والحاكمية، يري كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهي وبين التنظير والتطبيق لدي اكثر المذاهب الاسلامية، فكثير ممن رفعوا راية الشوري لم يثبتوا علي مبدأ واحد وقول متحد منذ بداية الخلافة الاسلامية وحتي يومنا هذا، لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبق. كما ان بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا علي مقولتهم بل نري ذلك البعض يحاول ان يخفف من وطأتها ويدمجها مع الشوري ويحاول ان يجعلها شوري عند التطبيق وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون الملل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشوري والنص وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدوها من القول بالنص بل يجعلونها من القول بالشوري، وأوضح مثال علي ذلك هو ما سارت عليه الزيدية والاسماعيلية. حيث حسبوا ان هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم اقامة الحكم الاسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم الي التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الامامية ان تخرج منه وحافطت علي وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشوري. وقد يكون من الامور التي دفعت الي التلفيق هو احجام مَن نُص عليه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 114

عن اقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات الي أن الأئمة عليهم السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة علي كل مَن شاء الرجوع اليهم. وان المتتبع للروايات المتناثرة هنا وهناك يري ان الأئمة كانوا يمارسون كل انواع السلطة وكافة شؤونها وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر وانما قد أدبر الناس عنهم.

واكثر مؤلفي الشيعة ممن تعرضوا للملل والنحل ردوا شبه الزيدية فراجع اكمال الدين

والغيبة للطوسي وأصول الكافي للكليني والكشي في رجاله.

فنري الشهرستاني في الملل والنحل يقول: والاختلاف في الإمامة علي وجهين: أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمة: إما مطلقاً وإما بشرط أن يكون قرشياً علي مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً علي مذهب قوم «1».

وقال: الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام علي قاعدة دينية مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان..

- ثم نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة- فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي اللَّه المسلمين شرها فمن عاد الي مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرّة يجب أن يقتلا … وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة «2».

وقال: الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر علي عمر بالخلافة وقت الوفاة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 115

فمن الناس من قال: قد وليت علينا فظاً غليظاً. وارتفع الخلاف.. «1».

وقال في الباب السادس: الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه علي الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصيةً إما جلياً وإما خفياً واعتقدوا أو الامامة لا تخرج من أولاده وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام اغفاله وإهماله، ولا تفويضه الي العامة وارساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً

عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري: قولا وفعلا، وعقداً، الا في حال التقية ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك» «2».

وقال في الزيدية: اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة (رضي اللَّه عنها)، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي، عالم، زاهد شجاع، سخي، خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة.. وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.. ثم ذكر السليمانية من فرق الزيدية- أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول إن الامامة شوري بين الخلق ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقا باختيار الأمة حقاً اجتهادياً وربما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي رضي الله عنه خطأ لا يبلغ درجة الفسق.. قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج اليها لمعرفة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 116

اللَّه تعالي وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل لكنها يحتاج اليها لإقامة الحدود والقضاء …» «1».

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية وقوله في الإمامة كقول السليمانية..

وأكثرهم- في زماننا- مقلدون لا يرجعون الي رأي واجتهاد أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة ويعظمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة اهل البيت وأما في الفروع فهم علي مذهب أبي حنيفة..» «2».

ويقول سعد بن عبداللَّه الاشعري القمي، وهو من الفقهاء اخذ اصل كتابه في الفرق عن النوبختي وهو من المتكلمين له كتاب الفرق والمقالات، الا ان سعد اضاف علي ما أخذه: واختلف أهل الاهمال في إمامة الفاضل والمفضول فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول

اذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته ووافق سائرهم أصحاب النص علي أن الإمامة لا تكون إلا الفاضل المتقدم، واختلف الكل في الوصية فقال أكثر أهل الاهمال: توفي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يوص الي أحد من الخلق … ثم عدّ البترية والسليمانية من فرق الزيدية من أهل الاهمال» «3»، وقال عن الجارودية من الزيدية.. فقالوا بتفضيل علي ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن من رفع علياً عن هذا المقام فهو كافر، وأن الامة كفرت وضلت في تركها بيعته ثم جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي ثم في الحسين بن علي ثم هي شوري بين أولادهما فمن خرج منهم وشهر سيفه ودعا الي نفسه فهو مستحق للإمامة» «4».. وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي وبعد أن مضي الحسين بن علي لا يثبت الا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 117

باختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم» «1».

وفي المقالات لابن الحسن الاشعري المتوفي 324 ه في ص 451- 467 قال:

وأجمعت الروافض علي ابطال الخروج وانكار السيف ولو قتلت، حتي يظهر لها الإمام، وحتي يأمرها بذلك..».

فهو يشير الي نفس النكتة التي ألمح اليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدي الإمامية في النص وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التارخية يتضح لنا امران:

1- هي ان الصياغات المختلفة للشوري والتلفيق بينها وبين النص معدود عند اصحاب التراجم والمؤرخين في منهج يقابل النص.

2- ان بعض الفرق الشيعية- في الأصل- انتقلت من النص الي الشوري او الي التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلمة لزوم اقامة الحكومة الاسلامية، حيث عجزت افكارهم عن

ايجاد حل ضمن اطار النص بخلاف فقهاء الامامية الاثني عشرية الذين مع بقائهم وتمسكهم بالنص استطاعوا ايجاد صيغ بديلة عن الشوري او التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفرق: الزيدية الذين نتيجة هذا التصادم ذهبوا الي ما ذهبوا اليه، وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه اكمال الدين واتمام النعمة ص 77 فصلًا في الجواب عنه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 119

«1»

المبحث الثاني النظريات المختلفة في ادارة شؤون الحكم ودور الشوري فيها … ص: 119

1- النظرية الاولي المشهورة: … ص: 119

من أن للأمة صلاحية البت في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم الي كافة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 120

الاجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلا انها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الاسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة الي دولة بني امية وبني العباس، لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث:

ان السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو علي الأكثرية الكمية او علي الكيفية مما قد يصطلح عليه أهل الحل والعقد، وعلي الفرضية الاولي هل هي مطلق الكثرة النسبية ولا يلتفت الي الطرف المقابل ولو كان بنسبة 40% فما فوق، حتي وإن كان الطرف الأقل أكثر وعيا وأبصر بالأمر.

ثم هل المدار علي ما يهوي المنتخبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيدون في انتخابهم بشرائط خاصة.

وهل عليهم مراعاة توفرها بالنحو الاكمل في المنتخب أم بأي درجة كانت.

ومنها: أن الاساس القانوني او بتعبير آخر شرعية الحاكم في تولي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده.

فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها العامة، وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص اذ لا تسري عليه كل احكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي

ولاية علي الأمة وهذه يتصور علي نحوين:

احدهما: ان تنقل الأمة الولاية التي لديها علي نفسها إلي هذا الحاكم.

والاخر: أن يكون له الولاية من قبل اهل الحل والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 121

ففقهاء المذاهب مختلفون في تحديد شرعية سلطة الحاكم.

وقد ظهر متأخراً طرح ثالث للشوري وهو أن الشوري تكون كاشفة ومبينة عمن له حق الولاية في علم اللَّه عزوجل، والشوري تكون كاشفاً اثباتياً عن الاجدر والاكثر تأهلًا لنيل منصب الولاية، وان الولاية ثابتة له من اللَّه عزوجل. ويظهر هذا الطرح في كتابات بعض المتأخرين من اتباع المذاهب غير الإمامية.

النطرية الثانية: … ص: 121

ان الولاية تثبت بالنص لشخص الولي إلا أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشوري، وعند فقد النص يكون الأمر شوري، وبالتعبير الحديث يقال ان السلطة التنفيذية بيد الأمة غايتها يكونون مقيدين بالمنصوص عليه وفي حالة عدمه يختارون من تنطبق عليه المواصفات والشرائط، أما السلطة التشريعية فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالاصالة لا بالنيابة عمن اختار المنصوص عليه.

النظرية الثالثة: … ص: 121

في حالة وجود النص فهو المتبع ولا دور للشوري، وفي حالة عدمه او غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية وهم الفقهاء.

وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شوري تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية غايته يكون ذلك تحت نظارة واشراف الفقيه.

ولهذه النظرية صياغات:

1- ان دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث، وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات. وامضاء التشريعات التي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 122

تصدرها الهيئة التمثيلية للأمة، وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزية الملة.

2- أن الفقيه يكون له دور المشاهدوالرقيب علي سير عمل السلطات الثلاث، فاذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح تدخل لتقييم اعوجاجها وهذا ما يذكره الشهيد الصدر في عهد الغيبة.

3- ان الفقيه هو المحور في الحكم غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة … وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب ان يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في اعلان الجهاد.

وهذا التفسير الاخير يباين النظرية المزبورة وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.

النظرية الرابعة: … ص: 122

النظرية الرابعة:

أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه ولا يعود الاختيار للأمة.

غايتها ان كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشوري، ويكون رأي الشوري ملزما لهما ولا يجوز لهما مخالفته.

وطبقاً للتعبير الحديث السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه والسلطة التشريعية في كلا الفرضين بيد الأمة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 123

النظرية الخامسة: … ص: 123

أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه حيث ان الولاية للَّه عزوجل يجعلها لمن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمته بالاستشارة لكنه غير ملزم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.

وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبينه فيما بعد اما بالنسبة لغير المعصوم فهي نوع من الاستعانة الفكرية.

وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية وهي مؤدي نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشوري في ادارة شؤون الأمة.

وهناك طرح اخير يتداول بين علماء الامامية وليكن نظرية سادسة حاصله أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جعل المعصوم نيابة عامة ضمن من تتوفر فيهم شرائط خاصة. ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمن تتوفر فيهم الشرائط.

وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الامة هي بكون الولاية له من المعصوم لا من الامة، غاية الأمر الاستنابة من المعصوم هي لمن تتوفر فيه شرائط أحدها رجوع الأمة اليه المستفاد من: «فارجعوا فيها الي رواة حديثنا» «اجعلوا بينكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا» «فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً».

وهذا الطرح الاخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع اناطة دور للامة في الاختيار والرجوع الي الفقيه.

وقد خالف الإنصاف من نسب النظريات الاخري الي الامامية بل هي رأي

عدةٍ من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب الي الضرورة عندهم، ومن ثم لم يكن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 124

من الانصاف ايضاً التعبير والاقتصار علي تلك النظريات مع كونها خلاف ظاهر المشهور بين الإمامية، فإن تصريحاتهم تنادي بالخلاف مع إطباقهم في كل الطبقات علي حصر مشروعية الحكم بكل شعبه وفي كل الأدوار الزمانية بالنص.

وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقامة الحدود وكتاب القضاء، وكتاب الجهاد ومسألة التولي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرمة.

ولابد أن نشير إلي أن النظريات الاربعة عندما تسند دور الشوري في تشريع القوانين فان ذلك يكون في الموارد التي سكت عنها الشارع ولم يكن له فيها حكم خاص، وبتعبير اخر أن الشوري تكون لسد منطقة الفراغ في التشريع.

بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة حيث لا يكون لمجلس الشوري- مثلًا- اي دور تشريعي بل هو اشبه بالمجلس الاستشاري فتحتاج قوانينه الي امضاء الفقيه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 125

المبحث الثالث: الادلة النقلية التي اقيمت علي النظريات المختلفة … ص: 125

اشارة

وتشترك النظريات الأربعة في اناطة جانب من الحكم- التنفيذي والتشريعي.

- بالأصالة للأمة، ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟

والمستدل بهذه الادلة تارة يستدل علي أن الولاية لمجموع الامة وتارة للنخبة وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها علي أن الولاية ثابتة للامة في عصر الغيبة فقط دون عصر النص.

أولًا: الادلة المتضمنة للفظ الشوري: … ص: 125
1 الآيات: … ص: 125

وقد ورد لفظ الشوري في موضعين من القرآن الكريم:

أ- قوله تعالي: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» «1»

.ب- «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» «2»

.فالآية الاولي وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 126

المؤمنين وبعض هذه الصفات الزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الامر في الآية الاولي تجلي الخطاب اذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافة الشؤون حتي بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها علي هذا النوع من الاسلوب وهو المشورة.

اما الآية الثانية فورد فيه لفظان الأول: امرهم والمراد به الشأن او الشي ء المهم، وعند اضافته الي المسلمين يكون المجموع دالًا علي أن الأمر والشي ء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بادارة شؤون المجتمع؟!

اما الشوري فتعني تداول الاراء بين المجموع، وكلمة بينهم تؤكد دخالة المجموع في ابداء الرأي واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.

والآية الكريمة تعدد مجموعة من صفات المؤمنين أكثرها الزامي كاقامة الصلاة والانفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلقه بالوظائف العامة والامور التي تعني

المجتمع لا تقبل الندبية، حيث أن بعض الامور ان شرعت وجبت ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يستدل علي الزامية الشوري الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكية وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعني المتعارف.

2 الاستدلال بسيرة الرسول … ص: 126

الأكرم صلي الله عليه و آله حيث التزم بالشوري في عدة مواضع:

1- واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول اللَّه أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا انزلكه اللَّه ليس لنا ان تقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يارسول اللَّه فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتي نأتي اول

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 127

ماء من القوم فتنزله ثم تغور ما وراءه من القُلُب، ثم تبني عليه حوضاً فتملؤه ماءً ثم تقاتل القوم فتشرب ولا يشربون، فقال له الرسول صلي الله عليه و آله: لقد اشرت بالرأي «1».

2- غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير علي أنه صلي الله عليه و آله كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل صلي الله عليه و آله بيته وخرج لابساً لامته وصلي بهم الجمعة، ثم خرج فندم الناس وقالوا: يارسول اللَّه استكرهنا ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد صلي اللَّه عليك. فقال صلي الله عليه و آله: ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن يضعها حتي يقاتل «2».

3- غزوة الاحزاب- الخندق: … ص: 127

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق. وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول صلي الله عليه و آله عقد الصلح مع غطفان، فأرسل الي عيينة بن حصين والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة علي أن يرجعا بمن معهما عنه وعن اصحابه، فلما اراد أن يوقع معهما الشهادة والصلح بعث الي سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فقالا:

يارسول اللَّه، أمراً تحبه

فنصنعه أم شيئاً أمرك به اللَّه لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شي ء أصنعه لكم، واللَّه ما أصنع ذلك الا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم الي امرٍ ما. فقال له سعد بن معاذ: يارسول اللَّه قد كنّا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك باللَّه وعبادة الاوثان لا نعبد اللَّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِريً أو بيعاً. أفحين أكرمنا اللَّه بالاسلام وهدانا له واعزنا بك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 128

وبه نعطيهم اموالنا. واللَّه مالنا بهذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلا السيف حتي يحكم اللَّه بيننا وبينهم، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: فأنت وذلك فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: يجهزوا علينا «1».

فهذه المواقف هي نبذ يسيرة من سيرة الرسول صلي الله عليه و آله في تعامله مع قومه وانه كان ينزل عند رأي من يستشارهم، ولو لم يكن ينزل عند رأيهم لكان الامر بالمشورة لغواً وعبثاً.

وعليه نعود الي الآيتين الكريمتين فان الامر الواردالاستشارة فيه اما ان نعممه الي رأس الهرم السياسي وهو الخليفة والزعيم او لا أقل يستفاد منها الالزام في الوظائف التي تهم المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.

3- الاستدلال بالعديد من الروايات الدالة علي وجوب الشوري، ونحن نقسمها الي أصناف:

الصنف الأول: … ص: 128

روايات الشوري: قول علي عليه السلام في النهج/ قسم الكتب/ 6: «انه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان، علي ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وانما الشوري للمهاجرين والانصار فإن اجتمعوا علي رجل وسمّوه إماماً كان ذلك للَّه رضي،

فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه الي ما خرج منه.

فإن أبي قاتلوه علي اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه اللَّه ما تولي، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي وكان نقضهما كردهما فجاهدتهما علي ذلك حتي جاء الحق وظهر أمر اللَّه وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون» وقد ذكر صدرها ابن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 129

مزاحم في وقعة صفين: «أما بعد فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني..».

- النبوي: «إذا كان امراؤكم خياركم واغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شوري بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها» «1»

.- النبوي: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» البخاري كتاب المغازي باب كتابه صلي الله عليه و آله الي كسري.

- قوله عليه السلام عندما اريد البيعة له: «دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الي قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن ولّيتموه أمركم وانا لكن زوير خير لكم من امير» «2»

.- تاريخ اليعقوبي 2: 9 في احداث غزوة مؤتة قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: أن أمير الجيوش زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبداللَّه بن رواحة فإن قتل (فليرتضي المسلمون من أحبوا).

- وفي الطبري 6/ 3066 عن ابن الحنفية «كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الامر منك، لا اقدم سابقة ولا اقرب من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: لا تفعلوا فاني اكون وزيراً خير من أن أكون أميرا،

فقالوا: لا واللَّه، ما نحن بفاعلين حتي نبايعك.

قال: ففي المسجد، فان بيعتي لا تكون خفية ولا تكون الا عن رضي المسلمين».

- وفي الكامل 3/ 193: «أيها الناس عن ملأ وأذن إنّ هذا امركم ليس لأحد فيه حق الا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس علي أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم الا أن اكون عليكم، ألا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 130

وانه ليس لي دونكم الا مفاتيح ما لكم وليس لي أن أخذ درهماً دونكم».

- كشف المحجة لابن طاووس/ 180 قوله عليه السلام: «وقد كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عهد اليّ عهداً فقال: ياابن أبي طالب لك ولاء امتي، فان ولوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وان اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه».

- النبوي في شرح ابن أبي الحديد 11/ 11: «ان تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا».

- كتاب سليم بن قيس/ 118 عن النبي صلي الله عليه و آله قال: «ما ولت امة قط أمرها رجلًا وفيهم أعلم منه الا لم يزل امرهم يذهب سفالًا حتي يرجعوا الي ما تركوا».

- كتاب سليم بن قيس/ 182 عنه عليه السلام، والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام علي المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل … أن لا يعملوا عملًا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يدا ولا رجلًا ولا يبدؤوا بشي ء بل أن يختاروا لأنفسهم اماما عفيفاً عالما عارفا بالقضاء والسنة يجمع أمرهم».

- مقاتل الطالبيين/ 36 عن الحسن المجتبي عليه السلام في خطاب لمعاوية «ان علياً لما مضي لسبيله.. ولّاني المسلمون الأمر بعده، فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم اني أحق بهذا الأمر منك».

- بحار الأنوار 44/ 65 ب 19 كيفية المصالحة من

تاريخ الإمام الحسن عليه السلام:

«صالحه علي أن يسلم له ولاية أمر المسلمين، علي أن يعمل فيهم بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد الي أحد من بعده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شوري بين المسلمين».

- إرشاد المفيد/ 185- الكامل في التأريخ ابن الأثير 4/ 20- كتاب وجهاء الكوفة لسيد الشهداء عليه السلام: «أما بعد فالحمد للَّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزي علي هذه الامة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضي منها»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 131

فأجابهم عليه السلام: «اني باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فان كتب إلي انه قد اجتمع رأي ملائكم وذوي الحجي والفضل منكم علي مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني اقدم اليكم وشيكاً».

- الدعائم 2/ 572 كتاب آداب القضاء عن الصادق عليه السلام: «ولاية أهل العدل الذين أمر اللَّه بولايتهم، وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من اللَّه».

- قوله عليه السلام لطلحة والزبير: «ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما» «1»

.- سنن أبي داود ج 2. كتاب الجهاد باب القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.

عن النبي صلي الله عليه و آله اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمر أحدهم. وفي مسند أحمد بن جنبل ج 2/ 177 لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم.

- في كتاب الوثائق السياسية ص 120 الوثيقة 33 معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه ليس عليكم أمير إلا من انفسكم او عن أهل رسول اللَّه والسلام.

- في خطبة الإمام علي عليه السلام رقم 73.

«ولعمري لأن

كانت الإمامة لا تنعقد حتي تحضرها عامة الناس فما الي ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون علي مَن غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار».

وفي الخطبة 127: «والزموا السواد الاعظم فإنّ يد اللَّه مع الجماعة واياكم والفرقة».

- وفي وقعة صفين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الامام ومعاوية قال معاوية:

إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا علي غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا، فقال علي عليه السلام: «انما الناس تتبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 132

علي ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولستُ استحل أن أدع حزب معاوية يحكم علي الامة ويركبهم ويشق عصاهم».

فرجعوا الي معاوية فأخبروه بذلك فقال: ليس كما يقول، فما بال مَن هاهنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في الأمر فيؤامِروه، فانصرفوا الي علي عليه السلام فقالوا له ذلك واخبروه فقال عليه السلام: «ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة وليس في الارض بدري الا وقد بايعني وهو معي، أو قد أقام ورضي فلا يغرنّكم معاوية من انفسكم ودينكم» «1»

.فهذا الجواب للامام يدلل علي مدي قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحل والعقد.

وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الامصار بعد مقتل عثمان وارادوا مبايعته فقال: انما ذلك لاهل الشوري وأهل بدر.

ولا يتصور أن اجوبة الامام هي في مقام المحاجة فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام عن ابائه عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و آله: «من جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الامة امرها ويتولي من غير مشورة فاقتلوه» «2»

.فهي ليست في مقام المحاجة بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الامة وهو الشوري وعدم جواز الخروج عن رأيهم.

الصنف الثاني: … ص: 132

روايات

الاستشارة: وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعني تؤكد علي ضرورة المشاورة والاستشارة في كافة الامور نحو قوله عليه السلام: «لن يهلك امرؤ عن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 133

مشورة»، «خاطر بنفسه من استغني برأيه»، وذكرت الروايات فضيلة المشاورة والشروط الواجب توفرها في المستشار من الايمان والعقل وهي مفصلة يمكن ملاحظتها في وسائل الشيعة كتاب الحج. ابواب احكام العشرة باب 21- 26 وفي بحار الانوار الجزء 72 باب 43- 48.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة:

أ- ان التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلل علي محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاتباع لكان الامر بها والحث عليها بهذا النحو لغوا وعبثاً.

ب- انه قد ورد في بعض الروايات علي نحو القضية الشرطية من لم يستشر هلك. فقد يقول قائل ان الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه لكن اذا عممنا الامر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهم صالح المجتمع فان الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأي نحو كان. فهي تدلّ علي وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.

ج- بعض الروايات توجب اتباع اراء المستشارين وفي بعضها التحذير «اياك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا» «1»

. فهذه تدل علي لزوم الاخذ بالاستشارة.

د- ورد في روايةٍ انه قيل: «يارسول اللَّه ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم» «2»

.فالاستشارة لها ارتباط بالحزم وهو استجماع العزم والارادة فالارادة في مثل هذه الامور التي تهم المجتمع والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم يجب أن تكون صادرة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 134

ومنبعثة عن الاستشارة.

ه- ان العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة وذلك لأن عقل الانسان وحده غير محيط بجهات الحسن والقبح في الافعال فإذا أراد أن يقدم علي أمرٍ ما يجب عليه مشاورة

الاخرين والاخذ بارآئهم حتي يظهر له وجوه الحسن والقبح، وتزداد أهمية الاستشارة كلما ازدادت أهمية المورد الذي يريد الانسان أخذ قرار فيه، فكيف اذا كان شأناً من شؤون المجتمع العامة والمصالح العامة. والحكم والعلل المذكورة في الروايات انما هي ارشاد لهذا الحكم العقلي.

وقد يقال: ان الآيات والروايات الواردة في الشوري لا تدل علي المطلوب وذلك لانها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الاغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحل والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ وهذا مع عظم أهمية الشوري حسب مدعي القائل ودخالتها في تلك الامور الهامة فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟

والجواب: انه مما لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول صلي الله عليه و آله قد اتخذ عدداً معيناً للمشورة فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان ومع ذلك فانه سوف يتمسك بهذا العدد حتي مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الآف الاضعاف، فلذلك لم يشأ الرسول صلي الله عليه و آله أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتي يكون لكل مجتمع في كل زمان ما يرتأيه طبقاً لظروفه الخاصة وحتي يكون الاسلام متلائماً مع التطورات الحاصلة في كل مجتمع.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الاولي وهي أهم الطوائف، يبقي كيفية الاستفادة من الشوري في اتخاذ الاراء والقرارات هل يتبع الكم ام الكيف؟

فمن جهة يقال انه من اجل حفظ النظام واستقامة الامر لا يمكن طرح رأي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 135

الاكثرية فيجب أن يؤخذ به علي حساب الاقلية.

والمشكلة تنشأ من أن الأقلية لو كانت متضمنة لرأي نخبة المجتمع من المفكرين والعلماء، فكيف يمكن

غمض النظر عن هذا الأمر وترجيح رأي الاكثرية.

فذهب كثير الي محاولة التلفيق بين هذين الرأين:

- فقال البعض إن الامة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة وهؤلاء ينتخبون الولي.

- أن توضع حدود لانتخاب واختيار الامة اي لا تكون الامور مطلقة علي عنانها بالنسبة للامة بل يجب أن يتقيدوا بقوانين وأحكام اسلامية.

التقييم: … ص: 135
أولا: رأي آخر في فهم الأدلة: … ص: 135

في مقام تقييم هذه الادلة من آيات وروايات وقبل أن نبدأ بالاجابة علي كل نقطة من النقاط السابقة فانا نذكر ان نفس الآيتين اللتين استدل بهما علي الشوري يوجد لهما تفسير آخر وهو مشهور وشائع بين المفسرين والمفكرين وحاصل ذلك:

ان المستفاد من الآيات والروايات هو حث المكلف- الذي هو في موضع المسؤولية عن الامة وادارة شؤونها بل حتي في اموره الخاصة- علي الاستشارة وتوسعة افق التفكير ومنابعه، وعدم التعنت برأيه والتوحد به بل يلزم الانسان بفحص اراء الآخرين مع تمسكه بأن يكون الرأي النهائي له والا يكون متحركاً تبعاً لارادة المجموع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 136

بيان ذلك:

ذكرنا سابقاً في الفصل الاول عن وجود قوتين مفكرتين في النفس البشرية أحدهما النظرية والاخري العملية فالاولي تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفرة لأجل تهيئة مقدمات استكشاف المجهول وادراك النتيجة.

والاخري عملية تقوم بدور الاذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة وتسيير القوي السفلي وممارسة دور الامير والتوجيه لها.

وبتعبير آخر ان الانسان في منهجية تفكيره يتبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشوري والتشريع حيث دور البحث والتنقيب، ثم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالاذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها ثم دور التنفيذ وتوجيه القوي العمالة.

فالانسان في تفكيره ينطوي علي تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني. لذلك عبر عن المجتمع بالانسان المجموعي، وكلما دققنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الانسان الصغير

سوف يتضح لنا حلًا لملابسات كثيرة في الانسان المجموعي.

فالمدعي هو أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوي الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوي العملية وسلطتها العمالة علي القوي النازلة وهي الارادة، ثم ترد مرحلة الجزم والتسليم والاذعان وهي مرحلة قضائية اذ تكون فيصلًا بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية فالقضاء يقوم بتحديد الكبري وهو عمل فكري وليس بعملي ثم تطبيق الكبري علي النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة امامه.

وعلي كل حال فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الاول من افعال العقل وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو ادراك النتيجة فهو أمر غير مسألة البحث وان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 137

اختص بها العقل النظري أيضاً إلا انه ليس عين الفعل الأول، ويبقي الفعل الثالث وهو الجزم والتسليم والاذعان وهو ما اطلقنا عليه بالقضائية.

إذن فالمشورة والتشاور ماهية لفعل ادراك المعلومات لا ماهية لفعل عملي فكيف يناسب عنوان السلطة والولاية والقدرة التي هي عناوين لأفعال القوي العملية، فهناك جمع للآراء تارة واخري جمع للارادات فالشوري عنوان للأول لا للثاني، بل ليست هي في حقيقتها ايضاً جمع للآراء ولي للجمع والاجتماع مدخلية فيها بل هي كما سيأتي في معناه المقرر في اللغة تقليب الآراء لاستخراج الصواب سواء كان هو رأي الواحد أو الأقل او الاكثر فصبغة الرأي المنتخب هو لصوابيته لا لكثرته فهي لا تعني حسم الامر في اتخاذ قرار في مسألة ما بل هو مقدمة لفعل آخر يقوم به المستشير.

واذا عدنا الي مفسري العامة في القرون الاربعة الاولي لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشوري أو تفسير كلا الآيتين بمعني ولاية الشوري، بل علي العكس تراهم يذهبون في تفسيرها الي معني المشورة اللغوية ويشكك الطبري انه

كيف يؤمر النبيّ باتباع الشوري مع انه صلي الله عليه و آله غني عن المسلمين بالوحي «1». ويذكر فوائد الشوري من اقتداء الامة به، وتأليف قلوبهم وينقل ذلك عن قتادة وابن اسحاق والربيع والضحاك والحسن البصري، والسيوطي في الدر المنثور يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة علي حسن الاستشارة واستحبابها، وان المشاورة من الامور الموصلة للحق ومنها ما عن الامام علي عليه السلام: يارسول اللَّه اذا نزل بنا الأمر من بعدك وليس فيه قران وليس فيه من قولك ومن سنتك فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد فترشدون الي أصوب الآراء.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 138

فقد يستفاد منها أنه في مورد منطقة الفراغ يكون التشريع بيد الشوري. إلا ان الامر ليس كذلك بل المشاورة من أجل معالجة الأمر من كافة جوانبه وتبادل الرأي للوصول الي ما هو الصواب في نفسه لا من جهة نسبته للاكثرية أو شبهها.

والزمخشري في ذيل «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» ان الشوري كالفُتيا بمعني التشاور، وفي ذيل «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وهي لتستظهر برأيهم … ويذكر من فوائده لئلا يثقل علي العرب استبداده صلي الله عليه و آله بالرأي دونهم، «فَإِذَا عَزَمْتَ» يعني قطعت الرأي علي شي ء بعد الشوري «1».

فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول صلي الله عليه و آله وهو قد يخالف اكثرية الاراء.

وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين علي ولاية الشوري بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.

اذن خلاصة ما يذهب اليه هذا الرأي انه يوجد منحي في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به اصحاب ولاية الشوري، وأن أوائل المفسرين لم يجعلوا هذه الآية دليلًا علي ولاية الشوري.

مضافاً الي

أن مبدأ ولاية الشوري يقترب من مبدأ سيادة الامة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبر عن حكم الامة، وتدخل الامة في ادارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الاخيرين وما زالت تتدخل فيه يد القانونيين حتي يسدوا الثغرات التي تظهر بين آونة واخري، فلا نجد مظهراً واحداً معبراً عن هذا المبدأ مع أن اغلب دول العالم تتمسك به وان الديمقراطية هي الاساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلا ان الثغرات والعيوب

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 139

الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة دعتهم الي أن يعيدوا النظر مرة وثانية وثالثة ليغيروا في طريقة الانتخاب وأهلية المنتخب وما ذلك إلا لأنهم يرون أن هذه الديمقراطية تؤدي الي مظهر من مظاهر الدكتاتورية الحديثة بسيطرة اصحاب رؤوس الاموال وظهور طبقة معينة تتداول الحكم فيما بينها.

ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة: … ص: 139
اشارة

بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشوري والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين وهو الحق فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة وهي في نفسها تكون دليلًا علي الفهم الآخر الذي ذكرناه وقويناه.

الوجه الاول: … ص: 139

وهو العمدة حيث أن المعني اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.

- الراغب الاصفهاني فسر الشوري بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض الي البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل اذا أخذته من موضعه واستخرجته منه «1».

- وابن منظور في لسان العرب يذكر ان الاصل اللغوي هو من شار العسل اي استخرجه من الوقية واجتناه. ويقال: شرت الدابة اذا أجريتها لتعرف قوتها.

وحمله البعض علي قوله تعالي: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» بمعني لتعلم الامين والمخلص من غيره واستشاره اي طلب منه المشورة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 140

فالمدار في الاشتقاقات تشير الي عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر والوصول الي نتيجة صحيحة «1».

- تاج العروس: فلان شيّرُك وزيرك، يقال: فلان وزير فلان وشيّره اي مشاوره. وجمعه شوراء كما في شُعراء، وأشرني عسلًا واشرني علي عسل أعني علي جنيه وأخذه من مواضعه «2».

وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد اساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الارادي في المسألة، وهو ما اشرنا اليه وأنه الفعل الأول للفكر.

- وأوضح من كل من مضي ما يذكره ابن فارس ان شور وضعت لأصلين مفردين الأول: ابداء شي ء وأظهاره وعرضه. والآخر أخذ شي ء «3».

وكلا المعنين شاهدان علي ما ذكرناه فالاول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفح الاراء.

فتكاد كلمات اللغويين تشير الي هذه الحقيقة في الشوري ولم يرد منها ذكر واشارة الي جهة سلطة أو ارادة أو ولاية أو قدرة تتحلي بها الشوري.

- ومن كتب

اللغة المتأخرة نري ما ذكر في المعجم الوسيط شار الشي ء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار اليه بيده، أومأ إليه معبراً عن معني من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار:

العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي او قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدث (إلا انها ليست مرتجلة بل منقولة عن الاصل اللغوي لمناسبة بين المنقول منه والمنقول اليه بل قد يقال انه نفس المعني القديم وليس معني جديداً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 141

منقولًا «1».

وانما اسهبنا في استعراض كلمات اللغويين لأن عمدة ما يستدل به علي عدم وجود ولاية او سلطة في مادة الشوري هو أصل وضعها اللغوي فاذا ادُعي مثل ذلك في ظهور اللفظة فيجب أن يكون بمؤنة زائدة علي مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة انها شبيه ما يسمي ب (بنك المعلومات او بنك الخبرات).

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيدة لما ذكره اللغويون:

1- ان البشرية تعتمد علي نظام المستشارين في ادارة اي عمل وقلما يوجد مدير أو مسؤول خال عن المستشارين وفي نفس الوقت لا يكون لهم أية سلطة علي المستشير بل وظيفتهم مجرد ابداء الرأي والنصح.

2- ان الفقهاء من الفريقين يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي الاستشارة وهذا يدل علي أن فهمهم لمادة الشوري هو بمعني انتقاء الرأي الصائب لا وجود سلطة للمستشار علي المستشير.

3- سوف نشير فيما بعد الي التحليل الماهوي لمادة الشوري حيث نذكر انه لا ملازمة بين ابداء الرأي ووجوب الأخذ به. وانما الملزم هو حقانية الرأي واستصوابه.

4- أن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلي بها المؤمنون ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لاراء الاخرين، فهي

تشير الي ما يجب أن يتحلي به المسلم في شؤونه الخاصة من تحريه للصواب والحكمة وهي ضالته أينما وجدها أخذها، وليس الامر محصوراً بالشؤون العامة التي تهم جميع المسلمين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 142

5- أن القران اعتني بمسألة الولاية ومن تكون لهم الولاية علي الاخرين ولذا في أي موضع ارادها أشار اليها صراحة «وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ».. فالولاية من الامور المهمة سواء كانت فردية أو جماعية فلو كان الشارع قد ارادها في الشوري لصرح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

6- قد ورد في القران الكريم في قوله تعالي: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..» …

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متفقون علي أن الولاية للأب وأن الحضانة هي للام ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور فمع اختصاص الولاية ندب الي التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزمة للولي وهو الأب بل هي معرفة اراء الاخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

7- ما ورد في قصة بلقيس ملكة سبأ عندما جاءتها رسالة النبي سليمان عليه السلام فانها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها فاشاروا اليها: «نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ».

فواضح انهم عرفوا موقعهم في الدولة وان الأمر بيد الملكة ووظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، والتصميم علي الحرب او السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس بل الاشارة الي أن مسألة الشوري والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الادارة متبع منذ الازمنة الغابرة.

والشارع قد أكد علي ذلك الامر المهم وحثّ عليه.

8- في

سورة الحجرات (49: 6): «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ..».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 143

حيث انها واضحة الدلالة في أن الرسول لو الزم بالاخذ بنتيجة ارائهم دائماً لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الامة الاسلامية الي كيفية التعامل مع الرسول صلي الله عليه و آله وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته صلي الله عليه و آله، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشي ء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم لاجل تمهيد الطاعة له صلي الله عليه و آله.

9- ما ورد في اول سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

اي لا تتقدموا علي رسول اللَّه في البت في الامور فضلًا عن تنفيذها فانها ليست من وظيفتهم بل هي وظيفة القيادة في حسم الامر واتخاذ القرار النهائي. فهم تابعون حتي مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدم هذه الآية من قضية اخبار وليد بن عقبة حول بني المصطلق وتريث الرسول الاكرم في الاخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين بل تصميهم علي العمل بقوله، فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدم علي عزم الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

10- ان الحكمة من المشاورة بناء علي هذا هو ربط القيادة بالقاعدة وتحفيز المواطنين علي المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الاصل اللغوي لاصطلاح الشوري وهو مداولة الاراء وتكون جسراً للتفاهم والتحاور وايصال المرادات حتي يصل القائد والمستشير الي نتيجة أقرب الي الصواب ويقل احتمال الخطأ فيها.

وبناء علي هذا التحقيق في المعني اللغوي نصل

الي ان التعبير السائد بولاية الشوري غير صحيح وذلك لأن الولاية تدل علي القوة العملية والتنفيذية وجهة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 144

الحسم واتخاذ القرار. والشوري تدل علي أصل بداية المداولة الفكرية فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين فهذا تعبير ركيك وأعجمي والأعجب صدوره من ادباء عرب يدعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني: … ص: 144

ما استدل به في «وأمْرَهُم» من ان الاضافة دالة علي أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين.

فجوابه بعد بيان مقدمة ان علماء اصول الفقه واصول القانون يتفقون علي أن القضية لا تتكفل اثبات موضوعها بمعني أن القضية تدل علي ثبوت المحمول والحكم للموضوع ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق، اما تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه فهو قضية اخري لا تتصدي لها نفس القضية.

وبناء عليه فاذا نظرنا الي الآية الكريمة التي تشير الي «وأمْرَهُم» فغاية ما تدل عليه ان الامر والشأن مضاف الي المسلمين ولكي يترتب عليه المحمول كما يدعيه المدعي يجب توفر امران:

احدهما: أن يكون الامر مما يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن يكون صلاحية النظر في هذا الأمر اليهم أي مضاف اليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتي يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب ان نحرز أن هذا الأمر المجموعي مفوض وموكل الي الجماعة ومما لا شك فيه ان تعيين الامام وثبوت النص وعدم اقحام الامة في اختيار قيادتها سيما في عصر النبي صلي الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام أمر مسلم لا يختلف في الأول أحد من المسلمين ولا في الثاني أحد من الشيعة، فانه يدل علي أن هذا الشأن وهو اتخاذ القائد والزعيم ليس من الامور التي تعود صلاحيتها بيد الشوري وعلي كل حال فنفس الآية ومجرد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 145

تعبير «أمْرَهُم»

لا يثبت المراد.

الوجه الثالث: … ص: 145

ملاحظة ذيل الآية «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ».

فان العزم يغاير الشور وهما ليسا بمعني واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً اذ أنه حاصل بعد الاستشارة في سياق الآية الكريمة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثل الفعل الثالث في افعال النفس للانسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الاجرائية والتنفيذية وهي تسند العزم له وحده صلي الله عليه و آله دون بقية المسلمين.

فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً الي أن الشوري جعلت فيها للمجموع أما هنا فانه مسند اليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة واسناداً.

وثالثاً: ان الأمر بالتوكل هو للنبيّ صلي الله عليه و آله والخطاب له وحده.

ورابعاً: ان مادة التوكل يؤتي بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل علي انه صلي الله عليه و آله لو خالف رأيهم فعليه ان يعزم عليه ويتوكل علي اللَّه.

وخصوصاً اذا ما قارنا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَي الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

ففيها ندب للرسول الاكرم ان يربي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح. وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه بل يبقي الامر بيده وعليهم المتابعة والانقياد. فادراة شؤون الامة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره، ولذا حرص الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 146

تربية المؤمنين وحثهم علي القيام بهذه المهمة وتكون الشوري وقيامه صلي الله عليه و آله باستشارتهم لاشعارهم أن الأمر يهمهم وان كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته ويكون له الرأي

النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وان كان مخالفاً لهواهم واكثريتهم.

فاذا كانت سيرة المعصوم عليه السلام مع أمته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني فهو الزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وان كان اختيار الرأي النهائي راجعاً اليه وبيده زمام الامور.

الوجه الرابع: … ص: 146

وهو جواب عما قيل انه لو لم تكن نتيجة الشوري ملزمة لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا الي البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة علي الشوري وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتآليفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الاحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتبع هواه.

ومنها: اشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في ادارة دفة الحكم وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلا أنّ لهم دور في صنعه مما يجعلهم يتعاملون معه في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس بشكل أكبر وحماس أكثر حيث يكون عملهم علي بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للامة علي كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 147

تجعل الانسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وان الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أما بني البشر فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلا من عصمه اللَّه عزوجل، فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلا انهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم علي عدم الاستبداد بالرأي وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول الي أرجح الاراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه، فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: ان الاستشارة تؤدي الي افشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون حيث

انهم يستغلون الغموض الذي يكون في القرارات والاحكام للتلبيس علي الامة، فالاستشارة تؤدي الي رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفياته واضحة معروفة.

فهذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل يتضح ان لا لغوية في البَين وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحث عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.

فاتضح من خلال هذه الوجوه الاربعة أن المستدل اذا استدل بالآية الكريمة علي لزوم رأي الاكثرية من اصطلاح (الشوري وشاورهم) فهو غير دال علي ما ذكر.

اما اذا استدل علي مراده من خلال بيان ان الولاية هي للمجموع فإنه لم يقم الدليل عليه ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما. كما تقدم بيانه بل يجب أن يقيم دليلًا آخر علي أن هذا الامر والشأن هو لمجموع الأمة وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

الوجه الخامس: … ص: 147

لو أغمضنا العين عن حقيقة معني الشوري، وسلمنا أنها بمعني الارادة والولاية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 148

للشوري فإن مقتضي استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ والحق من الوهم والسداد من الخطل، وحينئذ فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي اكثر وهواهم وميولهم الشخصية فانه كثير ما يصحح الصواب ويتبين السداد ويلتفت الاكثر الي صواب القلة لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة الي ذلك، فلازم ولاية لاشوري ليس هو نافذية رأي الكثرة وكون المدار علي الاكثرية بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، والا لكان استخدام عنوان ومادة الشوري في الأدلة خاطئاً وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون املك بأمرهم او أولي به ونحو ذلك مما يعطي محض معني السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط

له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس: … ص: 148

فقد استشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسك بها الرسول الكريم صلي الله عليه و آله برأي الاكثرية المشاورة ولم يخرج عنها. وفي مقام الجواب نشير من باب المقدمة الي حقيقة تأريخية يجب أن يلتفت اليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية. بيان ذلك:

أن المدقق في سيرة النبي الأكرم وما جري بعد انتقاله الي الرفيق الاعلي يلاحظ ان الملتفين حول الرسول الاكرم لم يكونوا علي نسقٍ واحد من الجهة الايمانية بل كانوا علي درجات مختلفة وأهواء متعددة، وان كان وجود النبي صلي الله عليه و آله قد منع البعض من اظهار ما يكنّه لكنه بعد وفاته صلي الله عليه و آله رأي متسعاً لاظهار حقيقة أمره واتباعه لاهوائه فظهر خطان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير اللَّه عزوجل أن يتولي قيادة الامة طيلة سنوات متمادية بل قرون طويلة الخط المناوئ لعلي عليه السلام وأهل بيت النبي صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 149

ومن الساعة الاولي عمل هذا الخط الحاكم علي توطيد سلطانه وملكه علي حساب خط آل محمد صلي الله عليه و آله المتمثل بعلي عليه السلام وشيعته والمُعَنْوَن ب خط الامامة، وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الامة ليست نصية بل هي شوروية. ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدّثين والمؤرخين وكل الاجهزة الاخري لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الاسلامي، ومن هنا فانا نقول ان التاريخ المكتوب ما هو إلا صورة لما اراده الحُكّام. وعليه لايمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب بل يجب الرجوع الي المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية.

ويري أحد الباحثين طرح منهجية

جديدة في دراسة التاريخ، وهي مراجعة القرآن الكريم الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول صلي الله عليه و آله والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتي نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلًا ونقلًا. بعد ذلك نقول:

أولا: كان أهم ما استند عليه المستدل هو غزوة أحد وما قام به الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لما يراه.

وخصوصاً أن آية «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» قد نزلت في هذه الواقعة. فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة.

أنّه لمّا سمع الرسول صلي الله عليه و آله بخروج قريش قال للمسلمين: اني قد رأيت واللَّه خيراً. رأيت بقرا ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني ادخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.

ثم انه استشار قومه في قتال المشركين وكان رأي عبداللَّه بن أبي بن سلول مع رأي النبي صلي الله عليه و آله وهوالبقاء في المدينة. وقال له: يارسول اللَّه، أقم بالمدينة لا تخرج

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 150

اليهم فواللَّه ما خرجنا منها الي عدوٍ لنا قط إلا اصاب منا ولا دخلها علينا أحد الا أصبنا منه، فدعهم يارسول اللَّه فإن أقاموا بشر فحبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وان رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجال ممن أكرمه اللَّه بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان قد فاته يوم بدر: يارسول اللَّه اخرج بنا الي اعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول اللَّه صلي الله عليه و آله الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم

حتي دخل بيته ولبس لامته ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول صلي الله عليه و آله عليهم قالوا: يارسول اللَّه استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلي اللَّه عليك، فقال الرسول صلي الله عليه و آله: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتي يقاتل. فخرج النبي في ألفٍ من اصحابه حتي اذا مشوا مسافة رجع عنه عبداللَّه بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني «1».

هذا هو التقرير الرسمي لما جري في حادثة الاستشارة في غزوة أحد. ونشير مصادر اخري كما في الكامل في التاريخ ابن كثير في (3: 23) وأبي كثير من الناس إلا الخروج الي العدو ولم يتناهوا الي قول رسول اللَّه ورأيه ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر وعامة من أشار اليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً قد علموا الذي سبق لاصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه والشباب المتحمس هو الذي أصر علي الخروج.

اذن فالآية وردت في هذه الغزوة وقد طبقها الرسول صلي الله عليه و آله حيث استشار قومه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 151

ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

وهذا هو ما ادعي في المقام. وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها ايات عديدة فيجب الرجوع إلي عرض هذه الحادثة علي ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها ليحصل الغرض النهائي وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الاخذ بالأمر علي عواهنه من دون غربلة وتحقيق ومن خلال تشعبنا واستخدامنا لهذا المنهج اعني العرض علي القرآن الكريم ومقارنة الروايات

المختلفة نستنتج:

1- ان رأي الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله لم يكن البقاء في المدينة بل الخروج منها.

2- ان الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

3- ان سبب هزيمة المسلمين في أحد لم يكن الخروج من المدينة- كما يظهر من بعض الكتّاب- بل هو تخلف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

4- أن البقاء في المدينة كان رأي عبداللَّه بن ابي بن سلول وهو رأس المنافقين والذي اثني ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله. وقد وافقه علي ذلك أكابر الصحابة وهم الذين كانوا علي رأس عقد البيعة لأبي بكر وهم اصحاب الصحيفة السبعة، اثنين من الانصار وخمسة من المهاجرين.

5- ان القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذم البقاء داخلها.

6- أن اللَّه عزوجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزر قبل غزوة أحد اذا هم خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المدعيات:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 152

القرينة الاولي: ما ورد في تفسير علي بن ابراهيم في ذيل قوله تعالي: «إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا» «1»

.حيث يذكر انها نزلت في عبداللَّه بن أُبي بن سلول واصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، عن الصادق عليه السلام قال: وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر الي مكة وقد أصابهم ما اصابهم من القتل والاسر. قال أبوسفيان: يامعشر قريش لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم فان البكاء والدمعة اذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد ويشمت بنامحمد واصحابه. فلمّا غزا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يوم أحد أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا ارادوا

أن يغزوا رسول اللَّه في أحد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في 3000 فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم علي حرب الرسول صلي الله عليه و آله، وأخرج أبوسفيان هند بن عتبة وخرجت معهم عمرة بنت علقمة فلمّا بلغ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن اللَّه عزوجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث اصحابه علي الجهاد والخروج، فقال عبداللَّه بن ابي بن سلول: يارسول اللَّه لا نخرج من المدينة حتي نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة علي أفواه السكك وعلي السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا وما خرجنا علي عدوٍ لنا قط إلا كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول اللَّه ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون بنا وانت فينا، لا حتي نخرج اليهم فنقاتلهم. فمن قتل منا كان شهيداً ومن نجا كان في هدي. وقبل رسول اللَّه قوله.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 153

فيلاحظ من هذا النص:

- أن رأي بعض الاكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ وهو من الانصار.

- ان دعوي الانصار كانت مستندة الي دلائل علي أن الخروج افضل منها:

أ- أن بقاءنا يطمع فينا أعدائنا ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب- أن ذلك سوف يحرمنا من الاراضي التي حول المدينة حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها مضافاً الي طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

ج- ان عدتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد

المسلمين وقويت شوكتهم.

هذا مضافاً الي أن بعض كتب السير قد عبرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي وعن اصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين فكيف يكون الصواب هو المكث وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب وهي في سورة آل عمران (121- 160).

وهذه الآيات الكريمة تتحدث عن الواقعة بنحو مفصل وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

1- «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» حيث أن اللَّه عزوجل يذكّر النبي صلي الله عليه و آله عندما خرج يهيئ أماكن القتال، ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لما فعله النبي صلي الله عليه و آله من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين علي ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزوجل الي أنه سميع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 154

لأقوالكم وما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم عليم بنياتهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

2- «إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَاوَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة اما عبداللَّه بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه. أو بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس أرادا الرجوع الي المدينة مع ابن سلول إلا أن اللَّه عزوجل اثني ذلك عن قلوبهما. وعلي كل حال فالآية تذم المتخاذل والمتراجع الي المدينة، فكيف يُدّعي أن البقاء في المدينة هو الصائب.

3- «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ء 123 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةٍ مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ

عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ»، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جري يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار وكانوا قلة ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار وذلك بالامداد الغيبي وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وان كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جري قبل الغزوة وتخاذل بعض المسلمين وتذكير الرسول لهؤلاء ان الخروج للقتال هو الافضل حيث ان الامداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يصر عليه من ضرورة البقاء في المدينة لأنه أحفظ للأنفس وأمنع لا داعي له إذ أن المدد الإلهي متيقن واللَّه يعد رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثم تتعرض الآيات (129- 138) الي مواضيع اجنبية عن البحث ويعود الي محل الكلام في الآية 139.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 155

4- «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».

وفي هذه الآية بيان لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي ابانها الرسول صلي الله عليه و آله لهم فسيطر الكفار علي ساحة المعركة فحثهم علي الصبر وعدم الضعف عن الجهاد اذ مع هذه الخسارة المؤقتة فانتم الاعلون، وان كنتم قد أصبتم فقد اصاب الكفار في بدر أكثر مما أصبتم الان، ويذكر سنة من سنن اللَّه في الكون وهي أنّ الايام يصرّفها بين الناس فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.

5- ثم يبين الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة فانها امتحان للمسلمين «وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ء 141 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر، فليس

جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الايمان والاعتقاد فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتي صنوف الاختبار واذا ما انتصر الظالمون يوماً فهذا مؤقت ولا يدل علي حب اللَّه لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالايمان اللفظي بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين يجابهه القرآن ويرفعه ويذكرهم «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» وقد ورد ان المؤمنين عندما اخبرهم اللَّه تعالي بمنزلة شهداء بدر قالوا: اللهم ارنا قتالًا نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين الي لقاء اللَّه.

5- «وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ».

وهذا هو الامتحان الأهم فبعد أن سيطر الكفار علي ساحة المعركة لأسباب سوف تشير اليها الآيات القادمة. ولم يبق مع الرسول الاكرم إلا الخلّص مثل أمير

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 156

المؤمنين وأبو دجانة سماك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قتل وهنا انقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير اليه رواية الطبري «1» قال: انتهي انس بن النضر عم انس بن مالك الي عمربن الخطاب وطلحة بن عبيد اللَّه في رجال من المهاجرين والانصار وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد رسول اللَّه، قال: فما تصنعون بالحياة بعده فموتوا علي ما مات عليه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ثم استقبل القوم فقاتل حتي قُتل.

وفشا في الناس أن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولًا الي عبداللَّه بن أبي فيأخذ لنا أمنة

من أبي سفيان، يا قوم ان محمداًقد قتل فارجعوا الي قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم» «2».

ومنهم عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان وهما رجلان من الانصار فقد فروا حتي بلغوا الجلَعب جبلًا بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً «3» ومن اراد المزيد (الصحيح من سيرة الرسول الاعظم 2/ 240- 250).

فالاية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين.

احدهما المنقلبة والاخري الثابتة مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقد وصف اللَّه عزوجل الاولي انها لا تضر اللَّه شيئاً بل الضرر لأنفسهم أما الثانية فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم اللَّه.

وفي الآيات التالية يؤكد علي ذلك ويكرر الباري تعالي «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي صلي الله عليه و آله علي قول الحق ولا يصيبهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 157

الضعف والحزن والوهن ولا يقعدوا عن الجهاد.

6- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً».

فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي صلي الله عليه و آله فقالوا للمسلمين: ارجعوا الي اخوانكم وارجعوا الي دينهم، فاللَّه هو الناصر وهو المؤيد والمعز.

ومع سيطرة المشركين علي المعركة إلا أن اللَّه قد ألقي في قلوبهم الذعر والخوف وعادوا الي مكة.

7- «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم» فهذا يدل علي وعد سابق من اللَّه لرسوله بالنصر، وبالفعل تحقق هذا النصر في بداية المعركة وقُتل عدد كبير من المشركين «حَتَّي إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ» اي ملتم الي الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول وكان الرسول الاكرم قد نبههم وأمرهم

عند بداية المعركة فقال للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تغيثونا يجب عليكم الثبات في مواقعكم»

لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم «وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ» وهم الثابتون عبداللَّه بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتي قتلوا. «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ» تفضلًا «وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ».

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة ولا مجال حينئذ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 158

8- «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَي أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلي مَا فَاتَكُمْ».

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشايعة موت الرسول صلي الله عليه و آله فاذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم يقول: إليّ عباد اللَّه ارجعوا أنا رسول اللَّه الي اين تفرون عن اللَّه وعن رسوله، مَن يكر فله الجنة. ثم تبين صفة هؤلاء الذين «يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ»، وهو الاعتقاد بأن اللَّه لا قدرة له وأن يد اللَّه مغلولة ولابد من الاستعانة باللات والعزي وهبل فهذا هو اعتقاد الجاهلية.

«قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ» وهو مالك كل شي ء.

فيتضح أن اللَّه قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

1- عصيان الرماة لأوامر الرسول صلي الله عليه و آله وتركهم لمواقعهم.

2- الفرار عندما أُشيع موت الرسول صلي الله عليه و آله.

3- ظن البعض باللَّه ظن الجاهلية ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلي علواً كبيراً.

9- ثم يتعرض الحق تعالي لما يقولون «يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَي مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ

وَلُيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرروا قولهم أن لو كنا في المدينة لكنّا أمنع وأحصن متناسين تقدير اللَّه وقضاءه الذي لا راد له حتي لو كان في أمنع الحصون فهذا ذم لهم علي تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الارْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّي لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 159

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة بل العصيان، والموت والأجل أمر محتوم وقضاء اللَّه.

وبعد هذا التوبيخ تبين الآيات مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الالهي، ثم في هذا السياق تردآية وشاورهم في الامر في سياق بيان صفات النبي التي تحلي بها من حسن الخلق ولين الجانب.

10- تعود الآيات للتذكير بين واقعة أحد وواقعة بدر.

«إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ» حيث نسب البعض الي النبي هذه الخيانة في المغنم «وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّي كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

«أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا» وذلك في غزوة بدر حيث انكم قد اصبتم الكفار بعض ما اصابوكم الان «قُلْتُمْ أَنَّي هذَا» اي من أين هذا اصابنا وظننتم باللَّه ظن الجاهلية «قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ» اي بسبب فعلكم وعصيانكم «إِنَّ اللّهَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».

«وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَي

الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ء 166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْايمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ …»

ثم تبين الآيات صفات المؤمنين من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف ثم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 160

يذكر صفة اخري لها صلة بما تقدم «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ».

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة اخري بأمر اللَّه لرسوله بالخروج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلا من به جراحة، فنادي منادٍ: يامعشر المهاجرين والانصار مَن كانت به جراحة فليخرج به ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا علي ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول صلي الله عليه و آله حمراء الاسد، وقريش قد نزلت الروحاء قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير علي المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الاسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا الي مكة وسميت بغزوة بدر الصغري.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة 121- 174 خير شاهد علي ما جري ودار في هذه الغزوةالتي تدل علي حنكة الرسول الاكرم في استخبار نيات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون اليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل وان المنافقين ارادوا الايقاع بالمسلمين

من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل اللَّه.

وأخيراً نشير إلي رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: أما أن اللَّه ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها اللَّه رحمة لأمتي، من استشارهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يُعدم غياً» «1».

ثانياً: غزوة الخندق فقد استدل بها علي الشوري والزاميتها في موطنين، الاول:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 161

في حفر الخندق حيث نزل الرسول عند رأي سلمان الفارسي، والعجيب اعتبار ذلك من الشوري بالمعني الذي اصطلحوا عليه حيث أنه رأي فرد واحد وليس اكثرية مضافاً الي أنه دليل علي أن الرسول صلي الله عليه و آله يختار دائماً الرأي الصائب وإن قلّ قائله. ومنه يتضح الجواب عن سائر الموارد التي استشهد بها لمتابعة الرسول لرأي الأكثرية.

الثاني: في مداولاته مع عيينة بن حصين والحارث بن عوف لاستجلابهما ومساومتهما علي تمر المدينة ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك. ونزوله عند رأيهما.

والجواب: أنه بعيد عما يدعونه من ولاية الشوري بل أن الرسول الاكرم انما اراد مساومة بني غطفان من أجل التخفيف عن أهل المدينة وازالة الحصار شأنه شأن أي قائد يريد فك الحصار عن قومه، ولكنه عندما رأي عزيمة وثبات الاوس والخزرج لم يجد أي داعي الي مثل هذه المساومة فالموضوع قد تبدل والامر بعيد عن ولاية الشوري.

الوجه السابع: … ص: 161

انه توجد حوادث تاريخية تثبت ان الرسول صلي الله عليه و آله استشار اصحابه ولم يتبع رأي الاكثرية كما في:

- صلح الحديبية

حيث تنقل كتب السير ان كثيراً من المسلمين كانوا علي خلاف الصلح بينما أصر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي الصلح مع تعنت الكفار ورفضهم ذكر اسم اللَّه تعالي في بداية الصلح واصرارهم علي كتابة اسم

النبي مع ابيه دون عبارة (رسول اللَّه) ومع ذلك كان يري ان في الصلح خير المسلمين، مع ان الصلح لم يكن أمراً سماوياً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 162

بمصطلح الوحي حتي تمنع المعارضة، وان كان اصل التوجه للعمرة أمراً إلهياً اما الصلح وما تضمنه من بنود فإنها من تدبير النبي الاكرم صلي الله عليه و آله.

- تأمير زيد بن حارثة في وقعة مؤتة ويدل عليها ما ذكره الرسول الاكرم عند تأمير اسامة حيث خالفه عدد من المسلمين فقال صلي الله عليه و آله" ما تلوموني في تأمير اسامة إلا كما لمتموني في تأمير أبيه زيد.

ففيه اشارة الي مخالفة عدد منهم لتأمير زيد وابنه اسامة فهذا يُظهر أنه صلي الله عليه و آله لا يري نفسه ملزماً بالشوري.

الوجه الثامن: … ص: 162

ان آية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» مكية كما ينص عليه المفسرون ومن المعلوم انه لم تكن للمسلمين في مكة دولة أو شأناً عاماً بالمعني الذي يحتاج فيه الي اعتماد الشوري كتنظيم يستند عليه المسلمون، فاستفادة كون الولاية للشوري مع عدم وجود مورد لها في ذلك الوقت أمر بعيد عن الصواب، خصوصاً اذا لاحظناأن الآية تعدد الصفات الفعلية للمسلمين فهذا يدل علي أن هذه الصفة فعليه أيضاً، مضافاً الي أن حاكمية الرسول صلي الله عليه و آله في ذلك الوقت بجعل الهي وليست نابعة من تولية المسلمين له وهذا أمر لم يختلف فيه أحد فهذه الامور تدلل علي أن المراد من الشوري هو نفس المفاد اللغوي، وهو المداولة الفكرية وأن من صفات المؤمن الاستفادة من خبرات الاخرين وعدم الاستبداد برأيه ولو كان في مسألة خاصة.

وما يذهب اليه البعض في الاستدلال بهذه الآية علي أحد صياغات نظرية الشوري مجانبة عن الحق.

الامامة الالهية(5)، ج 1،

ص: 163

الوجه التاسع: … ص: 163

مضمون ما ذكره الشهيد الصدر وحاصله:

ان نظرية الشوري بالمصطلح المزعوم تعبر عن نظامٍ حديث في تولي السلطة السياسية في المجتمع وهو سلطة الجماعة، وهو نظام نشأ في القرنين 19 و 20 الميلادي وكان المجتمع الغربي مهد هذا النظام ومازال حتي الان يتطور بين آونة واخري وتتعدد صياغاته. ويبقي منه الاطار العام فقط وهو أن الجماعة تحكم نفسها بنفسها أما كيفية هذا الحكم وكيف يتم تداول السلطة وكيف يتم التشريع؟

واسئلة كثيرة اختلف الجواب فيها.

وقد تصل أشكال النظم التي تطبق هذا المبدأ الي ما يزيد علي سبعة اشكال تتمركز في دول العالم الجديد أوروبا وامريكا. وما تعدد هذه الاشكال الا دليل علي ما يعثر عليه العقل البشري من سلبيات وثغرات اثناء التطبيق.

وبناء عليه فانه عند نزول القرآن لم يأنس المجتمع المكي بل لم يعرف مثل هذا النظام علي العكس كان النظام السائد هو النظام الفردي حيث نجد أن القبيلة هي المجتمع الخاص، وسلطة رئيس القبيلة هي المطلقة ومن غير المعقول أن يقوم الاسلام بتشريع نظام يخالف فيه تماماً النظام السائد آنذاك ولا يبين فيه سوي آية أو آيتين تثبتان الإطار العام بل تثبت العنوان فقط، اما المعنون والطريقة والكيفية فلا نري لها اثر لا في القرآن ولا في السنة، فيُعلم من ذلك بل يجزم بأن ما ورد في الآيتين الكريمتين لم يكن طرحاً لنظام جديد، وانما أرادت الآيتين أن ترشد الانسان المؤمن الي طريق جديدة في التوطئة ومقدمات التصميم والحزم ويقع في حيز المداولة الفكرية واستجماع المعلومات.

وقد حاول البعض الاجابة من هذا الامر:

ان الدين الاسلامي حينما يصوغ قاعدة فانه يؤطرها بعنوانها العام تاركاً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 164

التفاصيل والجزئيات لكي يتم استنباطها بِما يتوافق مع زمان

مسار التطبيق، والسر في هذه الطريقة ان الاسلام لو جعل التفاصيل الجزئية فان القاعدة سوف تكون موافقة لتلك التفاصيل ولشرائط ذلك الزمان ولا تستطيع مواكبة كل الاعصار.

ولكن هذه الاجابة مدفوعة من جهة أن هذه القاعدة التي ذكرها وان كانت مقبولة في بعض القواعد إلا ان الشارع لم يكتف فيها أيضاً بذكر العنوان فقط، بل كان يجعل أسساً وضوابط خاصة تمثل الإطار العام للقاعدة التي يريد تطبيقها، أما ان يكتفي بذكر العنوان فقط فهذا مما لا نظير له في الفقه الاسلامي بل لا نظير له في القانون الوضعي. لا سيما في مثل هذه المسألة الخطيرة التي هي دعامة كل المجتمع والأفراد.

وما نحن بازائه في مسألة الشوري بالمعني المصطلح المزعوم من هذا القبيل بل ان القول بأن الشارع قد جعل نظرية الشوري يعني ان الشارع مع حكمته قد جعل المجتمع يتخبط في عالم من العشوائية لا تتناسب مع بدء نشأته للدولة الاسلامية التي يريد لها البقاء حتي قيام الساعة.

فمن البعيد عن الانصاف القول ان الشارع يترك تابعيه من دون تأهيل ومن دون أن يعبّد لهم طريق آخر للسلطة والقيادة وذلك من خلال نظرية النص لكن لا بالمعني المألوف من رئاسة المجتمع القبلي الاستبدادي بل من خلال التنصيص علي الفرد الاكمل علي الاطلاق والاشبه بالنبي صلي الله عليه و آله وهو حكم فردي يقوم علي اساس اشراك الناس في مهمات الامور من دون ان يكون لهم السلطة والولاية بل الرقابة والمتابعة.

الوجه العاشر: … ص: 164

من الادلة التاريخية الثابتة والتي تدلل علي عدم دلالة الايتين علي ولاية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 165

الشوري هي طريقة اختيار الخليفة الاول والثاني والثالث.

فما جري في سقيفة بني ساعدة واحتجاج ابي بكر بالقرابة من النبي الاكرم، فإن هذه

الجهة تعتمد علي أُسس قبلية جاهلية أزالها الإسلام وحاربها إلا أنّهم أعادوا استخدامها خصوصاً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد استعد له تكتّل السقيفة من حشد القبائل المحيطة بالمدينة وايجاد جو من الارهاب بحيث لا يمكن أنْ يجابههم احد.

وهكذا طريقة انتخاب الثاني فإنها كانت بتعيين الاول، أما الآن بعد ما وقع ما جري فترتفع اصوات لتأول فعله بأنه قد استشار الامة وأنها أوكلته في الاختيار بدليل البيعة التي لا تدل علي الشوري المصطلحة بأي نحو كما سوف نشير فيما بعد الي مدي دلالة البيعة فضلًا عن البيعة التي كانت تؤخذ فرضاً ورهبةً ولا يحق لأحد الاعتراض فأين هي الأكثرية وأين هي سلطة وولاية الشوري.

فمن الجهل ان نعتبر المنحي القبلي البدائي الذي ساد هذه الخلافات هو تنظير لنظام عصري وهو نظام سلطة الجماعة.

الوجه الحادي عشر: … ص: 165

مع التنزل عن جميع الاشكالات والوجوه السابقة المقتضية لأجنبية دلالة الآيتين عن ولاية الشوري، فإنها سوف تقع في طرف المعارضة مع ايات كثيرة تبين أن الولاية في الأصل للَّه عزوجل ثم للرسول الاكرم صلي الله عليه و آله ومن بعده لطائفة خاصة من الأمة وهم أولوا الأمر الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي آيات كثيرة تامة الدلالة. فهذا إما أن نعتبره تخصيص (لأمرهم) اي ان الولاية والقضاء والتشريع ليس من شؤون المسلمين التي تخضع للشوري بالمعني المزعوم. أو نقول بتقديم الطائفة الاخري علي آيتي الشوري.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 166

أما طوائف الروايات التي استدل بها علي نظرية الشوري وعمدتها ما ورد عن امير المؤمنين في بعض احتجاجاته حيث يستند الي الشوري واختيار الأمة. وقبل الدخول في تفصيل هذه الخطب واجوبتها نذكر ثلاث نقاط مهمة:

1- أن ما يظهر من كلام الامام مؤيداً

به للشوري ومعتبراً أن سلطة الجماعة هو ما أسسه الاسلام في الفقه السياسي هو من باب التنزل والجدل مع الخصم والزامه بما التزم به من نظرية الشوري، حيث إن الامام في كل هذه الموارد كان يواجه من يتشبث بالشوري فهو عليه السلام يبين أحقيته حتي علي مذهب الشوري.

2- أن المستدل يأخذ بقسم خاص وقليل من كلام الامام عليه السلام بينما نجده يترك القسم الاوفر من كلامه عليه السلام الذي يبين أحقيته بموجب النص القاطع. ففي كثير من خطبه يبدأ عليه السلام ببيان أحقيته ووجود النص علي امامته ثم يتعرض بعد ذلك لاثبات أحقيته علي فرض التنزل وغض النظر عن النص، فنلاحظ المستدل يقتطع جزءاً من كلامه ويأخذ بالذيل تاركاً الصدر.

فمع قطع النظر عن هذا التقطيع الذي يؤدي بدلالة السياق نلاحظ انه يجب اعمال المعارضة بين كلا الطائفتين التي تنسب اليه الاستدلال بالشوري والتي يتمسك بها بدلالة النص. لكن المستدل حتي هذه المعارضة نجده يغفل عنها مع كثرتها وان الامام ما كان يترك أي فرصة الا ويبين فيها ذلك.

3- من الثابت تاريخياً والذي لا مجال لإنكاره أن الإمام عليه السلام امتنع عن البيعة لأبي بكر حتي وفاة الصديقة الزهراء، وانه لم يبايع إلا مكرهاً، وهذا يدل علي أنه ل يقبل شوري بني ساعدة كأساس لانتخاب الخليفة، فكيف يُسند إليه القول بظرية الشوري مع هذه المخالفة الشديدة.

ومن المصادر التي ذكرت عدم بيعة الإمام للأول:

- مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب: 1: 72/ 5: 153، الاستيعاب وأسد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 167

الغابة في ترجمة أبي بكر- كنز العمال 3: 140، أنساب الأشراف 1: 586. تاريخ ابن عسكر 3: 174 مسند بن حنبل 1: 55، فتح الباري في شرح صحيحة

البخاري 5: 143. سيرة ابن هشام 4: 338، الإمامة والسياسة 1: 12، مضافاً الي المصادر الخاصة التي تطبق علي هذا الأمر.

- في الخطبة (2): «هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه بهم اقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائص دينه..» ثم يصف آخرين اعداء آل محمد.. «رزعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد، ولا يُسوّي بهم من جرت نعمتهم عليه ابداً، هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفي ء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذا رجع الحق الي أهله ونقل الي متنقله».

وهذه الخطبة كانت اثناء انصرافه من صفين ففيها تصريح أن الحق كان مغتصباً والان قد عاد الي أهله، فهو تنديد بما كان قد جري سابقاً مما يسمي بالشوري.

- وفي الشقشقية: «فياللَّه وللشوري» فاذا كان هذا تعبيره عن الشوري بالمعني المصطلح المزعوم وتقريعه لها فكيف يكون قد أقر بالشوري. فالشوري في نظر الامام عليه السلام استصواب الرأي في الامر المجهول الحال. «ومتي اعترض الريب فيّ مع الاول منهم حتي صرت أُقرن الي هذه النظائر». اما اذا كان الامر بيّن ومعالمه واضحة لا غبار عليها فلا حاجة الي استصواب الرأي وما بعد الحق الا الضلال.

- وفي خطبته عليه السلام: «بنا اهتديتم في الظلماء وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا أفجرتم عن السرار..» (خطبة 4).

فبأي مناسبة يتعرض عليه السلام لحقه وحقوقه آله المغصوبة.

- خطبة 87: «فأين تذهبون وأني تؤفكون والاعلام قائمة والايات واضحة والمنار منصوبة فأين يتاه بكم وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمّة الحق. وهم أعلام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 168

الدين وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرأن. وردوهم ورود الهيم

العطاش..

ألم أعمل فيكم بالثقل الاكبر وأنزل فيكم الثقل الاصغر (اشارة الي حديث الثقلين) قد ركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم علي حدود الحلال والحرام.

انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم عن هدي ولن يعيدوكم في ردي فإن بعدوا فابعدوا وان نهضوا فانهضوا ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا لقد رأيت أصحاب محمد صلي الله عليه و آله فما أري أحد يشبهه منكم».

- خطبة 100: «ألا ان مثل أل محمد صلي الله عليه و آله كمثل نجوم السماء اذا هوي نجم طلع نجم فكأنكم قد تكاملت من اللَّه فيكم الصناع واراكم ما كنتم تأملون».

- خطبة 74 حينما عزموا البيعة لعثمان: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري وواللَّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة».

- خطبة 109: «نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة».

فهنا يظهر الامام وجود صنفان في المجتمع الاسلامي وهذان تياران ليسا من جهة الدين فقط، بل تياران سياسياً ودينياً.

- خطبة 152: في بيان صفات اللَّه جل جلاله وصفات أئمة الدين:

«قد طلع طالع ولمع لامع وراح رائح واعتدل مائل واستبدل اللَّه بقوم قوماً وانتظرنا الغير انتظار المجدب، وأن الائمة قوام اللَّه علي خلقه وعرفائه علي عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. وهذا معني: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

- الخطبة 154: في فضائل أهل البيت عليهم السلام:

«فيهم كرائم القرأن وهم كنوز الرحمن ان نطقوا صدقوا وإن سكتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله وليحضر عقله وليكن من ابناء الآخرة فإن منها قِدم واليها ينقلب».

ففيها دلالة علي العصمة وهي محصورة

بهم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 169

- الخطبة 172: «الحمد للَّه الذي لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، وقد قال قائل: انك علي هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل انتم واللَّه لأحرص وأبعد وأنا أخص وأقرب، وانما طلبت حقاً لي وانتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه، فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني. اللهم اني استعديك علي قريش ومَن اعانهم فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا علي منازعتي علي أمرٍ هو لي ثم قالوا: الا أنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه»..

فهل يوجد اصرح من هذا البيان علي أحقيته ورفضه للشوري وما يسمي بسلطة الجماعة.

خطبة 178: «أيها الناس ان الدنيا تغر المؤمّل لها والمخلد لها ولا تَنْفَسُ من نافس فيها، وتغلب من غلب عليها وأيم اللَّه ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم الا بذنوب اجترحوها وإني لاخشي عليكم ان تكون في فترةٍ (والفترة في الاصطلاح المدة الفاصلة بين رسول ورسول بعده) وقد كانت أمور مضت مِلتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين ولان رُدّ عليكم أمركم انكم سعداء وما علي إلا الجهد ولو أشاء أن اقول لقُلت عفي اللَّه عما سلف».

وانظر ايضاً الي كتاب (62) لأهل مصر مع مالك الاشتر وكتاب (28) الي معاوية. وفيه يقول: «فاسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا ترفع وكتاب اللَّه يجمع لنا وما شذ عنا وهو قوله تعالي: «وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ»».

وما ورد في كتاب سليم بن قيس ص 182 في جواب كتاب معاوية حيث طلب منه قتلة عثمان ليقتلهم قال لمن حمل كتاب معاوية: «ان عثمان بن عفان لا

يعدوا أن يكون أحد رجلين اما هو امام هدي حرام الدم. وواجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه أو امام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته فلا يخلو من احدي خصلتين والواجب في حكم اللَّه وحكم الاسلام علي المسلمين بعدما يموت امامهم أو

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 170

يقتل ضالًا او مهتدياً مظلوماً كان او ظالماً، حلال الدم او حرام الدم، ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلا ولا يبدؤا بشي ء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماماً عفيفاً عالما ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة.. ان كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه وان كانت الخيرة الي اللَّه عزوجل والي رسوله فإن اللَّه قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ورسول اللَّه قد رضي لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والانصار بعدما تشاوروا بي ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان وعقد إمامتهم، ولي ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والانصار غير أنهم بايعوهم قبلي علي غير مشورة من العامة وان بيعتي كانت بمشورة من العامة فان كان اللَّه جل اسمه جعل الاختيار الي الامة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار اللَّه ورسوله لهم وكان من اختاروه وبايعوه بيعة وبيعة هدي وكان إماماً واجباً علي الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيّ واختاروني باجماع منهم وان كان اللَّه عزوجل الذي يختار له الخيرة فقد اختارني للامة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه صلي الله عليه و آله فذلك أقوي لحجتي وأوجب لحقي».

فهذه تدل علي أن حجاجه بالشوري حجاج تنزيلي وان الشوري يجب أن تكون علي ميزانٍ،

والميزان هو الضوابط العقلية والشرعية وليست سلطة الجماعة وأهواء الكثرة وانما تكون وظيفة الامة في اكتشاف وجود هذه الصفات والضوابط في المختار فليست الولاية والسلطة للشوري بل هي استكشاف.

ففي هذه الرواية يبين الامام أن البيعة علي نحوين بيعة هدي وبيعة ضلال، فالبيعة اذا كانت علي الموازين وكان الامام واجداً للشرائط فتكون بيعة هدي أما اذا كانت علي خلاف الضوابط فانما تكون بيعة ضلال. ونلاحظ أن البعض اقتطع من هذه الرواية جزءاً استدل به علي الشوري تاركاً بقية الرواية التي توضح تمام موقف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 171

الامام عليه السلام.

ومما استدل به في المقام ما ورد في شرح النهج للمعتزلي ج 7/ 41 ان طلحة والزبير قالا للامام عليه السلام: اعطيناك بيعتنا علي ألا تقضي الامور ولا تقطعها دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا. فقال عليه السلام: «ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما».

وقد استدل بها أيضاً علي أن الشوري مشروعة في منطقة الفراغ التشريعي حسبما يزعم من وجود ذلك الفراغ-.

وهذا الاستدلال ممنوع- بيان ذلك:

1- أن لو تقيد الامتناع للامتناع اي امتناع الجواب لامتناع الشرط فالعبارة تقيد أن مشاورتكما قد انتفت لامتناع خلو الواقعة من حكم في كتاب اللَّه والسنة والذي اوقع هذين الشخصين في هذه الملابسة هو ان الخلفاء السابقين علي الامام كانوا يستشيرون بعض الصحابة في بعض الأحكام وفي كيفية اعمال المرجحات، أما الإمام فلم يقم بهذا العمل، والسر في ذلك ان الاعتقاد الحق هو انه ما من شي ء يقربكم الي اللَّه إلا وقد امرتكم به، وما من شي ء يبعدكم عند اللَّه إلا وقد نهيتكم عنه، فالقاعدة ان لا تخلو واقعة من حكم للَّه إلا أن

هذا الحكم قد يخفي علي العقول القاصرة غير المطلعة، أما من له احاطة بأحكام اللَّه وسنة نبيه ومن عايش النبي في حلّه وترحاله لا يخفي عليه حكم حتي يحتاج فيه الي مشاورة البعض، نعم قد يكون للمشورة مجال في باب تطبيق الاحكام الكلية علي مصاديقها واختيار أفضل الأساليب في كيفية تطبيق الحكم الموجود إلا ان هذا بعيد عن مرام القائل اذ لا تكون الشوري منشئة للحكم حينئذ.

ومما ذكره عليه السلام فيه تعريض لمن كان قبله حيث كثر جهلهم بالاحكام الشرعية وليست المسألة بالنسبة اليه عليه السلام من باب الاستبداد في شي ء.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 172

- ومما استدل به ايضاً ما أشرنا اليه من محاولة توسط بعض القرّاء بين الإمام ومعاوية والكتاب السادس في نهج البلاغة والجواب عنه مضافاً الي ما مضي وإلي الاجوبة العامة وانه لم يرض بمن بايعه الانصار في سقيفة بني ساعدة انه اشترط لتحقق البيعة «فان اجتمعوا وسموه اماماً» فان الشرط المهم هو حصول الاجتماع المطلق ولا أقل عدم الاعتراض وهذا لم يحصل فيمن سبقه، أما معه عليه السلام فقد حصل ذلك الاجتماع ومن سكت فانه لم يعترض كعبداللَّه بن عمر وابوموسي وسعد بن أبي وقاص. ففي هذا التعبير تعريض بمن يشترط الاكثرية.

- ومما استدل به قوله عليه السلام: «اذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحائكم وأموركم شوري بينكم فظهر الارض خير لكم من بطنها».

الظاهر ان هذا النص مقتطع من جواب الامام عليه السلام المتقدم لكتاب معاوية، وقد قام الشريف الرضي بتقطيع بعض النصوص لمناسبتها لأبواب مختلفة.

مضافاً الي أنه ذكر عنوانين امراؤكم خياركم وأموركم شوري بينكم فمورد الأمراء غير مورد الشوري وهما من واديان يختلف احدهما عن الاخر، وفي هذه العبارة ايضاً يرد

البحث الذي ذكرناه في «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» وان الاضافة لا تعني أن لهم الولاية والسلطة في كل شي ء بل ما يضاف اليهم فقد يكون في بعض الصور لا تكون لهم القابلية في البحث في هذا الأمر وهو خارج عن اختصاص الامة، كما يرد فيها نفس البحث في لفظ الشوري وقد ذكرنا انها ندب وارشاد الي صياغة فكرية في كيفية الاسترشاد في الامور المختلفة واستصوابها.

- ومما استدل به ما ورد في عيون أخبار الرضا عن الرضا عليه السلام عن النبي صلي الله عليه و آله: من جاء يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الامة أمرها ويتولي من غير مشورة فاقتلوه فان اللَّه قد أذن بذلك:

وهذا الحديث لا يدل علي مرادهم أيضاً، وذلك لأنه مهما كانت النظرية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 173

المدعاة فيجب علي الأمة أن تقاوم امام الضلال الذي يتولي امورها غصباً بقوة السلاح، وفي هذا جواب علي أحد نظريات العامة التي اجازت تولي السلطة بالسيف، فالغاصب مهدور الدم حيث أنه قد غصب أعظم وأخطر الامور في المجتمع الاسلامي وهو ولاية الامر، وقد عني عليه السلام (من غير مشورة) الغصب وعدم رضا الناس به، لا أنّ للشوري سلطة وولاية في هذا الأمر، و لا دلالة فيه علي ارادة اعطاء الشوري سلطة وولاية، وذلك لان نفي الشي ء لا يعني إثبات ما عداه، لاسيما إذا كان محتملا لوجوه لكنه ذكرها من باب الحجاج مع القوم، والتعريض بسلطة بني العباس وغيرهم الذين تولوا الامور بالسيف والقوة والقهر.

- ومما استدل به علي الشوري ما ورد عن الصادق عليه السلام: «من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه» «من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الامام جاء الي اللَّه تعالي

اجذم» اصول الكافي 1/ 405.

وما ورد في النهج خطبة 127 «والزموا السواد الاعظم فإن يد اللَّه علي الجماعة واياكم والفرقة فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب».

وهذه الروايات يتضح المقصود منها اذا عرفنا المقصود من الجماعة.

ففي رواية عن ابي عبداللَّه عليه السلام: سئل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن جماعة امته؟ فقال:

جماعة امتي أصل الحق وإن قلّوا.

وفي اخري قيل: يارسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما جماعة امتك؟ قال: من كان علي الحق وإن كانوا عشرة.

وفي رواية عن الامام علي عليه السلام: الجماعة أهل الحق وان كانوا قليلًا والفرقة أهل الباطل وان كانوا كثيرا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 174

وعن الرسول صلي الله عليه و آله: ان القليل من المؤمنين كثير «1». وهذه الروايات واضحة الدلالة في كون المدار هو علي الصواب والسداد للأمر بحسب الواقع وعدم القيمة الموضوعية للكثرة بذاتها.

- ومما استدل به أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في فضائل الاستشارة والحث عليها في كتاب الوسائل في كتاب الحج في أبواب أحكام العشرة باب 21- 26 ويُلاحظ علي الاستدلال:

أ- انها واردة بعموم يشمل الامور الفردية الشخصية التي ليس لها بُعد اجتماعي حيث لا توجد سلطة للجماعة علي الفرد، فيجب ان يكون معناها الوحداني العام هو الاراءة نحو: «من لا يستشر ندم» «من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها» «ولا ظهير كالمشاورة» «خاطر بنفسه من استغني برأيه» فحينئذ الاستشارة هي اصابة الواقع والوصول الي نتيجة صائبة، وليس فيها جهة تحكيم سلطة الجماعة أو إرادة خارج إرادة الفرد، بل هي تمد جهة التفكير الانساني بالاراء الاخري فتمكنه من استكشاف اصوب الاراء.

ب- ان الروايات المذكورة تورد صفاتٍ في المستشار من الورع

والعقل و «ان مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا» وانها تارة تكون نافعة وتارة ضارة، واذا كانت بمعني سلطة الجماعة فأي معني للضرر والنفع، فالحق أنها نمط من التفكير، وفي بعض الروايات يشترط ان يكون المستشار حراً متديناً.

فلا ارتباط بين هذه الشرائط مع الحقوق العامة وانما تريد الروايات بيان مَن له اهلية الاستضاءة بخبراته وتجاربه، وان يكون رأيه الذي يدلي به خالصاً ومحضاً عن النزعات الاخري. ولذا ورد «من استشار اخاه فلم ينعمه محض الرأي سلب اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 175

عزوجل رأيه».

- ومما استدل به ايضاً: «اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم».. ونحوها مما ورد في مصادر غير الإمامية كسنن أبي داود 2: 34.

وهذه الروايات لم يقل فقهاؤكم فيها بالوجوب، بل قالوا: انها من باب الندب فينظر الي ارجح القوم عقلًا فيؤمره ويستهدي برأيه، وفي كتاب الوثائق السياسية ص 120 في معاهدته مع أهل مصر «وان ليس عليكم امير إلا من انفسكم او من اهل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله».

وواضح منها ان الرسول قد خوّلهم في ذلك الظرف الزماني والجغرافي المكاني علي أن يكون الأمر بيدهم في اتخاذ امير عليهم، ومفاده يدلل علي أن الامر لا يكون بيدهم ابتداءً بل بتخويل من الرسول.

ويلاحظ في هذه الطوائف أنها وردت بصيغ الاستشارة الاستفعال والمشورة مفعلة والشوري فعلي وهي كلها بمعني واحد لاتحاد المادة. وفي نهاية هذه الروايات نذكر روايات صحيحة تؤكد ما ذكرناه من معني الاستشارة:

1- صحيحة معمر بن خلّاد قال: هلك مولي لأبي الحسن الرضا عليه السلام يقال له سعد، فقال: أشر عليّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: انا أشير عليك؟ فقال- شبه المغضب-: ان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان

يستشير أصحابه ثم يعزم علي ما يريد.

2- صحيحة الفضيل بن يسار قال: استشارني ابوعبداللَّه عليه السلام في أمر فقلت:

اصلحك اللَّه مثلي يشير علي مثلك؟ قال: نعم اذا استشرتك.

3- في موثقة الحسن بن جهم قال: كنا عند ابي الحسن الرضا عليه السلام فذكر أباه عليه السلام فقال: ان عقله لا توازن به العقول وربما شاور الاسود من سودانه فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إن اللَّه تبارك وتعالي ربما فتح علي لسانه. قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشي ء فيعمل به من الضيعة والبستان.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 176

4- وفي النهج ان الامام عليه السلام قال لابن عباس وقد اشار عليه في شي ء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير عليّ فإذا خالفتك فاطعني «1».

فالخلاصة التي نخرج بها من هذه الروايات الكثيرة هي أن المراد من الاستشارة والشوري والمشورة، هو المداولة الفكرية للوصول الي نتيجة أكثر دقة واقرب الي الصواب لا ان للمستشار سلطة وولاية علي المستشير.

ونختم الكلام حول هذه الطائفة بالحديث حول قوله تعالي:

«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ» فالآية تتناول قضية مهمة وتعالج وظيفة من الوظائف التي تهم المجتمع وهي وظيفة القضاء، وهي من الوظائف المشتركة بين افراد المجتمع حاكماً ومحكوماً فيجب أن يشترك الجميع في تطبيقها والعمل بها ولا ينفع الالتزام من طرف واحد.

وببيان آخر نشير إلي ان الوظائف والتكاليف سواء الاجتماعية او العبادية علي نحوين: أحدهما ما يقوم به فرد واحد كما في الصلوات والعبادات المختلفة.

والنحو الثاني: الوظائف المشتركة كما في صلاة الجمعة حيث لا يكفي وجود الامام العادل لاقامتها بل يجب أن يتواجد افراد المجتمع لاقامتها، ويقع علي عاتق كل طرف منهم قسم من

اداء هذه الوظيفة المهمة السياسية العبادية، وهكذا الجهاد فهو وظيفة مشتركة بين الافراد والقائد، وهكذا في كثير من الوظائف التي تهم الاجتماع فلابد من اجتماع واتحاد ارادات في الأطراف المختلفة لأداء هذه الوظيفة والقيام بالتكليف المراد. والقضاء الوارد في الآية الكريمة من هذا القبيل فإن الرسول الاكرم هو المنصوب من قبل اللَّه قاضياً وحاكماً فيما شجر بين المسلمين،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 177

لكن التحقق الخارجي لهذه القضية لا يكون إلا اذا التزم المسلمون بذلك وهي وظيفتهم إذ عليهم واجب الرجوع الي الرسول فيما شجر بينهم وعليهم الالتزام بما يحكم به، وهذا لا يعني أن رجوعهم اليه تنصيب منهم له صلي الله عليه و آله ولا انه الذي اعطاه صلاحية القضاء، بل التنصيب وصلاحية القضاء هي من عند اللَّه عزوجل وهذا مما اتفق عليه كل المسلمين فليس المراد من (يحكموك) هو انشاء منصب الحكومة لك، بل يعني اقدارك خارجاً تكويناً ومعاونتك علي تنفيذ قضاءك وفصلك للخصومات بينهم.

ونفس المعني الوارد في الآية الكريمة يذكر في مسألة الشوري وألسنة بعض الروايات التي وردت بها صيغة: «ولّاني المسلمون الامر بعده» «فانّ ولّوك في عافية …» «ان تولوها علياً». فهو لا يعني انشاء الامة للولاية وتنصيبهم للوالي بل هي في صدد وجود واجب وتكليف استغراقي علي كل أفراد المجتمع بالرجوع لمن نصبه اللَّه عليهم والياً وحاكماً، فالانصياع لاحكامه والانقياد لأوامره وظيفة افراد المجتمع، فكل من الطرفين يتحمل عبئاً من المسؤولية وشطراً منها.

ومن هنا يمكننا ان نعود لاية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» فنضيف اشكالًا مهماً الي الاشكالات السابقة وهو أن الامر المهم المسند الي المجموع يختلف تحديده ونمطه حسب نوعه وماهيته، فاذا كان الأمر يشمل مسألة الولاية والحاكمية فذلك بمفرده لا يدل علي

سلطة الأمة في امر الولاية بل يبقي السؤال والاجمال أنه ما هو طبيعة الامر المهم المسند اليهم وما هي وظيفتهم اتجاهه هل بنحو الفاعلية والاصدار والتنصيب أم بنحو القابلية والمتابعة والإعانة كأيدي وسواعد للوالي المنصوب من الشريعة المقدسة، أو ان الاية مهملة من هذه الجهة؟!

والمعهود في الشرايع السماوية كون دور المجتمع هو القبول والانصياع وقد جاءهم التأنيب علي التقصير في ذلك «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَي أَنْفُسُكُمُ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 178

اسْتَكْبَرْتُمْ».

فتقاعسهم عن اقامة صرح الهداية واستكبارهم عن متابعة الرسول سبب توجيه هذا الذم والتوبيخ للمجتمع.

وهذا هو طبيعة كل فعل مشترك بحيث يكون صدوره من طرف علي نحو الفاعلية ومن طرف آخر علي نحو القبول والانصياع. ومن هنا عندما يخاطب بعض الأئمة عليهم السلام الناس بأنكم وليتمونا فهو صحيح من الجهة والحيثية التي ذكرناها وهي انكم عملتم بوظيفتكم التي أوجبها اللَّه عليكم وهي الرجوع الينا، والامام علي عليه السلام في رواية سليم بن قيس يذكر كلا الطريقين ان كانت الخيرة للامة وان كانت الخيرة للَّه. وأنه الحق فالامة قد عملت بوظيفتها من الايتمام وإعانة وتمكين وليّ وخليفة اللَّه.

فهذان خطان متقابلان أحدهما يسند الامر للأمة علي نحو يكون لها الولاية وهو ما رفضناه منذ بداية البحث والاخر أن الامر بيد اللَّه يجعله حيث يشاء وعلي الامة تطبيق ذلك خارجاً بنحو القبول والانصياع لأوامر من نصبه اللَّه. وتمكينه من نفوذ قدرته التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وعلي ضوء ذلك اذا فسرنا (امرهم) بهذا النحو يكون كيفية تقبل هذا الامر وكيفية القيام بهذه الوظيفة المهمة تكون بالتداول والتشاور، والانصياع والمتابعة للقائد المنصوب ويجب أن يكون برضاهم.

وقد ورد عن الصادق عليه السلام: ان الأئمة أهل العدل الذين امر اللَّه بولايتهم وتوليتهم وقبولها

والعمل لهم فرض من اللَّه «1».

وبهذا يتضح تمام المراد من آيات وروايات الشوري.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 179

وقد ذكرت بعض الاشكالات:

1- انه لو كان المراد من الشوري هو المداولة الفكرية فقط من دون لزوم اتباعهم فان عقد الاستشارة في الامور المهمة سوف يؤدي أوّلًا الي عدم تفاعل المستشارين في ابداء الرأي. وثانياً سوف يخلق مشكلة اجتماعية حيث تتعدد الاراء ولن يكون هناك حسم لهذا الامر المهم، بخلاف ما اذا قلنا بولاية الشوري والاكثرية فسوف تكون ضابطة وميزان الاكثرية هي لحسم مثل هذه المشاكل الاجتماعية الهامة.

والجواب عن هذا الاشكال يكون بملاحظة التطور الحاصل في حضارات المجتمع البشري منذ بداية تَكوّن أول اجتماع من الاسرة الي القبيلة الي القرية الي البداوة الي التحضر والتمدن، وقد تعددت وسائل الاتصال بين أفراد الانسان خلال فترات التطور هذه، حتي أصبح مجتمع القرن العشرين والواحد والعشرين الميلادي قد طوي حضارة التكنولوجيا والتصنيع وحضارة الذرة، فانتهي به المطاف حالياً الي حضارة المعلومات من الارتباط والاتصالات، والهدف من جعل الارتباط والاتصال هو محور حضارة هذا العصر هو سرعة انتقال المعلومات والأفكار بين أفراد الإنسان، وهذا يدلل أن أحد ابرز وسائل السيطرة هي الهيمنة علي المعلومات واستقصاء البحث. والقرآن الكريم قبل ما يزيد علي الالف عام ندب الي هذا الأمر المهم، وأن يكون القائد مهيمناً علي افكار الناس جامعاً لمعلوماتهم ومستمعاً لارائهم فهذا منهج مهم في حد ذاته لا يمكن الاستهانة به.

أما بالنسبة للنقطة الثانية فقد عولجت من جهتين، الاولي: ان أحد ثمار الشوري هو كون الجميع علي مستوي من الوعي الثقافي والمعلوماتي بحيث يستطيع المشاركة فيما يهم المجتمع، وهذا أمر يقفز بالمجتمع علي طريق الرقي، وبعد استقصاء الاراء المختلفة سوف يتضح لدي المستشير ولدي الاطراف

الرأي المتين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 180

من الهزيل.

ومن جهة أخري تعمل الاستشارة علي توحد الارادة في مجتمع المستشارين فقد عالجته نظرية الولاية بحصر الارادة والعزم بالشخص المنصوب خليفة للَّه تعالي «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ» فإرادته هي التي تكون لها السيطرة علي جميع الارادات وتخضع لها كل الارادات، وكذلك الحال في نائبه العام وهو الفقيه، وإن كانت ولايته علي نطاق محدود بدائرة التطبيق للأحكام الشرعية في مجال القوي الثلاث.

2- وقد يشكل انه اذا كان المراد «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» هو الامر المهم الذي يمس المجموع فهذا يعني انه من الامور الخطرة، فكيف ينسجم هذا مع كون الاستشارة في نفسها مستحبة.

والجواب عنه ان الشوري تكون في كل موردٍ بحسبه فان كانت في الامور التي طبيعتها خطيرة وطبيعة الغرض الشرعي فيها بالغ الأهمية عند الشرع، فان الشوري والفحص عن الصواب وواقع الحال تكون واجبة، ولا يمكن للقائد غير المعصوم النائب من قبله أن يستبد برأيه، كما لاحظنا في فتوي الفقهاء في باب الجهاد فمع ان الافتاء بالجهاد هو بيد الفقيه الا أنه ملزم بالرجوع الي اهل الخبرة العسكرية في ذلك، وإذا لم يكن الامر المجموعي بهذا الوقع والخطورة فتكون الاستشارة ندبية وتكون فوائدها هو ما ذكرناه سابقاً.

3- وقد استدل محمد رشيد رضا بذيل آية الشوري علي سلطة الجماعة وولاية الشوري وذلك بقوله تعالي: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ» حيث ان متعلق العزم غير مذكور فهو مطلق، لكن لما كانت الآية في صدد بيان ما يميز رأي الجماعة فيكون المراد منه هو رأي الجماعة اي فاذا عزمت علي ما يرون وما يريدون فتوكل علي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 181

وهذا مردود حيث انه من الواضح ان العزم فاعله هو الرسول الاكرم صلي

الله عليه و آله والظهور العرفي «1» شاهد علي ان المراد هو تصميم نفس فاعل العزم اي بعد ان نظرت أنت الي هذه الاقوال المختلفة والاراء المتضادة فاختر منها ما شئت واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الامر بالتوكل علي اللَّه وعدم خشية الآخرين، أي أن مورد العزم قد يكون علي خلاف ما عليه اراء الاكثرية فتوكل علي اللَّه فيما عزمت مهما كان ذلك وان كان علي خلاف ما يرونه، وواضح ان الآيات الكريمة وردت في غزوة احد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلف البعض الاخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنهم باللَّه بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وهذا كله يدل علي أن الرأي هو ما اختاره الرسول الاكرم وما عزم عليه بغض النظر انه وافق الاكثرية ام لا.

مضافاً الي أن الرسول الاكرم هو القسطاس المستقيم «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي» والجادة الواضحة والذي يجب أن يتبعه الاخرون وقد امره اللَّه عزوجل «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يتصور بمن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام يلزم بأن يتبع رأي الاكثرية والاغلبية وإن كان علي خطأ.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 182

الخلاصة: … ص: 182

ان التعبير بلفظ الشوري المشتق من تشاور واشتور، والاشارة والمشورة هي اراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأري رأيه، وشرت العسل اشوره جنيته، واشار بيده اشارة أي لوح بشي ء يفهم من النطق.

فمادة الشوري تعطي معني الاستفادة من الخبرات والعقول الاخري لكي يكون العزم علي بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن اعقل الناس من جمع عقول الناس الي عقله، واعلم الناس من جمع علوم الناس علي علمه، فهي توصية

بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الاذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين انها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.

سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هوالحال في سلطة الانسان علي أمواله اذا اراد ان يقدم علي بيع او عقد معاملي، فان استبداده برأيه يؤدي به الي الجهالة بخلاف ما اذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير علي المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وانما يعني اعتماد الوالي علي منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.

وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والاستشارة والشوري، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والابرام والترجيح بين وجهاة النظر يكون للولي علي الشي ء بعد استطلاعه علي الاراء المختلفة، كما هو دارج قديما وحديثا في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 183

الزعامات الوضعية البشرية حيث تعتمد علي لجان وخبرات- مستشارين- «1» في كل حقل ومجال مع عدم افادة ذلك لدي المدرسة العقلية البشرية ولاية لأفراد تلك اللجان يشاروكون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عد الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة بل افضلها، والاستخارة هي طلب الخير لا تولية ا لمشيرين مع المستشير، فلا يتوهم ان فتح باب الاستشارة والشوري في الرأي لغو اذا لم يكن بمعني التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، إذ أي فائدة أبلغ واتم من استكشاف الوالي واقع الاشياء وحقائق الامور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم الي علمه، فان ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك علي الصعيد الفردي كولاية الفرد علي أمواله أو علي الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص علي

المجتمع.

فمجي ء مادة المشورة في قوله تعالي يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البت فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الاخري، اما مَن يكون له الرأي النهائي فليست الاية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع «وَأَمْرُهُمْ شُورَي» حيث ان اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالي: «وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ»، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الاصعدة المختلفة.

ومما يعزز ما تقدم قوله تعالي: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 184

جُنَاحَ عَلَيْهِمَا» فانه تعالي ندب الي التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع ان ولاية الرضاعة ذات الاجرة بيد الزوج فقط، وان كانت الحضانه في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالي: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الامْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ففيه ندبة من اللَّه للرسول صلي الله عليه و آله الي مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه صلي الله عليه و آله (والعياذ باللَّه) إذ ذيل الآية صرّح بان العزم علي الفعل مخصوص به صلي الله عليه و آله.

بل ان الامر بالتوكل فه اشعار بنفوذ عزمه وحكمه صلي الله عليه و آله وان خالف آراءهم، ولذلك ذكر أكثر المفسرين وجوهاً في امره بالمشاورة.

احدها: ان ذلك لتطييب انفسهم والتألف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: ان يقتدي به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة ليتميز الناصح من الغاش، وكتشاوره صلي الله عليه و آله

قبل واقعة بدر- الكبري والصغري- وغيرها من الوقائع.

الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم علي الادوار المختلفة والتسابق الي الخيرات والاعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكي يتعرفوا علي حمة قرارات الرسول وافعاله صلي الله عليه و آله.

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد علي كون الشوري ملزمة له صلي الله عليه و آله، بدعوي أن رأيه صلي الله عليه و آله كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه علي الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج الي جبل أحد. وقدمنا مفصلًا خطأ هذا الاعتقاد.

ومما يستأنس لكون معني الشوري بمعني المشورة والاستشارة لا تحكيم السلطة الجماعية أن الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل ان ظاهر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 185

الآية ترغيب المؤمنين حين نزولها في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول صلي الله عليه و آله المطلقة، ولذلك تري أن كثيرا من مفسري العامة فسروا الاية بمعني الاستشارة واستخراج الرأي لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال علي نظرية التلفيق بين النص والشوري … ص: 185
اشارة

قام بعض المفكرين بمحاولة الجمع بين ادلة التعيين والنصب- ككثير من الايات القرآنية الدلة علي ان الامامة عهد وجعل الهي، وان المنصوب هو علي عليه السلام وذريته- وبين ما يزعم من مفاد آية الشوري ودلالتها علي أن السلطة للامة، بأنّ مورد الادلة الاولي هو مع وجود المعصوم عليه السلام وتقلده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده عليه السلام كما في زمن الغيبة.

وهذا الرأي مردود لأنه ان جعل المدار لسلطة الامة والشوري عدم تقلد المعصوم الزعامة بالفعل فذلك يعني شرعية سلطة الامة في الفترة التي كان فيها علي عليه السلام مبعدا عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن عليه السلام

الي عصر الغيبة، حيث انهم عليهم السلام لم يكونوا متقلدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.

وان جعل المدار علي وجودهم عليهم السلام وان لم يتقلدوا زمام الامور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الارض «اللهم بلي لا تخلو الارض من قائم للَّه بحججه اما ظاهر مشهور او خائفاً مغمور لكي لا تبطل حجج اللَّه وبيّناته» «1»

.الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 186

ولا فرق بين حضور الامام وغيبته بعد كون عدم تقلده زمام الامور بالفعل غير مؤثر في كونه اماما بالفعل- بما للامامة من عهد معهود إلهي ذات شؤون عظيمة بالغة- كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين «الحسن والحسين امامان ان قاما او قعدا» فقعودهما عليهما السلام بسبب جور الامة لا يفقدهما الجعل الالهي والخلافة الالهية علي الامة.

وهل من الامكان ابداء الاحتمال انه (عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الالهي، اذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين، ومن هنا كان تمسك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبري بنصبه لهم نوابا في قوله المروي مسنداً في غيبةالشيخ الطوسي «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الي رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة اللَّه» فقوله عليه السلام «فانهم حجتي عليكم» استنابة منه عليه السلام للفقهاء.

وهل يتعقل ان يكون للَّه حجتان بالاصل في عرض واحد بالفعل، بان يكون الحجة في غيبته حجة بالاصل، ومنتخب الامة حجة اخري بالاصل ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية علي ضوء مبدأ النص والتعيين ان ولاية الفقيه مستمدة منه عليه السلام وعجل اللَّه فرجه الشريف في الغيبة لا انها للفقيه بالاصالة مع خلعه عليه السلام عن ذلك المنصب.

هذا ولا يغفل عن ان سبب عدم تقلده (عج) زمام الامور والحكم

وعدم الظهور هو المذكور في قوله عليه السلام «لو كنتم علي اجتماع من امركم لعجل لكم الفرج» ولذلك قال السيد المرتضي والخواجة وغيرهما ان سبب غيبته منا.

نعم اذا أمكن ان تخلو الارض من الحجة المعصوم، وان يترك اللَّه البشر وحالهم مع قوانين دينه علي اوراق وتكون يد اللَّه مغلولة- والعياذ باللَّه تعالي- امكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الادلة.

ومن الطريف ان الدعوي المزبورة تذعن في طياتها بشروط المرشح بالانتخاب

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 187

من الفقاهة والكفاءة والامانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس الي غير ذلك من الشروط التي لا تتوفر بنحو الاطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه الا في المعصوم عليه السلام، وكأن ذلك أوْبٌ الي النص مرة أخري، اذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم نصبه (عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استفيد من قوله «فارجعوا» الايكال للامة في اختيار احد مصاديق النائب العام الجامع للشرائطولا يعني ذلك أن النصب بالاصالة من الامة بالذات، بل منه (عج) بالاصالة ومن الامة بتبع ايكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والافتاء عند التساوي في الاوصاف.

ولا يتوهم ان تولية الامة ذلك يلزمه امكان توليتها السلطة علي نفسها بالاصالة من اللَّه تعالي في اختيار خليفة اللَّه في ارضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث انه لابد من العصمة في قمة الهرم الاداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، اذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يتوهم انه حيث لابد للناس من امير برّ او فاجر تدار به رحي ادارة النظام الاجتماعي البشري وهذه اللابدية والضرورة العقلية التي نبه عليها علي عليه السلام في النهج تقتضي تنصيب الامير علي الناس بالذات بالاصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه

اندفاع التوهم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم، أما شرائط كونه امير برّ لا فاجر هو كون امارته من تشريع اللَّه تعالي واذنه اذ الولاية للَّه تعالي الحق، والامارة تجري علي يد الفرد البشري المخول منه تعالي في ذلك.

ولذلك تري أن عدة من الفقهاء قدس سرهم استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن اذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار انهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 188

في كلماتهم.

وبذلك ننتهي الي أن الاية هي في صدد الاشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الافق، وأما أين هي منطقة السلطة الجماعية وأين هي منطقة السلطة الفردية ومن هو من هم فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات وهو اللَّه تعالي ومن ثم رسوله صلي الله عليه و آله وخلفائه المعصومين، بالوقوف علي حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالا في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز علي هذه الجهة في الاية ان مادة الشوري هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، وفرق بين استطلاع رأي الاخرين وبين جمع ارادة الاخرين، فالاول هو موازنة بين الافكار والاراء من المستطلع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن اغفال التباين الماهوي بين الفكر والارادة، وان الشركة في الاول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الاية هي في اعتماد التلاقح الفكري في اعداد الفكرة، أما مرحلة البتّ والعزم والارادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد اضافة الامر الي ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعدكون مادة المشورة صريحة في المقام الاول.

بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتعلق بمجموعهم،

هذا لو جمدنا علي استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (امرهم)، ولم نستظهر معني الشأن من الامر- كما استظهره كثير من المفسرين- أي بمعني شأنهم وعادتهم ودأبهم علي عدم الاستبداد بالرأي واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الاضافة الي ضمير الجماعة هي وحدة سوق الافعال في الايات كما في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 189

«وَأَقِيمُوا الْصَّلَاةَ» «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاثْمِ»، وأما لفظة (بينهم) فهي ظرف لغو متعلق بمادة الشوري لكونها مداولة بينالآراء ومفاوضة لا تقل عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيُّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطول للطائفة الاولي من ادلة نظرية الشوري بالمعني المصطلح وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشوري والاستشارة توصلنا الي نتيجة ان مفاد الشوري هو بيان منهج عقلائي وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الاخرين. وان لا يكون اقدام علي مهام الامور الا بعد المداولة الفكرية وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة بل تبقي السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الاراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح الان منهجاً حضارياً متبعاً بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف … ص: 189

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ- قوله تعالي: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «1»

.أن الظاهر من الآية الكريمة اسناد الولاية الي الكل فالمولي هو الكل والمولي عليه كذلك فهي ولاية الكل علي الكل وهذا يعني أن أمر الامة بيدهم، وهذه الولاية تعم ولاية النصرة «2» وولاية الاخوة والمودة. والامر بالمعروف معني عام شامل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 190

(ويذهب محمد رشيد رضا الي ان الولاية معني عام يشمل كل

معني يحتمله ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معني الولاية كما في الانفال 8/ 73.

ب- «وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1»

.فهو امر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفة الامور حيث ان الامر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الاسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولي مثبت لنحو من الولاية من للآمر وللناهي علي الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوي المستلزمة للضرب او المنع الخارجي بالقوة.

وبتقريب آخر أن الأمر بالمعروف له صورتان، أحدهما: صرف الامر والنهي الانشائي والقولي والاخر: ان يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر. فإن كان الأمر الأول فلا خصوصية فيه حتي تختص به طائفة معينة بل هو عام شامل لجميع المسلمين. فلابد أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية وحينئذ يتعقل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الامر.

بل ان محمد رشيد رضا «2» يري أن هذه الآية في دلالتها علي كون الشوري اصل الحكم في الاسلام اقوي من دلالة آيتي الشوري.

وفي كل ما ذكر نظر بيان ذلك:

1- مادة (اولياء) و (ولي) ورد استعمالها في القران في موارد كثيرة جداً «3»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 191

عديدة واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة الي تلك الموارد القول ان اكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة.

والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية فإنها قد وردت ضمن آيات يقارن فيها الحق تعالي بين فئتين من الناس هم المنافقون والمؤمنون ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك «1»

حيث تخلفوا عنه صلي الله عليه و آله واستهزؤوا به فذكر ابتداءً وصف المنافقين بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالي والعذاب في الاخرة. وفي قبال هذه الفئة يقف المؤمنون وهم كالبنيان المرصوص في توادهم وتناصرهم وتحابهم. ويذكر صفاتهم التي هي علي طرف النقيض من المنافقين فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعندما يقال المؤمن ولي المؤمن معناه أنه ينصر اولياء اللَّه وينصر دينه واللَّه وليه بمعني أولي بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.

وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة اللَّه ورسوله. والنتيجة الاخروية وهي رحمة اللَّه تعالي والوعد بالجنة وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.

فالمنافقون يأمرون بالمنكر والمؤمنون يأمرون بالمعروف.

والمنافقون ينهون عن المعروف والمؤمنون ينهون عن المنكر.

والمنافقون يقبضون ايديهم والمؤمنون يؤتون الزكاة.

والمنافقون نسوا اللَّه فنسيهم والمؤمنون يطيعون اللَّه ورسوله وسيرحمهم اللَّه.

والمنافقون وعدهم نار جهنم والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 192

الانهار.

فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء والمؤمنون بنصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.

فالآية الكريمة غير ناظرة الي الولاية بمعني الحكم وادارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.

ومما يدل علي ما ذكرناه أيضاً أن اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واعمال فردية وليست متفرعة عن ولاية البعض علي البعض، مضافاً الي أن ذيل الآية ويطيعون اللَّه ورسوله فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة علي مجموع الأمة فكيف يلتئم مع الحث علي طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وانصياعهم ومتابعتهم.

2- اما الاية الثانية فإن غاية ما تدل عليه أن الامة يجب عليها تشكيل مثل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الامة بل السلطة تكون

من قبل اللَّه تعالي وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الامة وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل اللَّه تعالي وعلي المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.

وبتعبير آخر أن الآية تبين الدور الذي يجب أن تقوم به الامة في مجال الحكومة وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة لا ان التشريع والقدرة هو بيد الامة. فالآية لا تتعرض لهذا المقام بل تذكر ما هو تكليف الامة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.

3- أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل من تشاء وتسلطه علي نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذةبزمام الأمور انها داعيةالي الخير كل الخير لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر لذلك أيضاً عن المنكر الاعتقادي او الاقتصادي او المالي او

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 193

الاجتماعي في كل المجالات والشؤون، ومن الظاهر ان الداعي الي كل سبل الخير والآمر بكل معروف دق او جل وعظم وتوقفه خبر بماهية المنكر، وحائزاً علي العصمة العملية كي لا يتواني عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر لا تأخذ في اللَّه لومة لائم، ولا يعدل به هوي عن ذلك. فتنحصر وظيفتهم أي الامة في التكوين والرجوع الخارجي الي تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

4- ان الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسرة وحاكمة في الدلالة ومبينة للفئة الخاصة التي يجب علي الأمة الرجوع اليها وتمكينها خارجاً.

5- ان في الآية احتمالًا آخر وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف بل العلم قيد واجب فيه وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف نظير وجوب

الحج الكفائي غير المشروط علي كل المسلمين في كل سنة أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت هو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.

ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة فالجاهل لا يتأتي منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب وبضميمة أن التعلم لجميع الاحكام أو غالباً غير ما يبتلي به نفس المكلف واجب كفائي فهذا يعني ان الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلم المزبور فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالآية الكريمة محتملة أن تكون بصدد الاشارة الي ضرورة حصول ذلك التوجه لدي فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة نظير الوجوب الكفائي لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة لئلا يخلو بيت اللَّه الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلا يعطّل.

وبتعبير آخر اننا تارة ننظر الي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعني اقامة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 194

العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة وتارة ننظر اليه بنحو شامل وعام لجميع الافراد والآية ناظرة الي الثاني والدليل علي ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالي: «يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ … وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا..» وهذه كلها ناظرة الي تكاليف اجتماعية يقوم بها افراد المجتمع ويتوجب علي المجتمع اقامتها والعمل علي ايجادها خارجاً، وان الآية ليست في صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.

وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله عليه السلام: «انما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر علي العالم». فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر علي هذا الاحتمال وجوباً كفائياً وهو واجب علي الأمة بنحو الكفاية.

ثالثاً: البيعة: … ص: 194
اشارة

1- «إِنَّ

الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَي نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» «1»

.2- «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَي أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» «2».

تقريب الاستدلال: … ص: 194

ينطلق المستدل من المعني اللغوي للبيعة. فالبيعة الصفقة علي ايجاب البيع وبايعته من البيع، والمبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 195

ما عنده من صاحبه واعطاه خالصة نفسه «1».

فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري ونقل الولاية علي هذه العين للمشتري ولا يصح البيع إلا ممن له الولاية والصلاحية للتصرف في المبيع. والبيعة هي انشاء ولاية من المبايِع للمبايَع علي نفسه، واسناد هذه المبايعة للامة يدل علي أن الولاية هي للأمة وهي تنقلها الي الرسول صلي الله عليه و آله او للمعصوم في نظرية النص.

وقد استدل من الروايات:

- عن موسي بن جعفر عليه السلام قال: ثلاث موبقات نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة «2».

وقال العلامة المجلسي نكث الصفقة نقض البيعة وانما سميت البيعة صفقة لأن المتبايعين يضع احدهما يده في يد الاخر عندها. ويؤيد ما مضي السبر التأريخي حيث نري الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الاولي والثانية، وبيعة الامام علي وابنه الحسن والحسين عليهم السلام. ومبايعة الامام الرضا عليه السلام وما ورد في مبايعة الامام المهدي (عجل اللَّه تعالي فرجه) «3».

وتقريب الاستدلال بالروايات:

1- نفس المعني اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وانشاء ولاية فالطاعة وانشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من

مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته الفصل الثالث- فصل 29 ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 196

البيعة هي العهد علي الطاعة كأنما المبايع يعاهد أميره علي أن يسلم له النظر في أمر نفسه وامور المسلمين وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد فأشبه فعل البايع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالايدي.

2- ما ورد من التعبير انه عهد اللَّه وهذا ينسجم مع قوله تعالي: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ». ومنه يعلم ان الامامة والحاكمية تنوجد وتتولد من البيعة.

3- ان السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الاسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم. وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الاسلام.

4- من تكرر السيرة علي أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل علي ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل علي أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والاخر البيعة، فإذا ما وجدا معاً فإن يكون من باب التأكيد والثبوت. كما في تولية الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بنص اللَّه عزوجل الذي أوجب حاكمية الرسول صلي الله عليه و آله وأنه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته، أما كون البعية له هي المنشئة لتوليه وإمرته فهي بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومن ادعي ذلك من المتأخرين فهو غن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.

وفي هذا الاستدلال نأمل من جهات:

1- اننا ننطلق من نفس مدلول البيع. فان المحققين والفقهاء «1» نصوا علي ان البيع ليس من الاسباب الاولية لحصول الملكية فهو

ليس كالحيازة والابتكار

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 197

والارث. بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب ان يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين علي مورد المبايعة ثم ينقله الي آخر.

فنفس دليل البيعة لا يدل علي وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة.

اي اذا فرض كون سيادة موجودة فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الامة الي الحاكم «1»، ويؤيد ذلك ان نفس المعاني التي ذكرها اللغويون بعيدة عن انشاءالامرة والحاكمية بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة، وفي مسند أحمد بن حنبل قلت لسلمة بن الاكوع: علي أي شي ء بايعتم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يوم الحديبية؟ قال: بايعته علي الموت. فلم تكن المبايعة علي الترشيح او التولية.

2- لو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وان المسلمين عندما بايعوا علي ماذا بايعوا وان المؤمنات عندما بايعن علي ماذا بايعن، هل بايعوا علي امور لهم صلاحية تركها والالتزام بها فاختاروا الثاني. ام ان المبايعة كانت علي الحاكمية.

اننا نلاحظ انه في الآيتين وفي غيرها لم يرد ذكر للحاكمية علي الاطلاق، بل وردت المبايعة علي المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الاسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها فما الذي أفادته البيعة؟ اذن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام. فهي أولًا: لم يكن موردها الحاكمية فإن حاكمية الرسول هي من اللَّه، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل او انشاء ولاية علي الاطلاق، وهذا يعني ان للبيعة معني آخر ليس هو نفس المعني المأخوذ في البيع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 198

3- النقض بالنذر والعهد واليمين فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون

الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر وحينئذ يكون الوجوب آكد ويكون وجوبان، أحدهما: سابق علي النذر، والآخر: لاحق عليه. ويفسر الفقهاء ذلك بانه انشاء عهد للَّه عزوجل ومورد البيعة قد لا يكون امراً اختياره بيد المكلف بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهداً زائداً. والبيعة كذلك فالمبايع يُنشأ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن اصل الحاكمية ثابت في رتبة سابقة وليس سبب الحاكمية هو المبايعة بل قد تكون في بعض صورها أداء لامر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول صلي الله عليه و آله والامام عليه السلام.

فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد وتغليظ التكليف والثبات علي مَن نُص علي ولايته. وغاية ما يفرق بينها وبين النذر واخويه، أن الاخير في الامور العبادية، والاول في الامور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات منها موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: انه قال له: ان الايمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟ فقال له: ان كان ذلك كما تقول فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنا لا ندري بزعمك لعل ضميره الايمان فهذا القول نقض لامتحان النبي صلي الله عليه و آله من كان يجيئه يريد الإسلام، واخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد، قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة من حيث لا يعلم. (البحار ج 68/ 241 نقلا عن قرب الاسناد للحميري) ومفاده: ان الايمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجه النقض علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- والعياذ باللَّه- في قتاله للمشركين اذ قد يكون آمن وتحقق الايمان في قلبه دون لسانه، ونقض آخر أنه لم يطالب صلي الله عليه و

آله من أتاه يريد الاسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 199

4- ان ما ذكر من موارد المبايعة في الآيتين أمور يجب علي المبايع الالتزام بها عند انشائه للشهادتين ودخوله في الإسلام ولا تحتاج الي البيعة لأجل ايجابها عليه، ففي بيعة الشجرة كان الجهاد مفروضاً علي المسلمين قبلها وكان واجباً عليهم الاطاعة مما يدل علي أن البيعة لم تنشأ اصل الالتزام بل هو تغليظ وتعهد ظاهري.

5- من المسلمات والبديهيات الدينية ان منشأ السلطة هو اللَّه عزوجل (ان الحكم إلا للَّه)، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايع وهذا يعني وجود سلطنة للفرد علي مورد البيعة في رتبة سابقة وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وان السلطنة للَّه عزوجل وقد استخلف الرسول صلي الله عليه و آله في أيام حياته.

6- ان القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق بل يجعلها مقيدة بقيود أوجبها الشارع والعقل فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين هما الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفاتان لا تكونان بنحوٍ واحد عند كل الأفراد بل تختلف بنحوٍ متفاوت، فإذا انطبقت علي أحدهما دون الآخر فإن العقل سوف يعين من هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال الي حد العصمة بأدلة أخري ونصوص تامة السند والدلالة- طبقاً لنظرية النص- فإنها سوف تكون هي المعينة. وعلي كل حال فإنّ التعيين إما أن يكون للعقل أو الشرع.

فيعود الامر الي ان الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.

7- ان الروايات طافحة بعبائر امثال

«الأمر للَّه يضعه حيث يشاء»، وهذا يعني ان البيعة ليست تولية وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول صلي الله عليه و آله وبين عامر بن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 200

صعصعة حيث دعاهم الي اللَّه وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك علي أمرك ثم أظهرك اللَّه علي مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك.

قال صلي الله عليه و آله: الأمر للَّه يضعه حيث يشاء.

8- ان البيعة نوع من العقود والعهود وهذا يعني انها تصنف في باب المعاملات فيجب ان نعود قليلًا الي الادلة الواردة في باب المعاملات، فإن الفقهاء يصنفون الادلة هناك الي قسمين أدلة صحة وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة هي الأدلة التي تتعرض الي ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرض الي المعاملة الصحيحة وانها لازمة ولا يجوز فسخها. وبتعبير آخر الفرق بينهما موضوعاً ومحمولًا.

أما موضوعاً فموضوع ادلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع ادلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع. أما محمولًا ففي ادلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة واثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع أما ادلة اللزوم فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها، والتفريق بين هذين الصنفين من الادلة مهم جداً حيث لا يمكن التمسك ب «المؤمنون عند شروطهم»، اذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة. بل من ادلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها وهو وصف اللزوم.

وبناء عليه يطرح التساؤل بأن ادلة البيعة اين يمكن تصنيفها في أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضي التعاريف اللغوية وانها بمعني العهد فانها تصنف في الثانية وهذا يعني أن هذه الادلة لا تتعرض لمورد

البيعة وان المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا؟ بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة ومن أدلة اخري أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 201

سابقاً، فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط تعرض علي ماهيات اولية مفروغ عن صحتها.

والخلاصة ان البيعة انشاء الالتزام بمفادٍ ثابت صحته في رتبة سابقة.

نقض ودفع: … ص: 201

وهنا قد يورد نقض او تساؤل ان الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله لم يهاجر إلا بعد أن أخذ البيعة من اهل المدينة، وأن امير المؤمنين عليه السلام لم يرض أن يستلم السلطة إلا بعد البيعة، وهذان التصرفان يدلان علي وجود خصوصية في البيعة.

والجواب عن ذلك: أن الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله قبل اخذ البيعة قام بالدعوة الي نفسه وبيان حقيقة رسالته فحصل انجذاب افراد المجتمع اليه ومن ثَمّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في امير المؤمنين عليه السلام فبعد ايمان العامة بالامام علي وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكك والانهيار الذي صادف الدولة الاسلامية حصلت المبايعة.

فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الاكرم حيث أنه ينتقل الي مرحلة المواجهة مع المجتمع المكي، فيجب ان يطمئن الي التزام جماعته وتعهدهم بذلك الالتزام.

وهكذا يقال في ولاية امير المؤمنين عليه السلام وولاية الحسن عليه السلام وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين عليه السلام بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير اخذ البيعة للحجة المنتظر (عجل اللَّه تعالي فرجه) فالبيعة في كل هذا ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة.

- واما ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الاكرم في الحديبية فسببه ان المسلمين لم يريدوا ايقاع الصلح مع المشركين خلافاً لرأي الرسول الاكرم صلي الله

عليه و آله الذي كان يري فيه انتصاراً للمسلمين واذلالًا للكافرين حيث اعترفوا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 202

للمسلمين بكيان ودولة، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسليمن لكن غالبية مَن كان مع الرسول لم يتفطن لذلك، وازدادت الشقة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه للمدينة أراد الرسول أن يجدد المسلمون التزامهم وتعهدهم بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة.

وما ذكر من الروايات الاخري تؤكد كلها هذا المطلب.

- واما خطب الامام عليه السلام ففي بعضها يقيم الامام الحجة علي مبني الخصم وهو اعتبار البيعة شرط في تولي الحاكم وان كانت علي خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به عليه السلام.

- واما قوله للذين تخلفوا عن بيعته: ايها الناس انكم بايعتموني علي ما بويع عليه من كان قبلي وأن الخيار للناس قبل ان يبايعوا فاذا بايعوا فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة مَن رغب عنها رغب عن دين الاسلام واتبع غير سبيل اهله.

فبالاضافة الي ذلك الجواب فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم حيث يبتدأها: ان كانت الإمامة خيرة من اللَّه ورسوله فليس لهم ان يختاروا وان كانت الخيرة للناس فقد بايعني الناس بالشوري..

رابعاً: … ص: 202

الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالي الناس عموماً بوجوب الجهاد واقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء واقامة الحدود «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1»

. وقوله تعالي: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 203

نَكَالًا مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «1»

، «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ» «2»

فاجلدوا ولا تأخذكم اقطعوا الخطاب فيها للمجموع.

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» «3»

. وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.

وتقريب الاستدلال بها ان هذه الآيات تحدد وظيفة الانبياء والرسل بالتبليغ أما نفس الحكومة وادارة أمور المجتمع والوظائف العامة فهي للناس يجب عليهم القيام بها.

والجواب عنها:

1- قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافة، وبتعبير آخر إن الدولة والحكم جهدمشترك بين الناس والحاكم ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده، ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.

2- لو سلمنا بدلالة الايات علي المدعي فنتساءل كيف يمكن للناس ان يقوموا بتلك المهام فهل يؤدونها بنحو المجموع وهذا غير ممكن بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولي هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل ان الواجب هل يسقط عن الامة وبقية الناس؟ الجواب بالطبع لا، فالواجب يبقي مع وجودهذا الجهاز.

وبتعبير آخر ان وجوب هذه الأمور علي الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام فانه يبقي علي الناس الطاعة والالتزام بما يقرره هذا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 204

الجهاز. فهذه الايات علي فرض تمامية دلالتها لا تنافي وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه الأمور.

3- إن أي فعل له جهات ثلاثة أحدها ماهية الفعل وكيفية ادائه وشرائطه. والثانية الذي يقوم بالفعل، والثالث الذي يقع عليه الفعل (القابل).

والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان احدي هذه الجهات ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الاخري فقوله عليه السلام: نهي النبي صلي الله عليه و آله عن بيع الغرر، لبيان الجهة الاولي ولا يمكن

الاستفادةمنها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الايات في صدد بيان الجهة الاولي وهي ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الاسلامي. أما مَن هو الذي يقوم بهذا العمل فإن الآيات غير متعرضة له. فهذه وظائف خاصة واجبة علي عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً علي الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي علي عامة المسلمين ولاينافيه كونه واجباً عينياً علي الولي او الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشوري.

4- ورد في ذيل آية سورة الحديد: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»، فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلغين عن اللَّه وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة وليميز اللَّه الخبيث من الطيب. 5- إن المستدل استدل بظاهر هذه الايات وأن هذه الاوامر عامة للناس لكن غفل عن آيات اخري كان المخاطب فيها الرسول صلي الله عليه و آله وحده «جَاهِدِ الْكُفَّارَ- فَاحْكُم بَيْنَهُم بالعَدْلِ».

وهذا يعني انه لا يمكن الاغفال عن هذه الايات، ووضعها بجانب تلك الايات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 205

حتي يظهر لنا ما هو الواجب علي الامة، وما هو الواجب علي المرسلين، ولا يمكن النظر اليها بنحو منفصلٍ عن بقية الآيات التي تثبت الولاية ووظائف الولاة، وادلة الولاية لا تكون معارضة لهذه الآيات بل تكون قرينة علي تعيين مفادها.

خامساً: آيات الاستخلاف … ص: 205

«وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَايَشَاءُ..» «1»

«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الارْضِ..» «2» «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ» «3»

. «إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ» «4»

. «وَهُوَ الَّذِي

جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ..» «5»

.وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلوا عمارة الارض من قبل اللَّه جل وعلا ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي احدهم وتأميره واعطاء الولاية له.

وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر طبقاً لنظرية النص أن هذه الآيات هي اذن عام بالاستفادة من خيرات الارض وإعمارها في قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. اما الولاية الخاصة والتأمير فهو أمر آخر لا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 206

يستفاد من هذه الخلافة العامة.

وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة:

1- ان غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الامة بالوظائف العامة فيرد عليها ما أوردناه هناك والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم اعمار الارض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الافساد والاهمال.

2- يصرح كثير من المفسرين ان هناك نوعين من الاستخلاف احدهما عام يشمل جميع البشر والاخر خاص وهو الذي يتعرض فيه للولاية وهو خاص بمن يصطفيه اللَّه تعالي (البقرة: 30- 35)، وخص من اصطفاه بخصوصيات منع منها الاخرين كالعلم اللدني واسجاد الملائكة له. وكذلك راجع سورة ص اية 26 والنور آية 25.

والآيات المذكورة في هذا الوجه هو في الاستخلاف العام وهو غير ناظر للولاية.

3- ان آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض اعمار الارض للبشر تكويناً، اما تشريعاً فانه لم يفرضها لمطلق البشر بل لمن توفرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام اللَّه وطاعته، وأن اللَّه لا يريد صرف ومجرد الاعمار البشري المادي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَي الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا

قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» «1»

. وهذا وجه التعبير بالفيئ علي ما استولي عليه الرسول صلي الله عليه و آله من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 207

يوجف عليه بخيل ولا ركاب بمعني المال الراجع فلم يعتبر للكفار صلاحية التملك، واعتبر لخليفة اللَّه نبيه صلي الله عليه و آله ولاية الاموال العامة في الارض.

سادساً: آية الامانة … ص: 207

قوله تعالي: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَي أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» «1»

.يوجد للآية تقريبان:

الاول: ان يكون المراد من الامانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع «وَإِذَا حَكَمْتُم» بمعني ان الحكم بين الناس امانة، وأن من يملك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث أنهم المخاطبون بذلك، فاذا وُلي بعضهم علي بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.

الثاني: ان الامانة وهي الحكم بين الناس بالاصالة، وعند وجود المعصوم فان الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه فإنها تعود للامة.

وقوله تعالي: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا»»

.وقد فسرت الامانة تارة بالتكاليف وأخري بالأحكام وعلي كليهما ينفع في المقام، اذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالامانة بيد الأمة اما بالاصالة مطلقة أي في عرض النص أو انها في طول النص.

والجواب عن هذا كله:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 208

لو لاحظنا آية سورة النساء لوجدنا انها ابتدأت بضمير المخاطب «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ» وفي ذيلها: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» وقد تغير الاسلوب إلي الخطاب بالصفة، وهذا يقرّب ما ورد من الروايات أن المخاطب في

الأولي هم ولاة الأمر، فالإمامة هي أمانة الحكم إلا أن المخاطب بها هم ولاة الأمر.

وفي الثانية خطاب الي عامة الناس لطاعة أولي الأمر. وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر عليه السلام: «إن احدي الآيتين لنا والاخري لكم» وقد ذهب بعض الكتّاب إلي تفسير الرواية ان الآية الاولي هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب إذ أن الخطاب في الثانية ب «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وهو خطاب عام، والآية الاولي وان كان الخطاب فيها عاماً إلا انه لا يعقل توجيهه لكل الناس لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.

وعلي فرض التنزل وان المخاطب في الآية الاولي هم عامة الناس فهي أصرح علي نظرية النص حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عمليا ويمكنوا من هو أهل لذلك وهم الواجب طاعتهم.

أما بقية الآيات فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرض الي ولاية الامر بالخصوص.

وبعبارة أخري أن ذيل الآية من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة اللَّه وطاعة رسوله- مما يدلل علي أنها متفرعة منهما لا من تنصيب الناس- شاهد علي أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم لان اللازم علي الناس المتابعة والانقياد، ومن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد اللَّه الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة لا العهد من الناس.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 209

سابعاً: آيات تدل علي نفي مسؤولية الرسول عن الامة … ص: 209

«مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّي فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» «1»

، «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ» «2»

. «وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَاأَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ» «3»

، «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ» «4»

، «فَإِن أَعْرَضُوا

فَمَا أَرْسَلَنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ» «5»

، وغيرها من الآيات ق 45، النحل 125، الغاشية 21، يونس 99.

وتقريب الاستدلال أن هذه الايات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الامة وانه ليس مسؤولًا عنهم اذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل علي انه ليس من مهام الرسول الولاية في الاصل.

والجواب عن هذا الاستدلال انه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة علي بيان معناها، حيث ان الايات بصدد الإشارة الي مطلب مهم بعيد عما يشهدون بها عليه، وهو أن الايمان الذي هو مدار النجاة في الآخرة لا يمكن للرسول أن يُلجأ أو يُقسِر عليه «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، وكان الرسول صلي الله عليه و آله يتألم لما يري من صدود المنافقين وهو الذي أرسل رحمة للعالمين، وما يتحلي به من رأفة وشفقة عليهم «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 210

مضافاً الي ان الرسول كان رحمة للناس وكان يظهر شفقته وحزنه حتي علي المنافقين، وان الحفاظة والوكالة المنفية هي في مورد الايمان والدين لا في مورد ادارة المجتمع ونحوه، كما ان هذا التفسير لا ينسجم مع الايات الصريحة بأن علي الرسول اقامة العدل سواء في مجال الاقتصاد والاموال أو في الحقوق والمنازعات السياسية أو الفردية، والحكم بين الناس والقضاء شعبة ركنية من شعب الدولة.

والآيات التي تأمر النبي بالجهاد «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» فإنها صريحة في وجوب اقامة الحكم الاسلامي وحمل الناس علي العيش في ضمن قوانين الدولة الاسلامية والتسليم الخارجي لهم، أما من جهة القلب والايمان الباطني فإن

هذا أمر غير قابل للإكراه فيه، وفي هذا المجال نري تلك الآيات التي تنفي مسؤولية الرسول صلي الله عليه و آله عنهم، أما الجانب الاول فإن الآيات صريحة في وجوب اقامة الحكم علي الرسول صلي الله عليه و آله وجعل كلمة اللَّه هي العليا.

ثامناً: … ص: 210

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُديً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» استدل البعض بهذه الآية الشريفة علي ان الحكم عن طريق الشوري، وأنه يكون في طول النص حيث أن الآية ذكرت انه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم وهو غير الهداية بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولًا ثم يأتي دور الربانيين وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب الي الرب وهم المطيعون للَّه عزوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهم أوصياء كل نبي، ثم يأتي ثالثاً دور الاحبار وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 211

الحكم وان هذه السنة الالهية في تولي الحكم جارية في جميع الاديان.

وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:

أ- قوله تعالي: «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ» فالمخاطب بها المسلمون وهذا يدل علي جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.

ب- ان القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به اللَّه عزوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم ينص علي خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني اسرائيل غير مختصة بهم بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل ان ذكرها للدلالة

علي ارادتها من المخاطبين.

ج- الايات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الانجيل إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص علي وجوب الحكم بما جاء في الانجيل «وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» ومن ثم تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول صلي الله عليه و آله بما أنزل اللَّه.

والخلاصة: ان الآيات تبين سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان وأنه اذا انزل كتاباً سماوياً فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً علي الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم علي كافة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية فهي للنبي ثم لوصيه ثم للأمة والاحبار اي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفر العلم والكفاءة والأمانة وهي امور لا ريب فيها.

وفي هذا الاستدلال تأمل ب:

1- إن الآية لا تنافي نظرية النص بل تدل عليها، وذلك: لأن ايكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالاصالة عرضا مع الربانيين ام بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 212

للانطباق علي كلا المعنين.

2- أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً بل هو للدلالة علي نيابة المتأخر عن المتقدم بمقتضي ولاية المتقدم ذكراً علي المتأخر لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرعة عن المتقدم، وحيث ان العلماء مستقي علمهم من المعصومين فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل علي تسنمهم سدة الفتيا هو آية النفر «1» فاسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول، حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول صلي الله عليه و آله وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان

تشريع فتياهم أي الفقهاء هو من قبل اللَّه عزوجل لكنها عن المعصوم عليه السلام عن الرسول صلي الله عليه و آله.

ان قلت: ظاهر الاية ان ولاية الاحبار ليست نيابة وذلك لأن اللَّه عزوجل اسند الحكم اليهم فالتخويل هو من قبل اللَّه.

قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة اللَّه وطاعة الرسول، وولاية اللَّه ولاية الرسول، فان المزاوجة بين الولايتين لا يدل علي انهما في عرض واحد بل انها جعلت للمعصوم بتخويل من اللَّه عزوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها فان الولاية علي الأموال هي للرسول والمعصوم لا للاصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية علي اموال الزكاة.

ان قلت: هل تتصور- بناء علي نظرية النص- ولاية الرسول صلي الله عليه و آله علي المعصومين بعد وفاته صلي الله عليه و آله.

قلت: إن ولاية الرسول صلي الله عليه و آله باقية علي مَن بعده حتي بعد وفاته وذلك لان الرسول الاكرم هو الطريق لوصول العلوم اليهم عليهم السلام ويذكر مضافاً الي نفوذ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 213

أحكامه صلي الله عليه و آله في كل المجالات علي من بعده الي يوم القيامة كمثال علي ذلك ما جري بين الحسين عليه السلام وابن عباس عندما سأله الاخير عن خروجه مع علمه بما فعلوه بأبيه وأخيه، فأجابه عليه السلام: إنه قد رأي النبي صلي الله عليه و آله في المنام وأخبره بالخروج الي العراق، حيث أن رؤيا المعصومين صادقة فهذه تمثل استمرار ولايته عليهم وبقاء تلك الطولية بينهم.

3- قوله تعالي: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار بل متعلقة بالنبيين والربانيين وذلك:

- ان مادة الحفظ واردة في القرآن غالبا بمعني

الايكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من اللَّه عزوجل الي الملائكة المسمون (بالحفظة)، ولفظة (استحفظوا) لم ترد الا في هذا المورد وهذا يدل علي أن المراد منه هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا» فالتعبير بالحمل هو بمعني ا لتكليف وهو غير الاستحفاظ والثاني ورد في علمائهم لا الأول.

- ورد عن الصادق عليه السلام في ذيل الآية: «الربانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين». قال: «ثم أخبر عنهم فقال: بما استحفظوا من كتاب اللَّه وكانوا عليه شهداء ولم يقل بما حملوا منه- تفسير الصافي 2: 38.

وهذا أيضاً يدل علي أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من اللَّه عزوجل.

- وقد يتساءل عن السر في تأخير (بما استحفظوا) وايرادها بعد الاحبار وكان الانسب ذكرها بعد الربانيين.

والجواب عن ذلك:

أ- مثل هذا التعبير وارد في مواضع اخري في القران مثلا في سورة النساء (72-

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 214

73): «وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً». فجملة (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) متعلقة بالآية السابقة عندما يقول المنافقون إذا هُزم المسلمون الحمد للَّه الذي لم نكن معهم فوجود الفاصل لا ينفي الارتباط بين الجملتين.

ب- ان هذا التعليل بين ان المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل اللَّه عزوجل، ويكون موضع الاحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الايدي والاعوان ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر

بل يصدر الأمر عنهم، نعم يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام عليه السلام لمالك الاشتر فقد زوده بالخطوط العامة للحكم وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطي لكل أحد بل لمن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة ولذا عبر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع الي عدم توفر التعليل فيهم حيث ان منحصر في النبيين والربانيين.

4- واخيراً يرد علي المستدل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشوري والنص وانه مع انتفاء النص تصل النوبة للشوري، ان ذلك يتنافي مع ما هو مقرر في العقيدة الشيعية من أن الارض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة وان الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني ان موضوع النص لا ينتفي اصلًا حتي يمكن أن نفرض الشوري عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلم الامام لسدة الحكم لجور الامة وضلالها لا يعني انتفاء النص فهو كما في تصريح الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله: الحسن والحسين امامان إن قاما وان قعدا.

وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص لأنه موجود ومؤثر بتسديده للامة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 215

وهدايته لها من ستار الغيب كما يظهر من الروايات الكثيرة في هذا المجال.

منها: قوله عليه السلام: اني لازلت راعٍ لكم ولست بغافل عما يدور حولكم. فضرورة المذهب السائدة ان الفقهاء هم نواب الامام وشرعيتهم من شرعية الامام، لا أن لهم ذلك بالاصالة مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً، وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام لا الخاص لجماعة واشخاص بخصوصهم، نعم أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل سواء كان

هذا الانتخاب بنحو مفرد أو لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه عليه السلام إلا أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.

وهذا المعني ليس ايكالًا للأمة باختيار القائد بمعني ان الامة تختار من ينوب عنها، بل هو تفويض للامة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من ان للفقهاء الولاية بالاصالة في عصر الغيبة مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.

تاسعاً: سيرة الأئمة عليهم السلام … ص: 215

وقد ذكرت وجوه اخري للدلالة علي الشوري بعضها قد مضي في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة.

1- الاستدلال بالسيرة: ان الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله والامام عليه السلام جرت سيرتم وعملهم علي عدم استلام سدة الحكم إلا بعد حصول البيعة ورجوع الناس اليهم وإن الامام نقل عنه انه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون اميراً. وأن حكومة الرسول صلي الله عليه و آله هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل ان الموروث من الرسول صلي الله عليه و آله ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسس به دستور لدولة سواء في الجانب القضائي او التشريعي او التنفيذي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 216

- ان الائمة عليهم السلام كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لاقامة الحكم بل علي العكس كانوا يدفعون من يأتي ليبايعهم. فالامام علي عليه السلام عندما اتاه الناس لمبايعته صدهم وامتنع اول الأمر وهذا يعني ان الامر بيد الامة فان انتخبتهم فقد اصابت طريق الرشاد والصلاح. كما ان أبامسلم الخراساني قد عرض الحكم علي الامام الصادق عليه السلام وقد رفض ذلك، والامام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض فهذا يعني انهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل اللَّه.

2- ان السياسة وتدبير

الامور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي امور عامة ترجع الي تقدير الناس وحسن رويتهم فالحكومة تستمد مشروعيتها من الامة والمجمتع.

3- ان المعصومين مبشرون ومبلغون وهداة، والنص علي امامتهم يعني وجوب الرجوع اليهم في معرفة أحكام الدين أصولًا وفروعاً، وان الحكومة ليست تكليفاً الهياً وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة واوضح مثال علي ذلك انبياء بني اسرائيل اذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.

4- ان الكتاب الكريم لم يحتوي الا علي جزء قليل من أحكام الدولة.

5- ان مفهوم النبوة والامامة يعتمد علي العلم الخاص وليس فيه دلالة او ايماء الي الحكم والولاية.

والجواب عن هذه الوجوه: … ص: 216

أولًا: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:

- ان الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الاسلامي كثيرة وهذه خطابات لا تصلح إلا للحاكم والوالي، واما البيعة فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 217

الوثوق والاطمئنان وقد ذكرنا ان البيعة ليست تفويضاً او توكيلًا بل هي اظهار الالتزام وأخذ العهد والتغليظ.

- وهكذا في سيرة الامام علي عليه السلام فإنه في كثير من كلماته يشير الي احقيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمن له أقل تتبع في التاريخ، حيث أنه أراد قطع العذر لمن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه وحتي لا يكون هناك مجالًا لمن أراد أن ينكث البيعة.

- وقد يشكل بما روي عن الامام الحسين عليه السلام من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: وإني قد اذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا.

وجوابه: أن الامام الحسين واجب النصرة لأنه مظلوم فضلًا عن كونه

إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة منها انه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.

ومنها: أنه يكون إذن خاص منه عليه السلام حيث علم أن سوف يستشهد.

ومنها: ان اصحابه ليسوا كلهم علي درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات انه قد ذهب بعض منهم- ولكن يسير جداً- فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.

ومنها: ان الاستشهاد معه عليه السلام مرتبة لا ينالها إلا من اتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم عليهم السلام ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه عليه السلام. وهؤلاء كانوا يظنون ان بقاءهم معه عليه السلام مرتبط ببيعتهم له فعاملهم الامام عليه السلام علي اعتقادهم.

- اما بالنسبة للامام الصادق عليه السلام فلقد عرض عليه ابومسلم الخراساني البيعة ولكن الإمام رفض ذلك وسره واضح لأن ابامسلم لم يرد تحكيم وتولية الامام، وانما اراد التستر والاستفادة من شخصية الامام عليه السلام لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلا إذا كانت

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 218

هناك شخصية ذات نفوذ وسلطة في قلوب الناس والامام عليه السلام كان له احاطة بالأوضاع الاجتماعية وعلي دراية بخبايا ابي مسلم. ولذلك ما أن أعرض عنه الامام فبادر ودعي الي بني العباس.

- اما بالنسبة للرضا عليه السلام فأولًا عندما امتنع عن قبول الولاية حقق هدفاً مهماً وهو اتضاح أن المأمون ولايته لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة فانه يتجنب امضاء مشروعية افعال السلطة الحاكمة حيث يتضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتي يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي

توخاه المأمون من استغلال مكانة الامام الدينية في دعم شرعية سلطته.

- أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة عليهم السلام عن الجانب السياسي وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:

أ- ان الأئمة عليهم السلام انصرفوا الي اعمال تعتبر أهم ملاكا من إقامة الحكم عند التزاحم وهي بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس وهي مقدمة علي تدبير الابدان، واضح أن نشر الدين وبيان الاحكام تعم منفعته جميع المسلمين في كافة الازمنة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الاجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الاطول زمانا مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا فالتقديم للأول.

ب- ان المجمتع الاسلامي قد توسع بشكل كبير في القرنين الاول والثاني وانفتح علي حضارات مختلفة واختلط بأمم متعددة مما اثار جملة كبيرة من الاسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجب الي اجوبة شافية دامغة لكل ما يمس الدين الحنيف، وقد عجزت الاذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الاجابة عليها واحتاجت الي من يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 219

الحركة المسيحية واليهودية لم تألوا جهداً علي ضرب الإسلام فكرياً وعقائديا بعد أن عجزت عن الاطاحة به عسكرياً، فقامت ببث التشكيك في معارف القران والجبر والتفويض وتجسيم اللَّه عزوجل ومعاجز النبي صلي الله عليه و آله و …

ج- ان إقامة الحكم ورئاسة الامة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة فاذا لم تتمثل الامة للواجب الملقي علي عاقتها من رجوعها الي الامام المعصوم فإنه لا يجب علي الامام اجبارهم علي ذلك. وقد تخاذلت الامة عن القيام بواجبها فاتجه الامام الي الوظيفة الاخري.

- ان الائمة لم يغفلوا الجانب السياسي

البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لاثبات أحقيتهم بالخلافة. فالامام الكاظم عليه السلام عندما حج هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الاخير يسلم علي الرسول: السلام عليك يابن العم. قال عليه السلام في السلام: السلام عليك ياجداه. للاشارة الي ان المشروعية اذا كانت بالاقربية فإنا اقرب اليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم عليهم السلام مع سلاطين بني أمية وبني العباس.

- ان الائمة عليهم السلام كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية ويأمرون وينهون شيعتهم ومن هذه المواقف:

أ- نهي الكاظم عليه السلام لصفوان عن ايجار جماله- والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الاسلامي آنذاك- للدولة الحاكمة انذاك.

ب- جباية الاموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فانهم عليهم السلام كانت تجبي إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء علي أنه مع حضور الامام لا تبرأ ذمة شخص إلا بتسليمها للامام عليه السلام. لما كان علي بن يقطين يدفع زكاته للامام الكاظم عليه السلام مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتي ان جواسيس بني العباس خاطب يوما هارون بما مضمونه هل للمسلمين خليفتان تجبي لكل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 220

منهما الاموال، وان الثاني هو موسي بن جعفر عليهما السلام، وان معه من شيعته عشرات آلاف السيوف تنصره. مما ينذر الخليفة العباسي بتنامي نفوذ الكاظم عليه السلام في المجتمع الإسلامي.

ب- نصب الوكلاء في المناطق المختلفة وهؤلاء يرجع اليهم الناس في كل من معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء من انفاذ الاوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وادارة اموال القصّر وأخذ القصاص أو الديات وغيرها.

وكان النصب علي نحو نصب خاص ونصب عام ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الافتاء- القضاء- المرجعية، حيث

يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الاخر وقد تتداخل بعضها وهذا التفصيل استفيد من روايات الائمة عليهم السلام فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية- يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي- يصف الشيعة في الكوفة انهم علي ثمان طوائف أحدها زرارية بن أعين والاخري مسلمية اتباع محمد بن مسلم وهشامية اتباع هشام بن الحكم وبصيرية أتباع ابي بصير وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع الي فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام كما نجد أن الائمة قد أجازوا اقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالاب علي ابنه والزوج علي زوجته والسيد علي عبده.

ج- الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الاموية والعباسية كما في رواية زين العابدين عليه السلام في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة قائلا تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته واللَّه تعلي يقول: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ … هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» فأجابه عليه السلام اكمل الآية فقال: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 221

بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» فقال عليه السلام:

إذا وجدت من هذه أوصافهم من المجاهدين فحينها لا ندع الجهاد والقتال»، وهو عليه السلام يشير الي أن الفتوحات التي تقوم الدولة بها حينذاك هدفها لم يكن نشر الاسلام بل جني الغنائم وتحصيل الجاه والاموال والجواري …

د- ما ورد في رواية ابن حمزة عن ابي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: من احللنا له شيئاً اصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال وما حرمناه ذلك فهو له حرام. وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت

تقوم بجباية الاموال من خراج وزكاة ومقاسمة.

ه- الاشراف علي تولي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتي يسهل ادارة امور الشيعة. كما في الامام الصادق عليه السلام مع داود الزربي والكاظم عليه السلام مع علي بن يقطين، والصادق عليه السلام مع النجاشي في توليه للاهواز والامام الرضا مع محمد بن اسماعيل بن بزيع.

و- الاذن لاصحابهم في التصدي للفتيا.

ز- تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية وليست تشريعات ثابتة. فكما في احياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية وليس تشريعاً ثابتاً بدليل ما في بعض الروايات المشيرة الي أنه عند ظهور الحجة عليه السلام سوف يتغير هذا النظام في الاراضي.

ح- اعفاؤهم شيعتهم من اعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد عليه السلام. وما ورد عن الباقر عليه السلام في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الاجير.

ط- حث الشيعة علي التمسك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولي والتبري،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 222

وعدم الولاء للسلطة الحاكمة وعدم مشروعيتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، واقامة الاحكام الفقهية الخاصة في الاعمال اليومية. وحث الامام الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام لاصحابه علي اقامة الجمعة فيما بينهم.

وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة أو لكتاب الوسائل مثلًا يجد الناظر مشجرة كاملة في الابواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة عليهم السلام في المجال التنفيذي الولائي والقضائي فضلًا عن التشريعي، فرسم صوررة كاملة عن انشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.

ثانياً: الدين والسياسة:

اما ما ذكر من ان السياسة ليست من الدين وان الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف

الالهي وان الكتاب غير حاوٍ لاحكام السياسة فيجاب عنه:

أ- ان القران عالج جوانب عدة من كيفية اقامة النظام في المجتمع، فوضع نظام الاحوال الشخصية، وقواعد القضاء وهذه القواعد التي تتفرع منها الاف القضايا الفرعية، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة القتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف) ونظام المنابع المالية العامة، وقد أعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.

فهل يعقل ان يقال ان من اهتم ببيان هذه الموارد اغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه.

ب- ينقض علي المستشكل بأن حكومة الرسول صلي الله عليه و آله في تلك الفترةالحرجة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 223

وصلت وحققت الكثير من الاهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام مع وجود الشخصية المؤهلة قادرعلي تأدية وظائف الحكومة و تنفيذها بأحسن حال.

كيف وقد انتشلت المجمتع البدوي القبلي المتخلف الي درجة أعظم نظام دولة يناهض القوتين العظميين حينذاك الكسروية والقيصرية.

ج- إن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة، لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرعه الشارع واعتبره وصحّحه والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة أي اعتبرها الشارع، فكيف لاتتعرض الشريعة للحكم السياسي، وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع، وبعبارة أخري ما المعني المحصل للمشروعية في كلامه ان لم ترجع الي عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معني للحديث عن المشروعية حينئذ.

ثم ان مقتضي أن اللَّه سبحانه وتعالي مالك للمخلوقين ولأفعالهم أن مبدأ وأصل الولاية هو للَّه تعالي وان كل الولايات تتشعب من

ولايته «الولاية للَّه الحق» و «ان الحكم الا للَّه»، وهذا أصل غاية الأمر حيث جعل للإنسان الاختيار لا القسر كانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر ونمط تشريعي اعتباري قانوني فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الالهية يبني علي أن أصل الولاية للَّه وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي الي ذلك الأصل.

نعم، المنطق الوضعي غير المتقيد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الانسان وسلطة الفرد علي نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط) فبين المنهجين بعد المشرقين.

د- إن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير الي أن تعيين القائد الذي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 224

تنتخبه الامة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفر في القائد المواصفات والاهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والامانة وغيرها. وحينئذ فاذا رشح من له هذه الصفات وانتخبته الامة يكون الانتخاب صحيحاً، فحقيقة الانتخاب هي استكشاف من تري الامة ان توفر هذه الصفات فيه بنحوٍ اكمل وافضل، فمنشأ ولايته هو توفر تلك الشروط فيه لا اختيار الامة وانما هو استكشاف فقط، وهذا يقترب من نظرية النص التي تدعي ان السماء هي التي تتكفل ببيان هذه الصفات وتحديدها ويكون بيد الامة تشخيصهم في الخارج.

وقد أثار هذا وأن الباحثون من فقهاء القانون الوضعي أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة سواء علي الأفعال أو الأعيان، بل السلطة التكوينية علي الأولي والحيازة أو العمارة للثانية هو المنشأ، وأما فقهاء الشرع من الفريقين فقد نصوا علي لزوم امضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة اذ ان للَّه ما في السموات والارض. فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الافعال والاعيان الا ما حدده الشرع له، لأن الشارع

الاقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الانسان فاعل ومالك لما يشاء ومطلق العنان، الا ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي او العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) الي الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن اساس الحكومة في المجمتمع بين المنهجين مختلف، فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية اللَّه تعالي علي المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد علي أنفسهم.

بل ان الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل كما ذكرنا آنفا الي هذه النتيجة وهي أن الاساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري، وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد علي نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 225

علي الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي وليس هو من وضع سلطة الأفراد علي أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة واذا ترقت أصبحت عصمة) لابد منه، وليس للفرد والأفراد تخطي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث علي المذهب الفردي.

ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي (سواء الانتخاب أو البيعة) ليس الا عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء علي المنهج التوحيدي الديني او الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي بل هو توفر شرائط القانون الالهي فيه، أو الوضعي الالهي حيث انه

يشعّب الولاية من المالك المطلق الخالق طبق موازين الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يعين المصداق الذي تتوفر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو الا زيادة تعهد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.

وأما المنهج الوضعي فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الامة لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الرباني الالهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 226

فكون العقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهد، لا انه عملية مولدة لصحة الشي ء الذي تم التعاقد عليه بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، وكون العقد هذا مفاده من اوليات الأبحاث القانونية فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخب والمبايع، وانما الذي يؤمنه تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.

ثم كيف يتلائم قول القائل بأن الحكمة الالهية في المعصوم عليه السلام هي تجسيده للقانون الالهي علي كل الاصعدة السياسية والاجتماعية والفردية وغيرها، مع قوله بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً علي الأمة، وهل يكون ناطقاً حياً بالقانون الا بجعل الزعامة له علي الامة.

ه- إن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الالهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو

الفرد والانسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور اللَّه جل وعلا أو الفرد بما هو عبد للَّه، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن إذ يضفي آثاره علي بنوده والأهداف المتوخاة.

ففي القانون الالهي يكون الالتفات الي القوي الناطقية والالهية في الانسان، وفي الوضعي يكون الالتفات الي القوي النازلة والحيوانية له، ولذا تكون نظرية النص اكثر انسجاماً مع القانون الالهي. ونظرية الشوري تنسجم مع القانون الوضعي حيث تجعل السلطة للفرد.

وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الالهي تراعي الكمالات التي توصل الي الحق تعالي وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 227

هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشوري:

- ان نظرية الشوري تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة، حيث ان الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد علي أسا الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.

- ان أصحاب نظرية الشوري يجدون فراغاً كبيراً في التشريع اذ انهم يعتمدون علي ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله، أما أصحاب نظرية النص فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين علي يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الاسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.

و- ما ذكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هي معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي

فن من الفنون قائم علي الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج الي كياسة وخبرة وتجربة والسائس يكون مؤهلًا إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.

والجواب عن هذا:

- أن السياسة كما لها جانب عملي فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه اصول كلية وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصلًا في بحث الاعتبار والحسن والقبح) ثم ان الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط بل يرتبط بالجانب العملي وفروع الدين تمثل هذا الجانب.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 228

- إن السياسة علم يدرس في الجامعات الاكاديمية ويحتوي علي كليات مسطورة في الكتب. نعم الجانب التطبيقي منها يعتمد علي الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة حيث أن علمه اللدني لا حاجةمعه الي اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لما قد يصوره البعض في غيبة الحجة عليه السلام «وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً»، والعلم نور يقذفه اللَّه في قلب من يشاء وما التجارب والممارسات إلا معدات لذلك الفيض الالهي. هذا بجانب علمه المحيطبا لموضوعات بتسديد من البارئ وترفره علي كمال الصفات في قواه النفسية الاخري.

ثالثا: ان الانبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط بل يديرون دفة الحكم والاية المذكورة في سورة المائدة (44) أوضح دليل علي ذلك غاية الأمر ان الانبياء في اداء هذه الوظيفة بالذات يحتاجون الي مؤازرة الناس واقدارهم وبدون رجوع الناس اليهم لا تتم هذه الوظيفة.

رابعاً: ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معني الامامة والنبوة باطل وجوابه يتضح من قوله تعالي: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً»، «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ»، «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ»، «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلَا تَتَّبِعْ

أَهْوَاءَهُمْ»، «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ»، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ»، «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ»، «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ»، «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم» فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول صلي الله عليه و آله والإمام، مضافاً الي آيات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 229

الولاية العامة الكثيرة «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» وغيرها.

خامسا: النص والعقل: ان القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق إلي الحجر علي عقل الانسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتي في المعصوم يحتاج الي انتخاب الناس وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم العقلي. وبتعبير آخر فإن النص يحمل في طياته التناقض وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض ان الناس عقلاء فلا معني لجعل الولاية عليهم فالعصمة التي في الأئمة هي عصمة ا لتبليغ والهداية لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الانسان أمر دنيوي لا يرجع فيه الي السماء والحاكم ليس إلا وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها.

وجوابه: ان يكون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة علي نفسه وعلي كل جزء من بدنه، بل ان الولاية المطلقة هي للَّه عزوجل وتتصل به ولاية الرسول والامام أي المعصوم فبمجرد كونه عاقلًا لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل

ينقصه الكثير الكثيرلكي يحيط خبرا بكافة الامور غير المتناهية سواء المحيط به أو داخل ذاته، فولاية اللَّه ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق علي العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.

فلو قلنا ان الولاية تابعة لمدي عقلائيته لازمه أن تعطي الولاية للاخرين في الامور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد علي أحد لا يعني أن الاخر محجور عليه. بل للفرد العاقل ولاية في حدود عقلائيته، والمعصوم عقله محيط بجميع الأمور فولايته أقوي من ولايةالانسان علي نفسه. «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، مضافاً الي أن المستشكل يري أن الفرد عندما ينتخب اخر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 230

ويعطيه الولاية علي نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض فراراً من هذا الاشكال ذهب الي ان الحكم والانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح انه لا يمكن تصوير الوكالة بالمعني المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات وذلك لأن الحاكم يقوم بالزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات ولا يمكن تصوير ان الوكيل يُلزم الموكل بما لا يريده فضلًا عن لزوم هذه الوكالة.

إذ مقتضي أن الوكالة جائزة هو أن الامة يمكن ان ترجع في اختيارها حتي من دون سبب وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.

مضافاً الي العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية. والقَسَم الدستوري الذي يؤديه الحاكم، وعدم امكان الحاكم الثاني ابطال أعمال الحاكم الأول. وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلا عن الفرد.

وعلي كل تقدير يبقي المجال امام الولاية فاذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفردعلي نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته فكذلك جعل الوالي من قبل اللَّه لا ينافي عقلائيته.

سادساً: النص والاستبداد: إن البعض ذكر أن نظرية

النص تؤدي الي الاستبداد والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة، اذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل المحور ذات الفرد ولذا قال البعض فراراً من هذا الاشكال ان المعصوم ملزم بالشوري والاستشارة وملزم ايضاً بنتيجة الشوري.

والجواب عنها:

أ- ان الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية.

ولاجل ابطال النظرية يجب اثبات الاول.

ب- ان المشرع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد وذلك عن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 231

طريق ضمانات اجرائية:

منها: ان المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات، وسوف يأتي في الحديث في غير المعصوم.

ومنها: لزوم التقيد بالأحكام الالهية بعيداً عن الهوي والاحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرف مخالف لها.

ومنها: رقابة الامة تحت اطار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة الي حكومة نائب المعصوم ظاهرة وأما بالنسبة الي حكومة المعصوم فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الامة معينة للمعصوم علي مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي عليه السلام.

ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والامانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه وإلا فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد الي العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الامام عليه السلام: لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة.

ومنها: ان الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي- مضافاً الي الجانب التكويني الخاص- حيثيتان حقوقية بما هو رسول او امام او نائب امام، والاخري حقيقية ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر افراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم، وهذا

لما مر في النائب عن المعصوم واما فيه فانه كذلك سوي ما خصّ به من امتيازات في التشريع الالهي مما شرّف وفضّل به علي سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الاخري لا يكون نافذاً هذا في النائب غير المعصوم والا ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي.

وبتعبير آخر ان ولاية شخصٍ ما ينوب عن المعصوم هي لعقيدته وفقاهته وعدالته

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 232

أنيب في الولاية لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النص الحاكم (المعصوم او نائبه) ينظر الي الحكم كمسؤولية وامانة وخدمة ووظيفة.

ومنها: المساواة أمام القانون فالجميع يقفون أمام القانون علي حدٍ سواء وتطبق العدالة عليهم، وهو لا يعني ان يتساوي الجميع في العطاء- مثلا- بل يعطي كل علي حسب ما هو مقدر له في الشرع فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنه تمايز وتفاضل رضي عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الاخرة لا عالم الدينا.

ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو بل بما هو عبد اللَّه بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو، وقد ذكرنا سابقاً ما يترتب علي هذه التفرقة وأهمها أنها في التقنين تُؤمن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية.. وهذه كلها تعتبر من درجات الانسان السفلي.

بينما في التقنين الالهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية أي قوي الانسان العليا وهي المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في اشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هي في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة، والاستبداد يأتي من حرص الانسان علي نفسه وخصوصيته وهذا إنما يرد في النظريات الاخري لا نظرية النص التي تجعل اللَّه هو

الأصل والمقصد والغاية.

فهذه الأمور والضمانات الاجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي بيطل كل تصرف يخالفها.

أما الاستبداد فإن نشأته تعود الي عوامل: آ- جهل وقلة وعي بالقانون. ب- وجود طبقة من العلماء والمفكرين يروجون لمحورية ذاتهم والصلاحيات المعطاة لاصحاب المناصب. ومحورية الفرد.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 233

ج- التفكك والاختلاف في صفوف الامة.

د- اشاعة الرعب والرهبة من الولاة.

ه- جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة مما ينشأ استبداد طبقي.

وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الانظمة الغربية المدعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها حيث تجد الفارق الطبقاتي شديدواسع الهوة والمال دُولة بين الاغنياء وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشوري)، وهذا ما اطلعنا عليه التاريخ قديما فان اكثر من جاء تحت هذا الغطاء الي سدة الحكم كان في الحقيقة بالتغلب والفتك بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوي السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والامنية هي بيد من عصم علما وعملا كما بيناه مفصلًا وكما اطلعنا التاريخ علي حكومة الرسول صلي الله عليه و آله والامير عليه السلام وبرهة من حكم الحسنين عليهما السلام.

الامر الرابع: الأدلة العقلية علي الشوري: … ص: 233
اشارة

وله تقريبات ثلاثة:

التقريب الاول: ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويعلم من ضرورة العقل انه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وادارة تقيم هذا الاجتماع وهو المشار اليه في قوله عليه السلام: لابد للناس من أمير بر أو فاجر. كما ان الواجبات الكفائية الملقاة علي عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إما ان تكون منصوبة من قبل اللَّه عزوجل، أو تنصبها الامة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد لأنه ظلم واستئثار،

فينحصر الأمر بين الاولين والفرض ان النصب من قبل اللَّه منتفٍ اما مطلقاً أو علي الاقل في عصر الغيبة فيتعين انتخاب الامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 234

التقريب الثاني: ان السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان علي ان الناس ينتخبون حُكَّامهم بانفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتي زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدي العقلاء.

التقريب الثالث: وحاصله انه قد ثبت أن الناس مسلطون علي أموالهم، والسلطنة علي المال فرع من السلطنة علي فعل النفس، فهذا كافٍ في اثبات سلطنة الناس علي أنفسهم، وقد يقال استدلالا علي هذه المقدمة ان الانسان مسلط علي نفسه بحكم العقل العملي، حيث ان الانسان مسلط علي نفسه تكوينا فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الاجارة ان عمل الاجير لا يملكه المؤجر قبل عقد الايجار، وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول ان اللَّه تعالي ذكر ان الرسول اولي بالمؤمنين من انفسهم، فهو يثبت ولاية الانسان علي نفسه في مرتبة سابقة، غايتها ان الشارع جعل الرسول أولي منه بذلك وهذا خاص بالرسول او المعصوم، ومقتضي تسلط كل فرد علي نفسه أنه لا يجوز لأحد أن يقهرهم، وعندما تقام الحكومة لابد من حصول تنسيق بين حريات الافراد المقتضي للحد من اطلاقها، وهذا التحديد لحرية الفرد يخالف تلك السلطنة المطلقة التي للفرد علي نفسه فلابد ان يحصل ذلك بإذنه أو بتوكيل منه.

ويرد علي هذه التقريبات:

اما الاول فإنا مع التسليم بالمقدمات ولكنا نختار من شقوقه نصب اللَّه عزوجل بل نفس لابدية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص، حيث أن تعيين

الحاكم والقائد من الامور التي يتحقق بها لطف اللَّه حيث انه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وان كان ينطبق علي المعصوم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 235

إلا أنه بنفسه يمكن ذكره في الغيبة، أي ترتب المقدمات بعينها بعد فرض وجود المعصوم حياً وان كان في ستار الغيبة فنستكشف من اللابدية المزبورة نصب الفقيه العادل نائباً من قبل المعصوم، إذ الولي في الأصل هو المعصوم فلا معني لولاية الفقيه العادل بالاصالة بل بالنيابة عن إمام الأصل فيقال: ان اللَّه لا يترك مجتمعه هكذا بدون ارشاد وبدون تعيين بل يذكر لهم الشروط والطريقة الفضلي في تعيين القائد، وهذا يستلزم استكشاف نصب المعصوم للنائب الفقيه العادل وينسجم مع نظرية النيابة عن المعصوم.

وخصوصاً ان المعصوم حي ومازال يمارس دوره في هداية الامة وحفظها سواء عبر نوابه بالنيابة العامة، أو عبر دائرة الابدال والاوتاد والسياح المغمورين بين الناس كما تشير اليه الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة، لكنهم نشطون في مجريات الأمور المتغيرة في العالم البشري اجمع فضلًا عن العالم الاسلامي، ولك أن تمثل لذلك بالتنظيم السياسي السري الذي يقوم بدور فعّال في مجريات الامور من دون ظهور بارز علي منصة السياسة في العلن. وقد أشار الي ما يقرب من ذلك كل من الشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضي في كتبهم المتعلقة بغيبته (عج).

وما يقال من أن الامة الاسلامية قد وصلت الي مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الالهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه مردود بأن الكمالات الالهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود فينحصر العترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة،

وهذا التقريب حينئذٍ لا يتأتي إلا في نيابة الفقيه عن المعصوم. مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الاهواء والامراض الفكرية والاجتماعية الفتاكة خير شاهد علي ضرورة المعصوم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 236

أما التقريب الثاني فيرده ان هذا البناء العقلائي ليس بممضي بل ورد الردع عنه في آيات وروايات تقدم ذكرها تشير أن الحكم للَّه فقط، وأنه يضعه حيث يشاء، ويجب التنبه الي أن السيرة العقلائية ليست هي حكم العقل فالسيرة تعني تواضع ووضع العقلاء الاعتباري وانشاؤهم الفرضي لأجل تنظيم مجريات أمورهم وحياتهم، وبعضه يقع موضع امضاء الشارع وبعضا لا يقع كذلك وما نحن فيه من هذا القسيم.

وقد يقال بامضاء البناء العقلائي من جهة ما ورد في نهج البلاغة (الكتاب 51) حيث يصف عمال الخراج: من عبداللَّه علي الي أصحاب الخراج أما بعد..

فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرعية و وكلاء الأمة:

فالتعبير بوكلاء الامة يعني ان الامة قد أوكلت الإمام وهو بدوره أو كل هؤلاء.

والجواب:

أ- في التقنين الاقتصادي الاسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع علي الأراضي، وهي ملك المسلمين وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمن يكون علي أموالهم له نوع من التوكيل وهذا غير من نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفي ء والانفال حيث انها ملك لولاية المعصوم نظير ما يقال حاليا ملك الدولة لا الامة.

ب- ان الامام قال: «وكلاء الأمة وسفراء الأئمة». فهؤلاء لهم لحاظان فمن حيث كون المال للمسلمين فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية علي التصرف والتدبير فهو بيد الحاكم وهو سفير له.

ج- الايكال له معني آخر غير الاصطلاحي وهو يحصل بأن يوكل الانسان أمراً الي آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكل علي اللَّه وايكال الأمر إليه،

وإنما يعني جعل همّ وتدبير ذلك الشي ء بيد الآخر.

وما قيل من دلالة قوله تعالي: «فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 237

أَحْسَنَهُ» «1»

، علي مشروعية الانتخاب ومدح وتحسين غريزة الانتخاب وهو دليل علي امضاء السيرة العقلائية مردود. بان الاية في صدد بيان ممدوحية متابعة القول الحسن فالمحورية ليس لانتخاب الفرد وأعمال سلطة وولاية وارادته وانما انتخاب قوته الفكرية وانتقاءه أصوب وأحسن الآراء كما تقدم في الاستشارة والشوري، وهذا هو مضمون الآية، ثم ليس أن ما انتخبه هو الحسن بل المحورية للحسن في نفسه وانه يجب علي الفرد اتباع ما هو حسن لا أن ما ينتخبه يصبح حسناً.

اما التقريب الثالث: وهذا التقريب تارة يستدل به علي الشوري في قبال النص وتارة في طول النص، وعلي كل حال فانطلاقة هذاالتقريب هو من أن الناس مسلطون علي انفسهم، لكن الرواية لم تذكر ما هو مورد السلطنة هل هو التصرفات الفردية الخاصة، أم التسلط علي النفس في الامور العامة التي تمس منافع الاخرين من الاموال العامة كالمباحات وإقامة اركان الدين في المجتمع وبث الهداية بتوسط جهاز الدولة والرقابة والاشراف علي مسير الامة في كل المجالات لتأخذ طريق الكمال، والرواية غير ناظرة للأمرالثاني بل تتعرض فقط للأمرالأول، وحتي هذه السلطنة ليست مطلقة له بل هي محدودة بما أجاز له اللَّه، والدليل علي ذلك مضافاً الي ما تقدم ذكره من ان الولاية في الاساس هي للَّه وكل الولايات بما فيها الولاية للفرد علي نفسه متشعبة من الولاية الاولي. ان اللَّه عزوجل حرم بعض التصرفات التي يكون فيها ربا واحل البيع وهو نوع تصرف، وغيرها من القيود التي جعلها اللَّه علي تلك التصرفات فهذا أدل دليل علي أن هذا النوع من السلطنة علي

تصرفه غير مطلقة بل هي للَّه عزوجل أحل له التصرف في نطاق وحدود معينة، ومن هنا نقول

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 238

ان اللَّه عزوجل يمكن ان يجعل الولاية في الأمور العامة لِمَن يشاء وأن يمنعه من التصرف فيها كيف يشاء.

وقد يصور البعض هذا التقريب بحكم العقل العملي بحسن تصرف الانسان بما يتولاه، أو أن الواقعية التكوينية تدل علي أنه مسلط علي نفسه وعلي عمله تكويناً فضلا عن الاغيار.

ويجاب عن هذا التصوير أن حكم العقل العملي بتحسين او تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي وهو مدي أحقية هذا الفرد بالتصرف وهذه الأحقية تعلم من كتاب اللَّه. في مثل هذا المورد الخفي جهاته مع تكثرها.

أما لو اريد الاستدلال بالتقريب علي الشوري في طول النص فجوابه انه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية فيجب أن يعلم ان هذا التخصيص هو استثناء طارئ او استثناء دائم، مضافاً الي انه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الامام فالولاية له وليست منقطعة او متوقفة كما هو ضروري مذهب الامامية ومقتضي الأدلة كتاباً وسنة. مع ان لازم هذه الدعوي من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الامة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاما التي لم يتسلم كان الامير عليه السلام مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة عليهم السلام تكون الولاية للأمة ولمنتخبها لا للإمام المعصوم عليه السلام، وهو كما تري يناقض أوليات المذهب والأدلة القطعية.

إشكالان ودفعهما: … ص: 238

من الأدلة علي الشوري وهي في كنهها اشكالات علي نيابة الفقيه عن الإمام، وأن النيابة انما تكون للمجموع، أي أن النيابة عن المعصوم لابد أن تكون هي المجموع لا الفرد (الفقيه) فالشوري ان

لم تكن صياغة بديلة عن النص في الغيبة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 239

وفي طول النص، فلا محالة هي المتعينة لنيابة المعصوم، وانها تستمد الولاية منه نيابة لا بالأصالة من الأمة.

وبعبارة اخري ان الادلة المتقدمة التي لم تتم لإثبات الشوري الا أن هناك نمطين آخرين لاثباتها غير ما تقدم:

الاول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.

الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر الي الامة.

- الاشكال الثاني الذي اعترض علي نظرية نيابة الفقيه هو عدم امكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرب الاشكال بنحو آخر وهو أن يقال ان الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولي السلطات مع انه غير معصوم يكونون قد تراجعوا عما دافعوا عنه في زمن ظهور الائمة من وجوب تولي المعصوم سدة الحكم، وعليه فاذا جاز للفقيه تولي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً فبطلت ضرورة خلافة الائمة، و اذا كانت العصمة شرطاً كيف يجوز للفقيه تولي السلطة.

والجواب عن كل ذلك ان هذا الاشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الامام وأن ما للامام له، أما علي ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولي الحكم ليس يعني توليه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في توليه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النواب في زمن ظهور الامام عليه السلام من كون صلاحياته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الافتاء واستنباط الاحكام.

ثم ان اختيار مصداق وفرد الفقيه الذي يتولي سدة الحكم اوكله المعصوم للأمة، فهم الذين يختارون من تجتمع فيه الشرائط لكن منشأ ولايته تكون بإنابة المعصوم له بالنيابة العامة، والأمة بعد ذلك تظل في رقابتها للفقيه وحيازته وواجديته للشرائط العلمية والعملية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 240

وبعبارة

أخري حيث أن الأئمة عليهم السلام لم ينصبوا نائباً خاصاً كما في عصر الحضور والغيبة الصغري، كان جعلها نيابة عامة يفيد تخيير الأمة في اختيار أحد المصاديق ممن ينطبق عليه شرائط النيابة العامة عن المعصومين عليهم السلام.

واما ما ذكر من التقريب الآخر فهذا نابع من جهل بمقام الامامة وما يرادفها، فإن الامامة لا تساوي تسلم سدة الحكم، وبالتالي فلو كانت تعني الامامة التسلم الفعلي لسدة الحكم لكان عدم تسلم الأئمة عليهم السلام السابقين لسدة الحكم يعني عدم فعلية امامتهم وعدم فعلية ولايتهم، مع انا ذكرنا أن الحكم ليس منحصراً في الحكومة الظاهرية فان ممارسة الحكومة الخفية والنفوذ علي الاتباع في الابعاد المختلفة هي نوع من المباشرة للولاية وكذا للحال في الامام الثاني عشر (عج) فإن مباشرته للأمور ليست منحصرة في العلن فراجع. بل ان هناك شؤون ومقامات اخري للامامة- وهذه الشؤون والمقامات ليس للفقيه منها حظ-:

منها: السلطة والولاية المعنوية والتكوينية، وهذه لها شعب لا مجال لبسطها في المقام.

ومنها: وجوب المودّة بنص القرآن «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي».

ومنها: الإقرار والاعتقاد بهم، وهو ركن في تحقق الإيمان قال صلي الله عليه و آله: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» «1»

فأوجب المعرفة للإمام وهو عنوان غير عنوان الطاعة الواجبة، وحذّر صلي الله عليه و آله بأن من لم تتحقق لديه تلك المعرفة فسيموت علي الكفر الجاهلي الذي ما دخل الإسلام.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 241

ومنها: عرض اعمال العباد عليهم، قال تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، فان عرض اعمال كل الامة المخاطبة في هذه الاية لا يكون علي الامة المخاطبة وانما علي عدة خاصة من المؤمنين الذين يتلون مقام رسول

اللَّه صلي الله عليه و آله.

وغيرها من المقامات والمناصب الاخري.

- ومن الاشكالات: عدم وجود نص علي نصب الفقيه نائباً عن المعصوم وعندئذ نعود الي مقتضي القاعدة عند عدم النص وهو كونه بيد المجموع والأصل عدم تسلط أحد علي أحد.

وبتقريب آخر انه مع الايمان بوجود الامام عليه السلام في سماء الغيب إلا انه مع عدم تمامية النص علي فقيه معين يعني عدم وجود النائب الخاص.

والجواب: ان النص ثابت وجلي في نصب الفقيه كما تقدمت الإشارة اليه من الآية والروايات والدليل العقلي وقد حرر في محله، وقد نشير اليه بنحو أوفي مؤخرا.

مضافاً الي انه عند عدم النص علي النائب كيف يصل الامر الي ولاية الشوري والحال أن المعصوم الحيّ هو الوليّ بالفعل بل تصل النوبة طبقاً لقاعدة الحسبة، وهي إما يستكشف منها نيابة الفقيه العادل كما قدمناه، واما يستكشف مجرد مأذونيه التصدي وتجعل القدر المتيقن هو الفقيه، وهذا واضح من الفقهاء الذين لم تتم لديهم أدلة النيابة العامة للفقيه طبقاً لقاعدة الحسبة أسدوا جواز التصدي والتصرف من باب مجرد المأذونية لا المنصب والتولية في الجهاد ونحوه للفقيه.

وبين التخرجين فروق مذكورة في تلك الأبواب.

وعليه فيمكننا القول إن المذهب الرسمي لفقهاء الامامية لا ينتهي إلي قاعدة الشوري بل لا يمكن ملائمة تلك القاعدة مع القول بالامامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 242

فلنستعرض الان النظرية المختارة والهدف منها هو القراءة العقائدية للطرح الموجود في الفقه السياسي أي ان الاطروحة هل تتلاءم مع الأسس التي اسست في علم الكلام ام لا.

والوجه الاخر الذي نريد الاشارة اليه هو أن ادلة النص علي نيابة الفقهاء تامة وهي توكل تعيين المصداق الواجد للشرائط بيد الأمة وأنها تظل علي مراقبته له.

وهذه الطريقة لها نظائر في الفقه الامامي.

*-

في تولي سدة القضاء فقد تسالم الفقهاء علي ان للمتخاصمين وللمتنازعين ان يعينوا من يشاؤون من القضاة الجامعي للشرائط فيختارون من شاؤوا ويرجعون اليه.

*- ما ورد في المرجعية وسدة الفتيا اذ من اجتمعت فيه الشرائط يصح للناس الرجوع اليه فيختار الناس من يشاؤون ممن اجتمعت فيه الشرائط وجواز فتياه لا يكون بسبب رجوع الناس اليه بل بالنصب العام من الامام عليه السلام لمن اجتمعت فيه شرائط الفتيا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 243

المبحث الخامس: أدلة نصب الفقهاء … ص: 243
اشارة

- اما ما ورد من النصب للفقهاء بنحو عام فيمكن الاستدلال به بما يأتي:

1- في سورة المائدة: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُديً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» «1»

.سبب النزول: يكاد يجمع المفسرون من العامة والخاصة علي أن سبب النزول هو اختلاف بني النضير وبني قريظة، فقالت بنو قريظة انه اذا قتل منهم واحد شخصاً من بني النضير قتلوا القاتل، واذا كان القاتل من بني النضير والمقتول من بني قريظة اعطوا الدية.

وكان اليهود اذا كان الزاني من الاشراف لم يقيموا عليه الحد، واذا كان من غيرهم اقاموا عليه الحد. فنزلت هذه الايات الشريفة لبيان ماذا يجب علي علماء بني اسرائيل وربانيهم من الحكم.

- ان الاية تدل علي ان العلماء مخولون طولياً في طول الربانيين، وهم أوصياء الأنبياء بقرينة ذكرهم بعدهم وقبل الأحبار- وغيرها من القرائن التي تقدمت الإشارة اليها- لتولي سدة القضاء والفتيا والتي اجملت في سدة الحكم وهذه النيابة ثابتة بإذن المعصوم.

- ان هذا التفويض ليس مختصاً بعلماء بني اسرائيل بقرينة كونه خطاباً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 244

للرسول صلي الله عليه و آله من بداية اية 41 وانما ذكر التوراة لانها هي

التشريع الالهي الذي يقضي به الأنبياء والربانيون والعلماء في ذلك الموقف فكذلك القرآن فيه التشريع الالهي الذي يحكم به هؤلاء وإنّ هؤلاء هم الذين يصلحون للحكم.

- ان الحكم المذكور أعم من القضاء بل يشمل الفتيا، والحكم انما يقام لأجل أن يُعمل به ويُنفذ.

2- رواية عمر بن حنظلة:

جري الكلام في مدي وثاقة عمر بن حنظلة حيث لم ينص علي توثيقه في كتب الرجال المعروفة، ولذا يعتبر البعض رواياته من المقبولات. ولكننا نذهب الي وثاقته، بل نعدّ هذه الرواية من الصحيح الاعلائي تبعاً لما ذهب اليه عدة من الفقهاء منهم الشهيد الثاني والدليل علي ذلك:

أ- ما رواه في الكافي عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لابي عبداللَّه عليه السلام: ان عمر بن حنظلة اتانا عنك بوقت، فقال ابوعبداللَّه عليه السلام: إذاً لا يكذب علينا.

وهذه الرواية واردة في مسألة حساسة كانت محل خلاف بين كبار فقهاء الشيعة في الكوفة، فعندما يكون لابن حنظلة رأياً يرويه عن الصادق عليه السلام فهذا يدل علي مكانة علمية له ومرجعيته لثلة من الشيعة، كما لا يخفي علي من أحاط خبراً بمسألة الوقت التي ثارت بين جماعة زرارة وجماعة أبي بصير وجماعة محمد بن مسلم.

وروايات يزيد بن خليفة متينة.

ب- نفس الرواية التي هي مورد الاستشهاد نلاحظ فيها التشقيقات الواردة، وجواب الامام عن كل منها يدل علي فقاهة وعلمية للسائل، وان الامام جاراه في تشقيقاته ولم يمانع.

ج- يروي عن محمد بن مسلم بسند صحيح «1» أن مشكلة حصلت لدي آل المختار فحمّلوها ابن حنظلة ليسأل الامام عنها واذا علم ان ديدن الشيعة هو تحميل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 245

المسائل للكبار المعروفين بالفضل لاسيما من البيوتات المعروفة. وان نفس محمد بن مسلم مع منزلته ومكانته هو الذي

يروي الرواية ولم يذكر مغمزاً في ابن حنظلة مما يدلل علي أرفعية منزلة ابن حنظلة علي ابن مسلم إذ العادة في الأقران عدم التصريح بوقوع مراجعة لقرينه في مسألة علمية مهمة من وجهاء الشيعة.

د- رواية اصحاب الاجماع عنه.

ه- ان 21 راويا مسلّم بوثاقتهم يروون عنه.

د- ان أخيه علي بن حنظلة نصّ علي توثيقه وهو دون اخيه وجاهة وعلمية «1».

اما فقه الرواية

فالبعض كالسيد الخوئي قدس سره أصرّ علي ان مورد الرواية هو في قاضي التحكيم والمشهور هو دلالتها علي قاضي التنصيب، والدليل علي ذلك أن القاضي الذي ينصبه الامام حيث يحتاج في انفاذ حكمه وبسط يده الي مؤازرة الناس، وعبّر عليه السلام ب «فليرضوا به حكماً» الا انه قد جعله حاكماً في الرتبة السابقة معللًا الأمر في «فليرضوا..» والان تصل النوبة للناس حتي يرضوا به حكماً.

ويؤيد ذلك انه في معتبرة أبي خديجة حيث وردت بنفس اللسان يعترف السيد الخوئي انها في قاضي التنصيب ولا يعلم وجه التفرقة بينهما.

وبعبارة أخري انه في المعتبرة ذكر بعد «فليرضوا.. فإني قد جعلته …» وليست الفاء للتفريع بل هي تعليل لوجه الأمر بالرضا ولو كان قاضي تحكيم لما كان للتعليل وجه.

ويؤيده انه ورد في المعتبرة: «فالراد عليه كالراد علينا»، ولو كان قاضي التحكيم لما كان هناك وجه لاعتبار الراد عليه كالراد علينا، بل الوجه هو لأنه قاضٍ منصوب من قبل الامام فالراد عليه هو راد علي مقام الطاعة والولاية.

ومادة الحكم كما ذكرنا ليست خاصة بالفقهاء بل الترافع سابقاً كان يجري لدي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 246

السلطات والقاضي علي حد سواء، مضافاً الي أن القاضي كان يمارس جميع الامور الحسبية والفتيا بالجهاد وهو أمر تنفيذي كما في الفتيا الملعونة لابن شريح بقتل سيد

الشهداء عليه السلام، وكذا إقامة الحدود والقصاص، وهو جانب تنفيذي يتعلق بأمن الدولة والمجتمع وغيرها من المجالات التي يجدها المتصفح لعصر صدور الرواية، والتفكيك بين القضاء والفتيا وبين الممارسة السلطوية غير تام.

3- التوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدسة.

فقد اعتبره البعض ضعيفاً لوروده في الاحتجاج مرسلًا، لكن الشيخ الطوسي أورده في الغيبة بسند عالٍ.

حيث يورده عن الكليني، وكان يتشدد في التوقيعات اكثر من تشدده في الرواية العادية، والسر في ذلك أنه صادر عن الامام الحي الفعلي فهو يعين التكليف الفعلي للسائل، مضافاً الي ظروف التقية، ووجود النائب الخاص الذي يستطيع تكذيبه، وأن اجابة الناحية المقدسة للسائل يعتبر نحو تشريفٍ له، فلو لم يكن التوقيع موثقاً لما رواه الكليني.

نعم قد اشكل انه لم يورد الكليني هذا التوقيع في الكافي، وجوابه ان الكافي خالي من التوقيعات تماماً مع أنه معاصر للنواب الخاصين ويُعزي سبب ذلك ان الكليني اراد ان ينشر كتابه ومع ظروف التقية واختفاء الامام نقل التوقيع يعلم منه وجود الامام ونحوه.

ثم ان الكليني يروي عنه الطوسي كثيراً من الروايات وهي غير موجودة في الكافي، فهذا يعني انه لم يودع كل ما يرويه في الكافي مضافاً الي ضياع بعض مؤلفات الكليني وعدم وصولها الينا.

اما فقه الرواية:

فان التوقيع يحمل اجوبة عن اسئلة متعددة لا ارتباط بينها، ومحل الاستشهاد الفقرة «واما الحوادث الواقعة».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 247

أ- المحقق الاصفهاني في حاشية المكاسب يصرف ظهور هذه الفقرة عن محل الاستشهاد، ويذكر ان لها ارتباطاً بما ذكر سابقاً في التوقيع ويتعرض فيه لوقت الظهور، وأن الوقاتين كاذبون أو المقصود بالحوادث أي الأمور المرتبطة بعلامات الظهور لا ارتباط لها بجعل الفقهاء في سدة الحكم والقضاء والفتيا.

ويجاب عنه: بأنّ الفاصل بين الفقرتين فقرات

ترتبط بمواضيع اخري فلا يعقل أن تعود الحوادث لعلامات الظهور.

ب- واحتمل ان يكون المراد من الحوادث هي الشبهات الواقعة من قبيل حكمها الكلي، فيرجع فيها الي رواة الحديث والفقهاء. أو يقال يراد منها بالاضافة الي ما سبق الشبهات الحكمية من حيث حكمها الجزئي، أي من جهة فصل الخصومة وهو القضاء وجعل سدة القضاء للفقيه.

لكن الجمع بينهما غير ممكن لأن الشبهة الحكمية من حيث حكمها الجزئي تتبع موازين القضاء، ومن حيث حكمها الكلي تتبع موازين الفتيا.

وقد استدل البعض للتعميم بقوله: «هم حجتي عليكم» وهذا لا يناسب مقام الفتيا اذ لا موقعية لكلام المعصوم، فالفتيا اخبار عن المعصوم وهو مخبر محض عن الرسول عن اللَّه.

فيكون المقصود الولاية في القضاء أو الولاية في تدبير الشؤون وهذا ايضاً غير تام لان في فتيا الفقيه، ونقله عن المعصوم- في مقام الفتيا- موضوعية وليس طريقاً محضاً إذ فتيا الفقيه هي دراية للحديث لا رواية للحديث. وأما كون فهم الفقيه فتيا مستندة الي ما فهمه من قول المعصوم فله موضوعية أيضاً لحجية قول المعصوم لا من باب أنه راوٍ بحت للحكم كبقية الرواة، بل انهم عليهم السلام يبلّغون عن اللَّه بقنوات ربانية مسددة لا يداخلها الوهم والخيال ولا وساوس الشيطان ولا الهوي ولا الجهل، فمستسقي علمهم لدني معصوم من الزلل والخطأ ينقلونه بالحق والصواب، ويؤدونه الي الخلق بالحق والصواب، فعلمهم ليس مرهون بدرجة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 248

التتبع والفحص وقوة التدبر والاستظهار نظير أفراد الفقهاء والمجتهدين فلا يصح التنظير لحكمهم واخبارهم عن اللَّه ورسوله وتقدمه علي حكم واخبار غيرهم برواية الأعدل والاضبط عند المعارضة برواية الأقل عدالة وضبطاً فإن هذا التنظير مرتكز علي نظرة بقية المذاهب لا نظرة الإمامية والنصوص القرآنية والنبوية في

حقهم.

ج- ان (ال) في الحوادث ليست عهدية او اشارة الي حوادث معينة بل هي مطلقة تشمل كل الحوادث، ويدلل علي ذلك أن هذا التعبير متخذ كالاصطلاح في الاوساط العلمية من العامة والخاصة آنذاك بل منذ القرن الثاني يدل علي مجريات الامور الحادثة وسدة الحكم. فراجع كلمات العامة عن متقدميهم.

- انه قد ورد في التوقيع: «انهم حجتي عليكم وانا حجة اللَّه» فهذا تصريح بالطولية وأن حجتهم منبثقة عن حجية المعصوم وهي وان لم تكن عينها بل بينهما فوارق.

لكن اطلاق المتعلق للحجية يفيد الشمول لكل من الحكم والقضاءوالفتيا. وبعبارة أخري أن متعلق حجيته (عج) سارية في الموارد الثلاثة، ومع إطلاق النيابة المدلول عليها بالطولية في التعبير المزبور تشمل الموارد المزبورة مع التحفظ علي عدم الاطلاق بنحو التطابق كما ذكرنا سابقاً لموضوعية العصمة كما لا يخفي.

وههنا اشكال معروف له صياغتان:

إحداهما: انه كيف يتصور في عهد الغيبة الصغري ومع وجود النواب الخاصين تجعل النيابة العامة والولاية للفقهاء.

والاخري: ان رواية ابن حنظلة ومعتبرة ابي خديجة اذا استفيد منها النصب العام فهو نصب من قبل الامام الصادق عليه السلام فكيف يبقي ذلك التنصيب الي زمن الحجة عليه السلام والمعروف انه بموت المنوب عنه تبطل النيابة.

وجواب هذا الاشكال يعلم من التأمل في حالة النيابة العامة وفلسفتها حيث ان الائمة عليهم السلام واتباعهم كانوا يعيشون ظرفاً خاصاً فمع انهم ارادوا المحافظة علي المذهب وتعاليمه ارادوا الا يظهروا بمظهر المخالف حتي لا ينالوا عقاب السلطة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 249

الحاكمة آنذاك، فمع هذه الظروف كان هناك وكلاء خاصون للائمة لكنهم كانوا محط نظر لا يستطيع الشيعة الرجوع اليهم دائما، فجعل النصب العام والنيابة العامة حتي يكون للأئمة عليهم السلام أذرع مختلفة فيسهل الامر علي الشيعة في الرجوع

اليهم.

مضافاً الي ان الحكم الولائي التنفيذي يلزم أن يكون موقتا بل يمكن ان يكون دائماً فاذا وجدت القرائن علي ذلك كصيغة الحكم هنا ووردت علي نحو القضية الحقيقية فتدل علي عمومه وديمومته. نعم اذا وجدت قرائن تدل علي توقيته فانه يبطل بوفاة الامام مباشرة. واذا كان علي هذا النحو لا يسمي تنصيباً بل يكون نحو من الوكالة والمأذونية اما الديمومة فانها تتصور في التنصيب.

هذا كله مضافاً الي ما تقدم في المناقشات السابقة من الاشارة الي الوجه العقلي للنيابة، ووجه قاعدة الحسبة في استكشاف النيابة للفقيه العادل وغيرها من الوجوه المحررة في موضعها من علم الفقه.

الخلاصة: … ص: 249

1- ان للفقيه الولاية بحسب بسط يده، وهذه نظرية مشهورة بين علماء الامامية، فلاحظ ما ذكروه في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صرح بذلك المفيد في أوائل المقالات وغيره من الفقهاء، فهم يقومون بالرقابة التنفيذية علي شؤون الحاكمين اذا اتيح لهم المجال، وهذه الرقابة لا تكون في مورد النزاع والتخاصم فقط بل في المجال التنفيذي، نعم ذلك لا يعني عدم استعانته بالخبرات الكفوءة، بل لابد منه كل حسب مجاله وخبرته واستشارتهم أو ايكال بعض الامور في تلك المجالات لهم مع رقابته، وبعبارة أخري شكل الجهاز والنظام هو بحسب آليته بحسب الظروف مع مراعاة الموازين العامة.

2- في حالات عدم بسط اليد لا تكون الولاية لغيره، لأن بسط اليد من قبيل قيد الواجب وهو فرض امكان تنفيذ الوظيفة، نعم في الامور التي لا يستطيع مباشرتها يوكلها للمتخصص الكفؤ.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 250

3- التعبير الوارد «فارجعوا.. فليرضوا.. واجعلوا» خطاب عام لكل المكلفين بوجوب السعي الي تعيين المصداق من بين الفقهاء كما مر بيانه.

4- ان الاستشارة لازمة وان كانت غير ملزمة له

وافضليتها من باب ان الاستعانة بالعقل الجماعي أسد وأفضل مما يتوصل اليه العقل الفرد، وهو ما يسمي حديثاً بالاستعانة ببنك المعلومات.

5- ذكر بعض اصحاب التلفيق بين نظرية النص والشوري في كيفية الحكم في عصر الغيبة من ان النصوص عمومها مجموعي وبالتالي يصل الي شوري الفقهاء.

وان ارادة العموم الاستغراقي يلزم الترجيح بلا مرجح اذ ترجع كل فئة الي واحد فترجيح احدهما علي الاخر يكون بلا مرجح.

والجواب عن هذا:

أ- ان ظاهر لسان الدليل: «فاجعلوا رجلا..» هو الاستغراق لا المجموع، وديدن الفقهاء علي استظهار الاستغراق منها، وتكون النتيجة ان يتصدي الكل للفتيا ولو في عرض واحد ويمارس الكل الجانب التنفيذي وان كان في منطقة محدودة والا لزم في القضاء أن لا ينفذ الا الحكم الصادر من المجموع وهو كما تري.

ب- ان استظهار الاستغراق لا ينافي امكان اخذ شوري الفقهاء اذ قد يري الفرد والأمة الصلاحية في فقيهين او اكثر، وقد اثير نظيره في بحث القضاء في احكام اتخاذ قاضيين او اكثر. ويذكرون هناك كيف يكون الحل عند الاختلاف.

وللمسألة تفريعات وتشقيقات تستعرض في مواضعها.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 251

الفصل الثالث: المقام الغيبي في الإمامة … ص: 251

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 253

المقام الغيبي في الإمامة

كما ذكرنا في بداية الكتاب أن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون- رضوان اللَّه تعالي عليهم- البحث حول اثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوعة علي إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وخلافته عن الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله أمثال الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر مما لا ينكره إلا مكابر أو معاند.

والبحث الذي نريد أن

نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وما هيتها وكنهها، وهو ليس أمرا مبتكرا في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعي إلي طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدم ذكر بعض الامور التي لها مدخلية في البحث:

أولًا: تحرير محل النزاع … ص: 253

يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 254

يحررون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول من يجب أن يتولي إدارة أمور المسلمين ومن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بالفقه السياسي.

وتوسع بعض المتكلمين من الامامية بل أكثرهم في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية بمعني أنه بالإضافة إلي دور الإمام في إدارة شئون المجتمع فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي.

ونحن لا ننكر هذين الموردين- وإن كان العامة قد انكروهما وأصبح موردا للنزاع- لكن نقول أن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طياتها معني أوسع وأكبر مما ذكره هؤلاء جميعا، ويمكننا القول أن علماءنا رضوان اللَّه تعالي عليهم ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلي ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.

فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء، حيث أن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتي

قيام الساعة، فدائما يوجد من يمثل تلك الصلة الروحية والمعنوية ومن هنا اعتبروا الإمامة امتدادا للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.

فإن الأدلة قائمة علي ضرورة وجود حجة للَّه عز وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي صلي الله عليه و آله، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الامامية الأثني عشر، وهو من الامور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتي الاسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخري، وتلك الحقيقة هي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 255

التي نريد إماطة اللثام عنها.

ومن الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقصروا حديثهم علي زعامة المسلمين، بل كانوا يركزون علي مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم علي أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.

والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوي لم تصدر عن غيرهم ممن عاصرهم أو من أتي بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصديهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نري بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوي الألوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون علي مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.

بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلل علي أعمق من ذلك فقد روي الشيخ الطبرسي «1» أن سلمان قال- لعمر-: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب اللَّه المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت أليس قد أزالها اللَّه عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أربابا من دون اللَّه «2».

وفي ذيل قوله تعالي: «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنَا» «3»

يذكر

البحراني في البرهان وكذلك الطباطبائي في الميزان أن نافع كان علي خط الخليفة الثاني جالسا في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأي أن الناس قد تجمعوا حول شخص (وهو الإمام الباقر عليه السلام) فسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 256

فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الامامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة بل لها جذورها من العصر الأول، والسبب في ذلك أن دعوي الربوبية- في أذهانهم- تختلف عن دعوي الألوهية، فالربوبية تعني اتحاد الوسائط بين الارض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته الاتصال بالغيب وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.

فحكم الفطرة يوجب ان تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:

أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.

والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلي رتبة الألوهية فهي مخلوقة للَّه وهي ذليلة للَّه تعالي «إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «1»

وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.

ثانياً: الإمامة وراثة نسبية أم روحيّة … ص: 256

ينسب إلي الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون أن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة إذ بناء علي ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فبالتالي فهي بعيدة عن التوريث النسبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعني وجود استعداد في روح أخري للكمالات التي أفيضت علي روح سابقة، وعندما يقال: أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود

منه، قال تعالي «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 257

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» «1»

ثالثاً: الإمامة نصّ أم شوري … ص: 257

مما ذكرنا في الأمر الأول يتضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان بل للَّه عز وجل يجعله حيث يشاء، أما إذا اقتصرنا في محل النزاع علي الزعامة الدنيوية فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس وباختيارهم يكون أوهم إلي العقول وأميل إلي النفوس، وكأنه اشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلط فئة معينة علي إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة، أما علي ما ذكرناه من حقيقة الإمامة يتضح السبب في ايكال ذلك الأمر إلي اللَّه عز وجل، وما إن يجعل الحق تعالي إماما فلا معني للجوء إلي طرق أخري لتعيين من له الزعامة الدنيوية بل يكون هو المتعين، وبتعبير آخر أن من تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومن يتصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلي غيره لإدارة شئونهم، وبهذا تري أن مركز الزعامة الدنيوية متفرع علي ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول صلي الله عليه و آله فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به لم ينازع أحد في حاكميته، والخلاصة أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدني مراتب الإمامة ومقاماتها.

رابعاً: الإعتبار والتكوين … ص: 257

إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفا عن الإرادة التكوينية والجعل الإلهي.

ومن هنا يتضح أن نصب الرسول أو الإمام السابق للإمام اللاحق لا يقوم به من

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 258

تلقاء نفسه بل هو بايحاء من اللَّه عز وجل فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.

خامساً: الإمامة من أصول الدين … ص: 258

من الامور المهمة التي تترتب علي تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين، لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.

بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الاساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية ومَن يكون سفيرا من قبل الغيب ومَن هو حجة اللَّه علي خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية، نعم هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الاساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.

وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر وذلك لأن الامام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما انه لا فائدة من البحث عمن كان يجب أن يخلف النبي صلي الله عليه و آله فهذا حدث تاريخي قد مضي، اما علي ما ذكرنا فإن البحث تبقي له أهميته القصوي، إذ قضية الاعتقاد لا

ترتبط بحضوره وعدم حضوره ولا بحياته وعدم حياته.

ومثل هذا في الوهن أن يقال: أن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحا إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به بل البحث في أمر اعتقادي جانحي كما يُبحث حول النبوة مع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 259

عدم وجود نبي علي قيد الحياة إلا أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد علي كل مسلم.

فليس البحث حول من يكون رئيسا وزعيما فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية، وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها علي النبي، فهذه كلها أمور فرعية تبتني علي ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها علي نحو الاعتقاد بالنبوة.

سادساً: مقامات الأئمّة عليهم السلام … ص: 259

أن البحث قد يتعمق إلي البحث حول مقامات الأئمة سلام اللَّه عليهم، وليعلم أن مقام الإمامة من أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخري تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات اللَّه «1» وأسماء اللَّه الحسني، وغيرها من المقامات العالية التي تعد من أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زي العبودية بل أن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.

وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفردون ويشاركون بها الخاتم صلي الله عليه و آله، وكذلك الزهراء عليها السلام تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة اللَّه، كما ورد في الخبر المتواتر معني «وفاطمة حجة اللَّه علينا» أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.

سابعاً: الوظيفة الشرعيّة … ص: 259

إذا تم مقام الإمامة فسوف يتوجه إلي المكلفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءا من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلي التولي والتبري القلبي والعملي، ووظائف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 260

أخري سوف نأتي علي ذكرها في الخاتمة.

ولا يخفي أن هذه المقامات الاخري لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلي أن الاعتقاد بأدني مراتبه وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية- كما هو حال كثير من الناس والرواة- كاف في اعتبارهم من الامامية.

ثامناً: تحليل الإقتداء … ص: 260

وقد يطرح هاهنا إشكال حاصله:

إن اثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية يتنافي مع جعلهم قدوة للبشرية ولا يتلاءم مع أمر اللَّه عز وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.

بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلي مرتبة المقتدي، وأن يجعل همه الأول هو الوصول إليه والسير علي هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدي بمرتبةٍ ومقامٍ يمكن الوصول إليه، أما إذا كان مقامه مما لا يمكن الوصول إليه بل هو ممتنع المنال فكيف يجعل قدوة ونؤمر باتخاذه أسوة! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لاثبات الرسالة والإمامة فقط.

وقد يطرح الاشكال بنحو آخر أن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الدين سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته، وبتعبير آخر أنه لو قلنا أن ملاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن تأثيرات وضعية دنيوية سوف يفقد المكلف الدافع المحرك للسعي وتحصيل تلك الملاكات.

وفي الواقع ليس هذا الاشكال بصياغتيه شيئا جديدا مبتكرا بل هو اشكال يعود في جذوره إلي ما قبل الاسلام، حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 261

باللَّه سبحانه وتعالي ذي القدرة المطلقة اللامحدودة متعسر وممتنع فيجب توسيط وسائط تعد

أربابا وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.

أما الجواب:

أولا: أن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدي، فإذا كان المقتدي مساويا للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا، إذ لا توجد مزية للمقتدي حتي يقتدي به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها لكنها متوفرة وحاصلة في المقتدي، إذن يجب أن يكون المقتدي غير مساو للمقتدي.

ثانيا: كما أن الحاصل لا يسعي الإنسان إلي تحصيله، كما أن الممتنع أيضا لا يسعي الانسان إلي تحصيله، فيجب أن يكون المقتدي له مرتبة بين هذين الأمرين، وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للانسان في كل مسيرته بمعني أن المقتدي يجب أن يكون متفوقا دائما علي المقتدي، وإلا لو فقد هذا التفوق لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان، وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدي، وحينئذ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للانسان وللانسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدي ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.

وهذا هو معني الحالة الوسطية بين الأمرين أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعي الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلي تحصيل بعضها وقد لا يستطيع «ألا أنكم لا تستطيعون علي ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعقل وسداد».

فتحصيل كل كمالات المقتدي أمر مستحيل غير ممكن أما تحصيل بعض

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 262

درجات كمالاته فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء ولماذا لا يمكن السعي نحوها!!

وقد يقال: إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلي الإمام من أجل الإقتداء به إذا

لم يكن من الممكن الحصول علي كل كمالاته، فليقتدي مباشرة بالكمال المطلق اللامحدود وهو الذات المقدسة؟

وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمي وفي الحديث «ما للَّه أية أكبر مني» وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلي اللَّه غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن رحمة اللَّه بعباده أن جعل لهم إماما يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلقا بأخلاق اللَّه عزّ وجل، وهذا هو لطف اللَّه بعباده لأن المقتدي أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

ونعود إلي محل الكلام فإن هذه الحالة الوسطية دائما هي التي تدفع الإنسان نحو الحركة والعمل وكما في الخوف والرجاء، فلا هو حصر في حالة الخوف فقط لأنه يأس من رحمة اللَّه، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالي فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضا لأنه عدم اعتقاد بعقاب اللَّه.

فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال ولو كانت كذلك لما كان الانسان متحركا نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للانسان حتي لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلي أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.

ثالثا: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة علي قسمين: منها ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة فهي كمال روحي إلا أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 263

وكمالات هذا الجانب أشرف من الجوانب الأخري، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس الانسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدي أن تكون له جوانب غيبية

وكمالات مرتبطة بعالم الغيب.

رابعا: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلي أن جوارحه تنطلق في حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقا للاذعان والايمان والاعتقاد الذي يلتزم به الانسان فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الاساس، وهذا يعني أن أساس تحرك الانسان هو معارفه الاعتقادية، والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر لأن العقائد شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح فإذا اختل الأساس اختل ما عليه من البناء.

خامسا: نحن نسائل المستشكل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدي، بل يحصرها في اثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نثبت الأمر الغيبي؟

والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب وأنه مبعوث وسفير من قبل اللَّه سبحانه وتعالي، فالمعجزة هي المثبتة للاتصال والسفارة الإلهية وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر، ونحن نقول أن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه، بمعني أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ اللَّه تعالي بها عليه وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتي يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل اللَّه تعالي.

ومما لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهئ لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث أن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق بخلاف ما إذا كان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 264

المطلوب هو اثبات الزعامة الدنيوية فإنه سوف يتم اسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو خارج عن محل النزاع.

ولا يخفي أن الخوض في مثل هذه المباحث

يحتاج إلي أهلية عقلية وإلمام تام بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية، مضافا إلي ما يمكن استفادته من علوم النفس والاجتماع الحديث.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 265

المبحث الأول: تعريف الإمامة … ص: 265

الجهة الاولي: التحليل اللغوي: … ص: 265

إنا لا نهدف من بحثنا استعراض المعني اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلي ماهية وحقيقة الإمامة وبتعبير اصطلاحي رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللغويين فما ذلك إلا توطئة للوصول إلي التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.

ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:

1- أن اصطلاحات الامام والأمة والمأموم كلها تعود إلي جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.

2- أن المراد من يؤمه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجه نحو المقصود «1» ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.

3- أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.

4- أن الإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا علي الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلي هذا يكون معني إمام بمعني المقتدي اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 266

أي الذي يقتدي بغيره، وأما إذا كانت بمعني الهداية فسوف يكون الامام بمعني الهادي وهو اسم فاعل والمأموم المهتدي فهو اسم مفعول.

فيلاحظ أن المعني اللغوي يستطبن معني الاقتداء والهداية.

من خلال تلك النقاط نري أنه في جميع اشتقاقات (أمّ) يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخري في كل اشتقاق، فإذا كانت الأمة فإنها تطلق علي الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد فهي بالضرورة تتبع إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية، ومن هنا ورد التعبير في القران «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» «1»

، ولذا لم يطلق

الأمة علي كل المجتمع البشري بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.

ويمكننا القول أن الامامة في اللغة تساوق الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان أحدهما: مجرد إراءة الطريق المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلي المطلوب، والثاني يستلزم الأول، وذلك لأنه لو قلنا أنها بمعني الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلي المطلوب والغاية المرادة فهي لا تقتصر علي مجرد الاراءة بل تتعداها إلي الإيصال.

ونقول أن المراد من الهداية هنا هو الثاني، وذلك لأن الأمة وهي الجماعة التي لها مقصد واحد فإنها تسير نحو هذا المقصد وتتبع الامام من أجل الوصول إلي تلك الغاية، ووجود الامام ومقتضي السير أن يكون المراد من الهداية هو الايصال وأن الامام لا يقتصر علي مجرد إراءة الطريق الصحيح بل يتبع ذلك بالاخذ بيد الامةمن أجل ايصالهم إلي الغاية القصوي، نعم تلك الهداية والايصال ليس ايصالا جبريا بل ايصال اختياري.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 267

الجهة الثانية: التحليل العقلي … ص: 267

اشارة

إنا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الامامة وكيفية أخذ الامام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوي، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للامام، مع المحافظة في نفس الوقت علي الاختيار والارادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الامام علي المأموم مع المحافظة علي اختياره وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

فالامامة متقومة بطرفين الامام والمأموم وفي كل طرف منهما يكون لها معني؛ ففي الاول له التسلط والولاية، وفي الثاني له الاختيار بمعني أن الامام لا يلجأ المأموم علي التصرف المعين ولا يقوم بتسخيره أو قهره بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير علي الأول لا بنحو يقهره ويسلبه

وهذا لا ينافي اختياره.

ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة تامة للهداية بل هي مقتضٍ لحصولها إذا ارتفع المانع وهو إرادة نفس المأموم واختياره، إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتي يوصله إلي الغاية وان يسلم له القيادة، وله أن لا يستجيب له فلا تؤثر عليه هداية الامام.

فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم علي حيثيات؛ حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الايصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية الولاية والسلطة والجذب.

وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل فما علينا إلّاالتأمل في هذه الامثلة الثلاثة والموازنة بينها: الانسان الصغير وهو ذلك المخلوق الذي كرمه اللَّه تعالي بالعقل.

والإنسان المجموعي وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير وهو عالم الخلقة.

فنتناول دور الهداية في هذه العوالم الثلاثة.

- أما الانسان الصغير: فهو ذو جنبتين أحدهما البدن والاخري الروح، ولكل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 268

منهما تكامل وارتفاع وصعود كما أن لهما تسافلًا وهبوطاً وانحداراً.

ولندقق النظر في تكامل الروح فإن اللَّه تعالي قد كرم بني آدم بالقوي العقلية والعملية المختلفة التي تضمن للانسان أفضل السبل للصعود إلي الكمالات العالية.

وعلي رأس القوي العملية والإدراكية يقف العقل ليقود هذه القوي، فإذا ما رضخت له القوي الأخري تصاعد الانسان في الكمالات، وإذا ما انقلبت الآية ولم يأخذ العقل موقعه المناسب تجد الإنسان في هبوط وانحدار.

والقوي العقلية علي نحوين: العقل النظري والعقل العملي. والأول وظيفته الادراك. والآخر وهو العقل العملي ووظيفته الادراك والعمل والتأثير علي القوي المادون التي تتبعه في الحركة، فيكون أميرا لها وتكون أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة بل يبقي للقوي الاخري الاختيار في اتباع العقل العملي، فإذا ما تسلطت القوي المادون علي قوة العقل العملي فتكون إمام ضلال وباطل، وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين عليه السلام: «كم من

عقل أسير تحت هوي أمير» «1»

.أما إذا أذعنت لقوة العقل العملي فإنه يصبح إمام هدي، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوي الانسان المختلفة، ووجود هذه القوة امر لا بد منه وإلا لسعت كل قوة إلي ما يؤدي إلي تكاملها وأدي الصراع بين قوي الانسان إلي فنائه، فيحتاج إلي ما يكون هاديا وموصلا للكمال وهو العقل العملي، وزود هذا العقل بسلطة اخضاع القوي المادون مع احتفاظ النفس الانسانية بالاختيار، والاختيار حيثية نفسانية توظفه النفس- التي هي غير القوي العملية والادراكية- في يد القوي الفوقانية أو القوي المادون، ولو كان العقل العملي ملجئا وسالبا للاختيار لما صدرت المعصية من أحد لأنه موجود في كل إنسان.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 269

والعقل العملي في فعله يعتمد علي الادركات الصحيحة التي تتم في العقل النظري والعملي، فهو يقود لأنه يمتلك العلم الذي لا تمتلكه بقية القوي وهذا العلم هو الذي يعطيه الصلاحية لقيادة قوي الانسان، ولو كان هذا العلم محتملا للخطأ لما أصبحت لديه اللياقة لقيادة الانسان وقواه، وقد بينا في الفصل الأول مفصلا مدركات العقل العملي والنظري وعلمه الحصولي والحضوري، والمهم هو الأخير لأنه أعلي وأشرف من الأول، فالهداية الايصالية للعقل العملي وهو إمام هدي للقوي المادون تتم بواسطة علم شريف أشرف من العلم الحصولي وهو العلم الحضوري.

والعقل في نفسه مبرأ من الغرائز الشهوية والزلل، وليس العقل هو الذي يسبب الزلل والوقوع في الخطأ، بل هو بسبب سيطرة القوي المادون، وقد قرروا في محله أن إدراكات العقل في نفسها لا خطأ فيها إلا إذا تدخلت القوي الأخري فيها وهي الواهمة والمخيلة والقوي الشهوية والغضبية.

والخلاصة: … ص: 269

أ- أن قوي الإنسان تهتدي إلي الكمال بواسطة العقل العملي.

ب- أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدي،

وهذه الهداية ايصالية وليست مجرد إراءة وإلا لاكتفي بالعقل النظري، فهذا يدل علي الحاجة الفطرية داخل الانسان لوجود ما يقوده إلي الكمال.

ج- أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب العلم الذي لديه.

د- أن العلم الحصولي لدي العقل العملي يعتمد علي أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.

ه- أن العقل واسطة لتنزل العلوم من العوالم الغيبية العلوية إلي العوالم المادون، ولا يمكن للقوي المادون (الغضبية والشهوية …) أن تتصل بتلك العوالم إلا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 270

بالعقل العملي وذلك لضعف قابليتها.

و- ورد في الأثر أن للَّه حجتين ظاهرة وباطنة أما الظاهرة فهو الرسول وأما الباطنة فهو العقل، وهذه الموازنة تعني أن مقام النبوة كما له دوره وموقعه في الانسان المجموعي فإن له موضع في الانسان الصغير، وأن اللَّه عز وجل قد أودع في الإنسان رسولًا باطناً وظيفته الهداية وهي علي وزان الهداية التي يقوم بها الرسول الظاهر وهي الاراءة «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ» «1»

فهي هداية إرائية وانذار وبيان أين يكمن الطريق الصائب والصحيح من دون أن تقوم بوظيفة الايصال (نعم قد يكون النبي إماما فتجتمع لديه ولاية تشريعية وتكوينية كما في أولي العزم) والعقل المقصود به هنا هو العقل النظري، فتكون أوامره تشريعية يشخص الصواب من الخطأ ولا تكون له سيطرة علي بقية القوي، وهذه هي مهمة الرسول الباطن.

ز- أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي، والامام الباطن وحي فطري ولوي.

أما كونه وحيا: فلأن العقل قوامه بالعلم، لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال أي علم باطني غيبي أما في العقل العملي فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري أيضا مستند للعلم الحضوري إلا أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي،

وعندما نقول أن العلم فيه حيثية ولوية فلا نقصد بذلك تعبيرا أدبيا بل إشارة إلي عمّاليته ومحركيته وقدرته.

أما سبب اطلاقنا عليه بالوحي «2» فلأن حقيقة الوحي هي الارتباط بالغيب، والانسان لوجود حيثية التجرد فيه فهو مفطور علي الارتباط بعالم التجرد بواسطة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 271

العقل، أي بتوسط نفسه، ومن هنا كان فطريا، لا وحيا نبويا تشريعيا جعليا، ومن هنا نقول أنه عندما يقال: انقطع الوحي فإنما يعني الوحي التشريعي لا انقطاع الوحي بمعناه الأعم الشامل لما بيناه أي مطلق الارتباط بعالم الغيب.

ح- في مراتب العلم الحضوري يذكرون أن مرتبة القلب من النفس بوابة الغيب والعوالم العلوية لكلا العقلين، والعقل العملي والنظري يأتمان به وهو مصدر علومهما الحضورية.

ط- أن تصرف الامام الباطن في القوي المادون يكون بقدرة ملكوتية ونعني بها القدرة التجردية التي ليس فيها تدريج وتدرج بل علي نحو كن فيكون، وهذه القدرة لا تحتاج إلي شرائط عالم المادة و لا شرائط في فعله وتأثيره، وإنما مجرد الاذعان يحرك النفس تحريكا اختياريا، فلو أن المحرِّك لم يختر التحريك فلا يتحرك، وليس معني (كن فيكون) الجبر.

وبيان أخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق علي القدرة النابعة من العلم محضا في مقابل القدرة التي تتوقف علي العلم والآلة المادية وتسمي القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهن عليه في علوم المعارف العقلية والنقلية نذكره كأصل موضوعي.

فالعلم الحصولي وهو مرتبة ضعيفة من العلم يحتاج إلي الآلة كما في قدراتنا المعتمدة علي العلم الحصولي. أما إذا كانت القدرة نابعة من العلم الحضوري فإنها لا تحتاج إلي شرائط المادة لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.

فإمامة الامام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي ويسمي أمر إلهي، والإلهي اشارة إلي عالم

التجرد، وقد يطلق علي عالم الملكوت بعالم الامر فتسمي القدرة الأمرية.

فتبين أن الامام الباطن تكون له نحو إحاطة وقيمومة علي من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات بل هي كإحاطة العلة بمعلولها،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 272

ويُمثل لها بالصور الخيالية الحاصلة لدي النفس، فإن النفس تحيط بها احاطة قيمومية فظاهرها وباطنها وأصل وجودها مرهون بفعل النفس.

وفي الانسان الصغير نري أن نسبة العقل العملي والنظري لما دونه من القوي هي إحاطة قيمومية، والوجه في ذلك أن النفس والقوي المادون لا تستطيع أن تصدر فعلا من الأفعال سواء كان فعلا إدراكيا أو عمليا من دون توسيط العقل في البين، فهو يحيط بأعمال وأفعال القوي المادون، وأن الكمالات العملية تفاض عليها بتوسط العقل وبسبب كونه واسطة في الفيض فهو يدرك كمالات المادون ولا يكون جسرا للعبور فقط.

وبناء علي كل ما مضي نقول في تعريف الامام الباطن في الانسان الصغير: انه يكون هاديا وموصلا للنفس إلي كمالاتها بأمر ملكوتي.

ي- نقطة أخيرة؛ نضيفها أن التسلسل في تنزل الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن ومن ثم للعقل العملي الذي هو امام باطن، وقد ذكرنا ان العلم الذي في الثاني أشرف من الأول لكن إذا جمع الأول بين الرسالة والامامة فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام عن الذين ابتعدوا عنه «احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة»، وهذا قريب مما ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي فالامامة هي ثمرة النبوة، وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلي إعمال وإثارة القوي المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من العلم الذي يتوصل إليه العقل

النظري لوصول الانسان إلي الكمال وتجنب الوقوع في المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الامامة ثمرة النبوة والرسول الأكرم صلي الله عليه و آله قد حاز شرف النبوة والإمامة وكما أنه امام للخليقة فهو إمام للأئمة كما أن القلب امام للعقل العملي الذي هو إمام لما دونه من القوي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 273

وبهذا البيان نستطيع استيعاب ما ورد في الأثر أن «المؤمن جماعة بمفرده في صلاته» حيث يكون أحد تفسيراته أن كل قواه تكون مسخرة لقوة العقل العملي وهو مسيطر عليها.

الانسان المجموعي: … ص: 273

وهو مجموع المجتمع بما فيه من اركان وهي الدولة والحكومة، فإنا نشاهد انها تتألف من فقرات متعددة منها القوة التنفيذية، ومنها القوة التشريعية، ومنها القوة القضائية، كما أن كلا من تلك القوي الثلاث تتشعب إلي أقسام.

والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الارائية، والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الايصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة الوجدان في الانسان الصغير، وهي لتعديل الاشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية الارائية الايصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك، ويمكن المطابقة في التفاصيل الاخري بين الانسان المجموعي والانسان الصغير فمثلا وزارة الجيش والدفاع توازي القوي الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها مما يغطي جانب اللهو واللعب توازي القوي الشهوية، وإلي غير ذلك من التطابق إلا ان اهم ركن في الانسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الارائية والهداية الايصالية إلي الكمالات المنشودة.

الانسان الكبير: … ص: 273

ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرف علي دور الامامة وحقيقتها في هذا العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقا لما هو المسلم به في المعارف أن «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، أي أن معرفة آيات اللَّه وأفعاله جل وعلي يكون عن طريق معرفة الانسان نفسه وهذا يقتضي موازاة الانسان الصغير للانسان الكبير، وأن فعل اللَّه وهو الخلقة تكون

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 274

معرفته بمعرفة الانسان الصغير.

ففي الانسان الكبير أيضا مراحل ومراتب من النفوس الكلية (بمعني السعة والاحاطة) إلي العقول الكلية التي تدير تلك النفوس، ونحن في بحثنا نعتمد علي قاعدة عقلية مؤداها أن التعريف الماهوي للإمامة له مصداق في الانسان الصغير إي في ترتب قوي النفس الانسانية وبمقتضي التطابق مع الانسان الكبير- عالم الخلقة- نستكشف الاخير.

والمهم لدينا هو استكشاف موقع الامامة في

الانسان الكبير وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور البحث في الانسان المجموعي ونحن ننقل ذلك إلي الانسان الكبير أيضا.

ولا ندعي أنا قد توصلنا إلي معرفة كنه وحقيقة الامامة في هذا الموقع بل تمكنا من وضع تصور اجمالي يرفع الغموض واللبس وإن بقيت جوانب مجهولة، وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحققها.

ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما تري بها؟ قال: الألوان والاشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة، قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد علي هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني الجوارح إذا شكت في شي ء شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلي القلب فيتيقن اليقين ويبطل الشك، قلت: وإنما أقام اللَّه القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب وإلا بم تستيقن الجوارح؟

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 275

قال: نعم، قلت: يا أبا مروان إن اللَّه لم يترك جوارحك حتي جعل بها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن لها ما شكت فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك «1».

فيلاحظ في هذه الرواية أن ما ذكره عمرو بن عبيد من التسالم علي خضوع

القوي المادون للقلب وأن هذا الخضوع ليس اعتباريا بل تكويني حقيقي.

الجهة الثالثة: التعريف النقلي … ص: 275

يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في موارد عدة هي: «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» «2»

، «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «3»

، «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «4»

، «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» «5»

، «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» «6»

.والعلامة الطباطبائي يتعرض لتفسير مقام الامامة الذي أُعطي لابراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:

1- أن هذا المقام أعطي لابراهيم علي كبره و بعد تولد ذريته اسماعيل واسحق، وقد كان قبلها نبيا بلا شك. وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية لما كان سؤاله اللَّه تعالي «وَمِنْ ذُرِّيَتِي».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 276

2- أنه لو كان المراد من الإمامة هنا النبوة فلا معني لأن يقال لنبي مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا أو مطاعا فيما تبلغه من نبوتك فهذا لا يتناسب مع كونه نبيا.

3- أن القران كلما تعرض للإمامة تعرض معها للهداية تعرض تفسير «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» والهداية الجديدة التي حاز مرتبتها ابراهيم يجب أن تكون مخالفة للهداية السابقة التي كان حائزا عليها عندما كان نبيا، ولا شك أن الهداية التي في النبوة هي هداية اراءة فالهداية هنا هي هداية ايصال.

4- أن لفظ الهداية قُيد بالأمر في آية السجدة، والأمر هو الذي يبين حقيقته ما ورد في قوله تعالي «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» «1»

، وقوله «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «2»

، فهذا الأمر هو أمر ملكوتي ليس فيه تدريج بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته بعيداً عن شرائط المادة والآلة وهذا الملكوت

قد حاز عليه ابراهيم كما ورد في «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «3»

، فإراءة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري علي الأعمال أي أعمال البشر.

فالامام هاد يهدي بامر ملكوتي يصاحبه، والامامة بحسب الباطن نحو ولاية علي الناس في أعمالهم، وهدايتها ايصالها إياهم إلي المطلوب بامر اللَّه دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول»

.الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 277

ولأن محور تعريف الامام حول فهم الملكوت فإنا نستكشف رأي العلامة في ذلك فتوجد آيات عدة تتعرض للملكوت وهي يس 83- الانعام 75- الملك 3- المائدة 120- القمر 50- آل عمران 26.

ففي سورة الملك تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَي ءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَي فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ …» فالآية تشير إلي أن الذي بيده الملك هو بيده القدرة وعلله «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ» أي كل عالم الخلقة، فالملك بيد اللَّه لأن ايجاد الخلق بيد اللَّه، فكون وجود الاشياء منه وانتساب الاشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالي هو الملاك في تحقق ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يزول عنه إلي غيره ولا يقبل نقلا ولا تفويضا، وهذا هو الذي يفسر الملكوت في قوله تعالي «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

فالملكوت هو وجود الاشياء من جهة انتسابها إلي اللَّه سبحانه وتعالي، أي جنبة الإيجاد والقيومية والهيمنة والاحاطة.

فالمخلوق يكون ذا جهتين فإذا لحظناه بما هو في نفسه فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أما

إذا لحظته بما هو دال علي خالقه تكون جنبة ملكوتية، ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الانسان إلي التوحيد هداية قطعية، فإراءة ابراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالي نفسه الشريفة إلي مشاهدة الاشياء من جهة استنادها ووجودها إليه «2».

«قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ» «3»

،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 278

فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط وهو قد يعطيه من يشاء من عباده وليس فيه معني تعطيل نفسه عن الملك وحصر لقدرته حتي تكون يده مغلولة والعياذ باللَّه، وإنما هو اقدار في عين أنه قادر.

إذن فالامامة هي الهداية الايصالية الملكوتية النابعة من العلم والقدرة، فالامام هو رابطة تكوينية بين الخالق والمخلوق فهو يشهد الاعمال «كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» «1»

، فالمقربون لهم نوع من العلم الحضوري، ويضيف العلامة أنه يوجد في سورة الانبياء قيد آخر «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ» فمتعلق الوحي جاء خال من (إن) وقد حرر في البلاغة أن إضافة العامل إلي معموله إن كانت ب (أن والفعل) فإنه يفيد الاستقبال وأنه أمر تشريعي، مثل «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» اما إذا أضيف إلي ما يضاف الفعل لمعموله من دون توسط (أن) بين أوحينا إليهم وبين فعل الخيرات، فهذا يدل علي تحققه فعلا علي نحو ما ورد في آية التطهير «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ» فإن الفعل لم يسبق بأن وهو دال علي وقوع التطهير فعلا، ففعلهم نابع من الوحي والتسديد الإلهي وهو معني العصمة أي لا يحتاج إلي هداية غيره.

- وقوله تعالي «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ».

يذهب العلامة إلي أن المراد من الامام هنا هو إمام الهدي، إذ

ان الآية تدل علي أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من العصور من إمام فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدي، نعم الروايات دالة علي وجود إمامين هدي وضلال، واستظهار العلامة وإن خالف ظاهرها لكن لا مخالفة حقيقية عند التدبر في الروايات، وذلك لان الروايات المفسرة للقران علي نحوين:

أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران الكريم بحيث تبين المراد من الآية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 279

وترشد إلي النكات الأدبية والبلاغية في الآية، و هذه لا مجال لاستظهار غير المعني الذي تشير إليه بل يجب الأخذ بها، وأمثلتها كثيرة منها: في تفسير آية الوضوء «إِلَي الْمَرَافِقِ» أنه ليس المراد بيان انتهاء عملية الغسل بل لتحديد المقدار المغسول ويذكر الامام شواهد علي ذلك، وقوله «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ» ليس المراد هو التخيير بين القصر والتمام، بل المراد هو الالزام فمثل هذه الروايات يجب الأخذ بها في تعيين الظهور.

والقسم الآخر: من الروايات التي تقوم ببيان باطن القرآن وهذه الروايات لا تنفي حجية الظاهر بل يبقي علي حجيته فهي لا تحصر معني الآية فيما تذكر، والشاهد علي ذلك ورود روايات متعددة في تفسير الآية الواحدة، فهذه كلها غير متناقضة إذ أنها تشير إلي أسرار الآيات التي لا يصل إليها غير المعصوم. وهذا بحث حرره الأصوليون.

نعود إلي الآية الكريمة: فعلي فرض كون المراد من الامام هو إمام الضلال أيضا لا الامام الذي اجتباه اللَّه، فإن إمام الهدي هو من البشر، وقد عرفته آيات أخري من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي خلاف إمام الضلال الذي لم تعرفه الآيات بهذا السنخ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعني في فقه الآيات.

وقد ذهب البعض إلي أن المراد من الامام هوا

لكتاب التشريعي كالتوراة والانجيل والقرآن، وهذا غير صحيح لأن المراد من كل أناس أنه يعم كل الناس من الأولين والآخرين، وليس مختصا بفئة معينة، ويلاحظ أن القرآن إذا أراد تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين فإنه يعبر عنهم بالامة وعدم استخدامه لهذا اللفظ هنا يدل علي إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.

ونعود إلي إمام الهدي والضلال؛ فإن امام الهدي هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته علي مستوي الشيطنة، وهذه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 280

الهيمنة يوازيها في الانسان الصغير التخيل والتوهم إي العقل المقيد، وفي رواية في ذيل سورة القدر: واللَّه إنه ليوحي إلي امام الضلالة بتوسط ابليس وجنوده كما يوحي إلي امام الهدي كما تتنزل عليه الملائكة من اللَّه.

ففي الانسان الصغير بظل أئمة الضلال من الواهمة والمتخيلة والغضبية والشهوية لا تستطيع أن تترفع إلي مستوي التجرد العقلي فكذلك أئمة الضلال في الانسان الكبير إبليس وأشياعه وأتباعه.

ويستعين العلامة في توضيح الهداية المخبوة في الامام بقوله تعالي «أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي» «1»

، فإن الآية تجعل المقارنة بين هاديين إلي الحق (والهادي إلي الضلال خارج عن هذه المقارنة) أحدهما يهدي إلي الحق من نفسه والآخر يحتاج إلي هداية الغير من أجل أن تهتدي نفسه ثم يقوم بهداية غيره.

إن قلت: أن الذي يهدي من نفسه ولا يحتاج إلي هداية الغير هو اللَّه سبحانه وتعالي كما ذكرته الآية في الشق الأول، والذي يحتاج إلي هداية الغير هم الأنبياء والرسل والائمة المهتدون بهداية اللَّه سبحانه.

قلت: إن لازم ذلك أن يبعث اللَّه للناس نحو هداية نفسه مباشرة لا الهداية التي في الرسل والانبياء لأنهم يهتدون بغيرهم،

وبتعبير آخر لازم ذلك أن ينهانا عن اتباع الرسل والانبياء في حين لا توجد لدينا قناة لاستلام الهداية إلا من الرسل فيحصل تنافي في مدلول الآية الشريفة، وهداية اللَّه لا يدعيها أحد من دون توسط الرسل والانبياء، فبالتأكيد هذا المعني خاطئ، والصواب أن الآية دالة علي أن الهادي الذي يتبع هو المعصوم الذي علمه لدني لا من الأغيار البشرية وإن كانت

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 281

في خط الهداية، ومن يهدي بهداية غيره لا يكون مأمونا من الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.

وذلك المعصوم هو الذي يكون هاديا للحق علي نحو الدوام أما الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلي الحق إلا بهداية غيره فإذا لم يوجد ذلك الغير فهو يهدي إلي الباطل والضلال. وهداية اللَّه لهؤلاء المعصومين تكون بأحد الطرق الثلاثة «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» «1»

.وينقل العلامة دليلا عقليا علي وجوب العصمة وهو تفسير الامامة بأنه يهدي (بأمرنا) وأن الهداية ايصالية كما مر ذكره سابقا، فلابد أن مَن يكون لديه القدرة علي تلك الهداية أن يكون مهتديا بنفسه بل تدل الآية علي أن الفيوضات الكمالية العملية علي النفوس، وانتقال النفوس في سيرها التكاملي من موقف لآخر إنما يتم عبر الامام، وذلك لأنه يهدي بأمرنا إي بالامر الملكوتي وهو (كن فيكون) فالفيوضات تكون بواسطة رابطة الامامة أما رابطة النبوة فهي من أجل هداية الخلق في الاراءة فقط وهي الجهة التشريعية.

فتحصل مما تقدم:

1- ضرورة كون الامام معصوما.

2- أن يكون موجودا في كل زمان.

3- أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية سواء المعاشية أو الاخروية.

4- أن الإمامة باقية في عقب ابراهيم، وهذا يستفاد من نفس سؤاله للَّه تعالي في سورة البقرة، واستجابته تعالي

لذلك، وما ورد في سورة الانعام من الآية 82- 90:

«وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ … وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 282

وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ..» حيث الخطاب في الآية لذرية ابراهيم واصطفاء اللَّه لهم، وهدايتهم ثم يقول عز من قائل «فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» فالمراد من (بها) الامامة، وهذا يدل علي تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لابراهيم وذريته فهم الموكلون بهداية البشرية.

ويطرح العلامة اشكالا ويجيب عنه، أما الاشكال فهو أن الآية تدل علي أن من يكون نبيا فهو مهتديا فهذا يدل علي أن كل نبي إمام، ويجيب عنه: أنه مما لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا لكن ليست لدينا قاعدة أن كل مهتدي فهو هاد هداية ايصالية، نعم ما دلت عليه آية «أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ …» تدل علي أن الهادي إلي الحق يجب أن يكون مهتديا فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.

ويضيف العلامة في آية سورة الزخرف 28: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ء 27 وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» أن اللَّه عز وجل جعل الهداية باقية في عقبه.

نعم يبقي اثبات أن المراد من الهداية في (سيهدين) حيث أنه كان نبيا ويدعو قومه فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل عنده وما ذلك إلا الهداية الايصالية والامرية المجعولة باقية في عقبه.

ويخلص العلامة إلي أنه يتضح من آية البقرة سبع مسائل هي امهات مسائل الامامة:

1- أن الامامة مجعولة.

2- أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية

3- أن الارض لا تخلو من أمام حق.

4- أن الامام يجب أن يكوم مؤيدا من

عند اللَّه.

5- أن اعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 283

6- أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.

7- أنه يستحيل أن يوجد من يفوقه في فضائل النفس.

وفي كتاب المقالات التأسيسية يذكر العلامة تعريفا أوسع للامامة: أن الامام هو السائق للنفوس البشرية إلي لقاء اللَّه وإلي المعاد حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلي اللَّه تعالي، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم حيث تشير الروايات المستفيضة إلي ورود الامام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن إلي ذلك «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» فهذه الآية تثبت للرسول الذي هو حي في عالم الدنيا بأنه يشهد الاعمال وهي من سنخ ملكوتي والمؤمنون هم المعصومون يشهدون الاعمال بمقتضي «يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ».

ونضيف علي ما ذكره العلامة أن رابطة الامام والرسول بما هو امام لا تقتصر علي عالم الدنيا وما بعده بل حتي ما قبل عالم الدنيا، حيث بعثه في عالم الذر إلي الآخرين وبقية العوالم السابقة علي نشأة الدنيا، وأن الهداية الارائية ايضا مفروضة في الامامة لتقدمها علي الايصالية- وان كانت هي في الامام في طول الهداية الارائية للنبي صلي الله عليه و آله- وهو ما يعبر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الامامة في المجتمع- الانسان المجموعي- هي الزعامة السياسية أيضا مفروضة في حدّ الامامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 285

المبحث الثاني الأدلة العقلية علي ماهية الإمامة الإلهية … ص: 285

اشارة

وقبل الدخول في البحث، نذكر مقدمة تنفع في المقام:

من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الامم السابقة هي مسألة اتصال الارض بالسماء وهل أن اللَّه بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم، واتخذت هذه المسألة اشكالا متعددة ففي عهد اليهود شاعت مقولة «يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ» بمعني أن اللَّه

عز وجل ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤن ولا يتدخل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.

وفي عهد مشركي الجزيرة العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدسة اللامحدودة.

وفي العهد الاسلامي ظهرت مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الارض والسماء بعد الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة، وقد أشرنا إلي ذلك فيما سبق، وأن دعوي العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الالهي لكنها في انقطاع الارادة التكوينية المرتبطة بالناموس البشري فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من «يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ».

والقران الكريم عالج كل تلك المقولات فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» وأن الارادة الالهية لم ينقطع اتصالها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 286

بالمخلوقين.

كما أن القران قد عالج مشكلة المشركين حيث خطّأهم في نقطتين:

1- في اعتقادهم أن الرابطة مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة (إله صغير).

2- في اختراعهم لتلك الوسيلة والواسطة من عند أنفسهم دون اللَّه تعالي، فالقرآن الكريم في نفس الوقت يؤكد علي عدم انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية وهي في حقيقتها محكومة للَّه عز وجل ولا تكون معبودة بل العبودية المطلقة للَّه عز وجل.

فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس المحتوي وهو انقطاع الوحي عن الارض وعدم الاتصال مع السماء. وأما استمرار الاتصال فهو عين التوحيد وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والافعال بل حتي التوحيد في التشريع حيث لا يكون للانسان حق التشريع والتقنين بل اللَّه وحده له هذا الحق الذي بيّنه عن طريق الانبياء والائمة.

وايضا هناك التوحيد في الولاية أي نتبع اللَّه عز وجل فيمن نتولاه ونستهديه للوصول إلي الكمالات العالية وهذا

هو معني الامامة فنفي الامامة يكون شركا ونفيا للتوحيد في الطاعة.

ويمكن لنا أن نضم إلي هذه الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادي بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها حيث أنهم يجعلون مصدر الخلقة والايجاد هو المادة ثم يختلفون في تفسير هذه المادة فيجعل البعض أن المقصود منها الطاقة والقدرة ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.

ولكننا نقول- في مقابل الصياغات المتقدمة- أن ارتباط مراتب الوجود مع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 287

الذات المقدسة موجود ودائم غير منقطع حتي في عالم الانسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا اجباري وقد برهن عليه في محله.

الدليل الاول: ضرورة الإرتباط بالغيب … ص: 287

اشارة

وخلاصته:

أنه لابد من ارتباط غيب الغيوب وهو الذات المقدسة بالعوالم النازلة وبالاخص عالم الانسان الصغير واراداته وهدايته الارائية والايصالية وهذا التنزل بلا شك يجب أن يكون عبر قناة وجودية خلقية وإلا لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتصف بصفتين أحدهما الارتباط بالغيب والاخري الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط التالية:

* أننا اثبتنا فيما سبق وجوب الارتباط وعدم انقطاع الاتصال بين الارض والسماء.

* أن الاتصال إما أن يكون من خلال ارتباط الذات المقدسة بكل فرد فرد وبكل نفس بشرية، وهذا يعني أن تكون كل النفوس أنبياء ورسل وائمة وهذا وإن أمكن ثبوتا وليس بممتنع علي الحق تعالي لكنه علي خلاف نظام الخلقة إذ أنه قائم علي أن لا يكون الكل كذلك.

* أن الاتصال حينئذ يكون عبر أفراد، ولا يخلو أمرهم أن يكونوا إما بشرا او ملائكة أي اننا اشترطنا أن يكون فيهم جنبة بشرية وذلك لما ذكرنا سابقا أن عدم وجود الجنبة البشرية مطلقا يفقد خيرية الاقتداء والأسوة إذا أنه لا

يحقق البعث والتحريك نحو الكمال فهو بشر يراه الناس كأنفسهم ن لكنها نفس تعالت عن مزالق الشهوات إلي مراتب الكمال فأصبحت تهدي بأمر ملكوتي، فهو نموذج بشري توفرت فيه صفات الكمال، وفي هذا جواب علي ما ذكره بعض العرفاء او

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 288

الصوفية من أن المرتاض في سير وسلوك وارتباط بالارواح الكلية و العوالم العلوية أما في عالم الشهادة فإنه يخطئ في تطبيق تلك الروح المرتبطة بعلي عليه السلام فيجعل لها مصداقا من آخرين كزيد وعمرو … فهو في حقيقة أمره مرتبطومذعن بالعوالم النورية، مثل ما قد ينسب إلي بعض عرفاء العامة فيري أنه وصل في سيره وسلوكه إلي الحقائق العلوية ولكنه اخطأ في التطبيق في هذه النشأة.

وقد ذكرنا أن هذا الارتباط أيضا غير نافع، وذلك لأن الحقيقة الانسانية هي أشرف صور المخلوقات الالهية ومنها يبدأ السير التكاملي والاتصال بالغيب فيجب أن لا يكون دونها كمالا، وهذا مع ما ذكرناه سابقا يقتضي أن يكون الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.

* نعم يبقي الجواب عن اشكال قد يطرأ علي ذهن البعض؛ وهو أن الاتصال بالغيب يكفي فيه النبوة فما الحاجة للائمة، وبتعبير آخر ما الحاجة إلي الهداية الايصالية مع وجود الهداية الارائية؟

وفي مقام الجواب نشير إلي أن الروايات قد استفاضت أو تواترت علي أن للائمة جنبة تشريعية للاحكام لا بمعني الاتيان بأصل الشريعة بل هي هداية تشريعية متممة للنبوة والرسالة، وبيان ذلك من خلال مقدمات:

- من المبادئ الاساسية التي تحكم التشريعات والتقنينات علي مدي العصور هو مبدأ تدرج القوانين، وهو يعني أن القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية ثم تتدرج إلي قوانين متوسطة حتي تصل إلي القوانين الجزئية التي تطبق علي الظواهر الفردية

والاجتماعية، وهذا النحو هو الحاكم علي التقنينات الوضعية فتري الدستور ثم القوانين الصادرة من المجالس النيابية ثم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية. وقد أشرنا في بحوث الاصول إلي تماثل الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي علي أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 289

- أن تنزل القوانين العامة والقواعد الكلية إلي المصاديق يحتاج إلي مراقبة وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع والتصادم في التطبيق.

- أن السنة الجارية في عالم الخلقة هي محدودية أعمار الانبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها علي كل الدرجات و الموارد الجزئية إذ أن محدودية أعمارهم تمنع من مراقبة كل الدرجات و الجزئيات الحاصلة بعد حياتهم الشريفة.

- ان سلامة الشريعة وصوابية التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية، خصوصا في القواعد الالهية التي ترعي المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفي علي الاذهان العادية فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصا إذا قلنا أن الاحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية والفردية والمجموعية.

- أن البشر العادي المنقطع عن الغيب ليس له أن يتوصل إلي بيان مؤدي النقطة السابقة وذلك لاحتياجها إلي عصمة علمية.

والنتيجة: انه لا بد من وجود فرد له عصمة علمية مضافا إلي العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الامام.

ولا يخفي علي كل ذي لب ما نشاهده في حياتنا العملية حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة علي كيفية تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض والخطأ وبين كل فترة وأخري تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الاخطاء والنقص، وفي القانون الالهي وإن لم يُقس بالقانون الوضعي البشري

إلا انه لا بد من وجود المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات وبذلك يؤمن عن الوقوع في الخطأ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 290

والزلل في التطبيق أوالتنزيل المسمي في اصطلاح الوحي بالتأويل، ومجرد احتواء الكتاب علي تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع، فكم نري في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الاحكام الشرعية من أخطاء وغفلات «1».

وبهذا يندفع الاشكال من أنه لا حاجة إلي افتراض العصمة العلمية بواسطة وجود كتاب يروونه عن النبي صلي الله عليه و آله فيعتبرون لكونهم رواة عدولًا ولا حاجة إلي العصمة حينئذ.

ووجه الاندفاع أنه مهما بلغت درجته العلمية فإنه لا يؤمن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة وتطبيقها علي الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.

وبناء علي ما مضي يتبين ضرورة ابراز جنبة الهداية الارائية في الائمة مضافا إلي الهداية الايصالية، وعدم الاكتفاء بالاخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلامة في الميزان.

* وقد يثار اشكال آخر: أنه ما المانع من عدم وجود ائمة معصومين عملا فكل ما نحتاجه هو عصمة نسبية عملية كالعدالة، وعصمة نسبية علمية كالفقاهة، فنكتفي بهما عن العصمة الشاملة بمعني المقام الغيبي والملكوتي؟

ويوجد في المقام جوابان:

الأول: ان هذا الإشكال قد حصل فيه التغافل عما ذكرناه في بداية البحث أن الانبياء والرسل بمقتضي محدودية أعمارهم البشرية لا يوضحوا كل شي ء ولا يبينوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم بقية المتوسطات مع عدم كونه متصلا بالغيب إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات بل هي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 291

نوع من الانشاء التشريعي من نفس المشرع الاول. وبتعبير آخر: أن الانبياء نحو اراءتهم كانت اراءة اجمالية فلابد من الاراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الائمة بأن

تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.

الثاني: أن بيان الامام وفهمه للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه بل هو، بيان بعلم الغيب والتسديد الالهي المصيب للحق دوما. فاراءة الامام للاحكام الشرعية ليست شريعة جديدة بل بيان لتلك الشريعة الاجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي صلي الله عليه و آله.

إذن نلاحظ في مقام الامامة والنبوة نقاط التقاء وافتراق وأفضلية جانب علي آخر فكلاهما حلقة اتصال بالغيب، وكلاهما حجة اللَّه علي الخلق وسفارة إلهية إلا أن وظيفة كل منهما تختلف عن الآخر فالنبوة فضيلة في نفسها والامامة فضيلة في نفسها، ورأينا في تفسير آية البقرة كيفية استحقاق ابراهيم للامامة، وأنه كان عبر تلك الابتلاءات المختلفة والشديدة.

فالنبوة لها فضل والامامة تفصيل لتشريع النبوة، ويبقي للامامة الهداية الايصالية بخلاف النبوة التي تقتصر علي الهداية الارائية وبعض الانبياء هم ائمة أيضا، أما الائمة فليسوا بأنبياء وتفضيل بعضهم علي بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبين أيضا كيف أن النبوة لا تقوم مقام الامامة وأنها تكتمل بها.

وهاهنا تساؤل آخر وحاصله: لماذا لا يكتفي بالامامة عن النبوة فإنها جامعة للهداية الايصالية والارائية؟؟

والجواب عن ذلك:

1- أن المفروض أن الهداية الايصالية ليست إلجائية بل اختيارية.

2- أن المكلف في اختياره لأي سيرة في حياته يجب أن يكون طبقا لعلم، لكي يؤمّن جانب الاختيار والكمال في المسير الانساني فلابد أن يكون الانسان علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 292

علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير وهذا الجانب العلمي لا يؤمّن إلا بالهداية الارائية، فعلمه وانتقاؤه طبقا لهداية النبي هو قوام الاختيار.

وبعد حصول ذلك العلم لدي المكلف يأتي دور الهداية الايصالية والتسبب الملكوتي الذي يري أن أرضية المكلف مخيرة ومهيأة لتقبل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدي

ويفضله علي اتباع إمام الضلال.

فتظهر أهمية العلم بالشريعة الذي يبينه النبي، ثم يأتي دور الامام بعد أن يختاره المكلف فتكون هدايته اختيارية لا إلجاء فيها ولا جبر، وخصوصا أن السير التكاملي لا يؤدي هدفه إلا اختياريا وإذا كان جبريا فلا كمال فيه.

وعليه فمن تمام عناية اللَّه ولطفه بالانسان أن يهيئ له الاسباب المعدة للكمال، ونظير هذا حقيقة الانسان الصغير حيث أن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري فحكمة وجوده هو نوع اعداد وتهيئة أرضية لانجذاب الانسان إلي نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية «1».

تقييم الدليل الأول: … ص: 292

يلاحظ علي هذا الدليل هو تركيزه علي حيثية الهداية الارائية في الامام، ولا يقوم باثبات المقام الغيبي للامام بما هو هاد هداية ايصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسرين من الامامية طيلة قرون عديدة، ولكنهم عند ذكره لم يتطرقوا إلي المقام الغيبي للامام الذي يمكن التعمق فيه من خلال نفس المقدمات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 293

المذكورة.

الصياغة الثانية لنفس الدليل: … ص: 293

في بداية هذا الفصل بيّنا الجهاز العلمي والادراكي في الانسان الصغير وذكرنا أنه توجد مدارج ادراكية ثلاث:

- المراتب الروحية (الاخفي والخفي والسر والقلب).

- المراتب الادراكية (العقل والوهم والخيال والحس).

- المراتب العملية (العقل العملي والقوي الشهوية والقوي الغضبية والاختيار).

وذكرنا أن تنزل العلوم البشرية دليل علي وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة حيث أن العلم ليس بمادي وليس له عوارض المادة وقد ثبت في محله أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم وذلك لأن الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي.

وفي تنزل العلوم تدرج في تلك المراتب حتي يصل إلي عالم الخارج، وقد أشرنا إلي أن البديهيات توفر عصمة نسبية لدي الانسان ولهذا أطلق علي العقل الرسول الباطن، وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدي العقل النظري إلا بعد ارتباطها بعلوم حضورية، وذلك لأن العلوم الحصولية وهي الصور الذهنية تظل قابلة للانطباق علي كثيرين وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والامكان، فهي لا تولد اليقين ولا الضرورة أي ضرورة الوقوع والوجود، أما الدرك العياني الحضوري فليس محلا للاحتمال والزلل لذلك يجب أن تستند الادراكات الحصولية إلي ادركات حضورية حتي تكون يقينية صحيحة.

وعلي كل حال فهذه القنوات الانسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية باعتبار أن الجن والشيطان ذو وجود خفي لطيف حيث بامكانه أن يرتبط

بالانسان عبر مدارج وجوده لا سيما الادراكية النازلة وهو ما يعبر عنه في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 294

الروايات «أنه يجري في البدن مجري الدم في العروق» فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الانسان.

ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن تتنزل الارادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ؟ والجواب: أن هذا غير ممكن إلا لمن أهّله اللَّه بمدارج روحانية وادراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو ما تشير إليه الآية قاصدة النبي صلي الله عليه و آله «وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ» «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ» فما دام الاتصال بالغيب موجودا في كل الازمنة وأن عالم الشهادة قائم علي وجود هذا الاتصال وأن يد اللَّه مبسوطة فهذا يدل علي ضرورة وجود قناة معصومة تتنزل عن طريقها المشيئات الالهية.

وبعبارة أخري: أن الارادة والمشيئة الالهية يجب أن تبرز إلي عامة البشر المختارين حتي يستعلموا مواطن مشيئة وإرادة اللَّه حتي في الموارد الجزئية سواء الجزئي الاضافي أو الحقيقي، وهذه الارادات لا يمكن أن تتنزل إلا عبر من كانت له عصمة عملية وعلمية أي يكون علي صعيد المدارج الادراكية النازلة وعلي المدارج الادراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير جامع له مقام غيبي، فلا تنازعه قوي الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَي مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَي كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» «1»

، فالشيطان يدعو ويغري الادراك، فالذي تكون ارادته ومشيئته مظهرا لارادة اللَّه يجب أن يكون مأمونا من نفوذ الشيطان إلي ادراكا ته.

تقييم الدليل: … ص: 294

هذه الصياغة توضح كثيرا من الروايات نحو «نحن تراجمة أمر اللَّه ونهيه وتراجمة ارادة اللَّه ومشيئته». وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الامامة لدي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 295

العلامة الطباطبائي، حيث أنه قد ركز علي

أن للامام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرف في النفوس والسير بها من منزل إلي منزل معنوي أعلي، وما ذكرناه يركز علي الهداية الارائية للمعصوم.

فالدليل الاول بصياغتيه يقوم بمهمة البرهنة علي جانب الهداية الارائية في الامام.

الدليل الثاني: الفطرة … ص: 295

وهو المعروف بالدليل الفطري وقد ورد في عدة روايات، واجماله:

أن كل فطرة بشرية تجد في أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علما وعملا، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك للانسان لأن يتكامل، وهذا دال علي وجود من هو كامل علما وعملا.

تفصيل الدليل: من خلال بيان عدة مقدمات:

المقدمة الأولي:

أن مدارس المعارف البشرية تتفق علي وجود الأمور البديهية والفطرية لدي الانسان، ويعرفون القضية البديهية بأنها القضية التي يضطر الانسان إلي الاذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلي إعمال الفكر بل مجرد الرجوع إلي النفس ورفع الموانع يجد نفسه مصدقا بها.

ونلاحظ أن هذا التعريف للبديهة ينطبق علي الامور التي فطر عليها الانسان، فاذا افترض امر اشتركت البشرية فيه فإنه يعلم أنه من الامور الفطرية، ومن أدلة التوحيد د ليل الفطرة وهو من براهين الصديقين حيث يقولون أن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللامحدود، دليل علي وجود اللامحدود، وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالايمان بأمر ما وتكون خاطئة به وإلا لزم السفسطة لأنه لو تبين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 296

خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز عليها الانسان في علومه، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به النفس، فالعلوم التي تكون علي وزان الامور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.

المقدمة الثانية:

أن الانسان في حين انجذابه إلي اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدودا لان قدرته وامكاناته كلها محدودة. فحتي

لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعي لتحصيل الكمالات العلمية والعملية بالمقدار الممكن علي حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما يعبر عنه في بعض الروايات «أه من طول السفر وقلة الزاد» فهذا السفر لا نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.

المقدمة الثالثة:

أن من مسببات الانجذاب إلي الكامل اللامحدود الانجذاب إلي الكامل من بني الانسان، فنجد الناس ينجذبون إليه وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الاساطير في تاريخ البشرية هي اسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع وملة منها، حيث يصورون البطل الشجاع والهمام المتحلي بمحاسن الاخلاق، ونري الناس يندفعون إلي التشبه به في كافة جوانبه وذلك للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.

المقدمة الرابعة:

أن من كمالات الانسان الارتباط باللامحدود علما وقدرة و هيمنة علي كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة علي كل شي ء، وهذا لا يعني الاحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلا لم يكن ذلك كمالا، ونفس وجود هذا الأمر و النزع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 297

الفطري دال علي عدم امتناعه.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود مثل هذا الكامل لامتناع السفسطة وثبوت ذلك بالفطرة.

الصياغة الثانية:

وهي تنطلق من نفس ما انطلقت منه الأولي أن الانسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.

المقدمة الثانية:

أن الحركة نحو أية غاية كمالية يشترط فيها أمران ذكرناهما فيما سبق: كون الهدف ممكنا وليس بممتنع ولا محال، وان يكون الكمال المطلوب غير حاصل للانسان فعلا.

المقدمة الثالثة:

أن الكمالات المطلقة للذات المقدسة لا يحدها حد والانسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلي اللامحدود، فحتي تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلي الحظيرة الانسانية حتي يتصورها الانسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة

لديه.

وينتج من ذلك أن الارتباط بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية وقد ذكرنا سابقا أن المقتدي يجب أن يتحلي بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلي هذه الحقيقة «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ» «1»

، فهذه الآية تؤكد ذات الحقيقة، ولذا يعيش الانسان الحالة الوسطي ما بين الخوف والرجاء فالارتباط مع الذات المقدسة يكون بواسطة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 298

المعصوم، وإذا لم نفترض ذلك فإنه يعني انقطاع الاتصال مع الخالق جل وعلا.

والخلاصة: أن الموجب لحفظ الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي، والموجب للايمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالايمان بالغيب الاعتقاد بغيب الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع) لا يتحقق إلا بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن بالذات المقدسة ومعني الايمان بها هو الايمان باللَّه تعالي.

وضرورة الارتباط باللَّه عز وجل عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضا باضطرارهم الفطري، إلا أنهم في تطبيق مَن يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال، مثلا يلبسون الصحابي أو بعضهم ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي وهذا واضح من خلال ما ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشرة بالجنة كما يدعون، ونحن نستشهد بذلك علي أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الامامة العهدية الالهية، و لأجل ذلك نلاحظ اطلاق الروايات علي الأول والثاني الجبت والطاغوت لأنهما في قبال العبودية والمخلوقية، فالجبت مأخوذ من الجب وهو الطم أو القطع أي السد العام لطريق الحق وسلوك الكمال، والطاغوت من الطغيان والتمرد في الذات

علي ما توجبه حقيقة الفطرة البشرية بأن يكون عبدا للعيش ويدرك حالة الفقر في حقيقته لربه فيتمرد ويعتد بذاته مستقلة ومستغنية عن المدد الرباني.

ولذلك فبوابة التوحيد هو الامام، وهو السبيل إلي الايمان الخالص باللَّه، وفي الرواية عن النبي الاكرم صلي الله عليه و آله «يا علي من قصد اللَّه و لم يقصدني فلم يقصد اللَّه و من قصدني ولم يقصدك فلم يقصدني» إذن فالواسطة والرابط يجب أن يكون من الكمال

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 299

العلمي والعملي بمكان حتي يتحرك الانسان وينبعث انبعاثا صحيحا سليما نحو الكمال المطلق والذات الأزلية، وواضح من الحديث أن الهداية النبوية هي هداية ارائية اجمالية بحاجة إلي هداية تفصيلية يقوم بها الامام.

فالامام مظهر عقلي أتم للخوف والرجاء الذي يجب أن يتحلي به الانسان ليتكامل وليكون مرتبطا بالذات المقدسة.

وهاهنا اشكال: أن هذه الصياغة تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفر فيه الشرطان اللذان يدفعان الانسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم وهو بشر مع الذات المقدسة حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن تحصيلها فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلي نفس المعصوم؟

والجواب: لقد ذكرنا في المراتب الوجودية أن النبي الخاتم صلي الله عليه و آله هو أفضل الائمة والمعصومين فهو يمثل الرابطة بينهم وبين الذات المقدسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم صلي الله عليه و آله بالذات المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة ولكن نشير إليها بنحو الاجمال، حيث أن عليه الصلاة والسلام أول ممكن في الوجود فهو يعلم أن ما في الذات الازلية غير منقطع الفيض عنه، والكمالات

كلها تتجلي أو تتنزل تدريجيا شيئا فشيئا فالنبي صلي الله عليه و آله في تكامل دائم.

الصياغة الثالثة: … ص: 299

تعتمد علي مقدمة نقلية ذكرناها فيما سبق، حاصلها: أن لفظ الأمة أطلق في اللغة علي المجموع البشري السائر نحو هدف ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود هاد مطلع وعالم بالهدف يقود الامة في هذا المسير التكاملي، ولا يمكن أن ينال هذا الدور أحد إلا إذا توفرت لديه العصمة العلمية والعملية حتي يمكن الوثوق بهدايته

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 300

فيتبعه الآخرون. فماهية الامة يستحيل أن تتخلف عن وجود الامام فيها.

يبقي اشكال علي هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الامة علي عدد آخر من الأمم بل بعضها منحرف وتتبع إمام الضلال؟

والجواب: أن القرآن أطلق علي هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلي الكمال الواقعي أما الامم الأخري فاطلاق الامة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق فهم لا يؤمّون إليه لأن سيرها لا ينتهي إلي الكمال المطلق.

تقييم الدليل الثاني: … ص: 300

أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الايصالية في مقام الامامة وفيها جنبة الهداية الارائية، وهو ما ذكرناه من الاشكال والجواب ومدي الحاجة إلي الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.

الدليل الثالث: برهان الغاية … ص: 300

ويسمي برهان الغاية، وله عدة مقدمات:

1- أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.

2- أن الموحدين يجعلون هدفهم هو اللَّه عز وجل أي التخلق بأخلاق اللَّه.

3- ثبت لدي أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضا، وعليه فالايمان بالتوحيد والنبوة يوفر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف، أما الجانب الآخر فيوفره الايمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الانسان لا يعيش عالم الدنيا فقط وإنما يوجد هناك عوالم أخري يحياها الانسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرها كثير من علماء

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 301

النفس والاجتماع.

4- أن الكمالات التي يسعي الانسان إلي تحصيلها لا تقتصر علي كمالات عالم الدنيا بل هي كمالات في عوالم لاحقة لهذه الدنيا فهناك عوالم آتية فيها كمالات و دركات ومفاسد، وأعمال الانسان في هذه الدنيا تهيئ الارضية لنيل المكانة في تلك العوالم وهذا هو معني المعاد.

فالنتيجة: أن هذا السير يقتضي وجود الهادي والمعصوم الذي يسير بالامة نحو المعاد الحقيقي واحراز الكمالات العالية في العوالم اللاحقة، وهذه المقدمات تثبت ضرورة تحلي الامام الهادي ب:

أ- الهداية الايصالية وأن يكون له تصرف في النفوس تصرفا غير إلجائي أي تتكامل النفوس باختيار الانسان.

ب- الهداية الارائية التفصيلية.

ج- الزعامة الاعتبارية في الانسان المجموعي وهو المجتمع.

فهذا الدليل يثبت ضرورة الامامة حسب تعريف العلامة مع التكملة التي أضفناها.

كذلك يبين

الدليل الارتباط بين المعاد ومعرفة الامام ومن هنا نفهم قوله تعالي «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» فالدعوة والحشر والمعاد يكون بتوسط الامام لأنه هو الهادي لهم نحو الكمالات التي تظهر في العوالم اللاحقة، والآثار التي تظهر في المعاد إنما هي بتوسط الامام حيث يكون مرتبطا بالغيب، ويعلم بلوازم الافعال الدنيوية وحقائقها وما يضر وما ينفع.

ومن الأدلة النقلية التي تؤيد هذا الدليل وما هو دور الامام في المعاد:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 302

قوله تعالي «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «1»

، وهذه الآية سوف نفرد لها بحثا مستقلا في المقام الثالث، إلا أنا نريد أن نشير إلي أن الآية تنص علي أن المؤمنين (وهم الائمة كما في العديد من الروايات) يشاهدون حقائق أعمال العباد في الدنيا وهذا الاطلاع اطلاع ملكوتي.

وفي روايات أخري تشير إلي أن الاعمال إذا أريد أن تصعد إلي السماء والعرش فإن الصاعد بها هوا لامام، وروايات تشير إلي أن دور الامام يكون عند قبض الروح وفي البرزخ وعقبات الانتقال من عالم إلي عالم، وروايات تشير إلي أن الامام يُنصب له عمود من نور علي كل مدينة فيطلع علي أعمال العباد.

وفي تفسير «وَعَلَي الأَعْرَافِ رِجَالٌ …» «2»

يشير العلامة إلي أنه علي الاعراف رجال مشرفون علي الناس من الاولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به علي اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم «3».

تقييم الدليل الثالث: … ص: 302

إن هذا الدليل يثبت مقام الهداية الايصالية والارائية والزعامة والرئاسة التي ذكرها المتكلمون.

الدليل الرابع: معرفة النفس … ص: 302

ويعتمد علي مقدمات:

1- أنه من الثابت روائيا وعقليا أن معرفة النفس من أشرف الطرق للمعرفة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 303

الربوبية وذلك لأنه طريق برهاني يؤول إلي العيان الحضوري بناء علي «من عرف نفسه فقد عرف ربه» «أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه».

2- قد بينا في زاوية التعريف العقلي ل (ما الحقيقية) شئون النفس والرسول الباطن ودور العقل العملي والقلب واشرنا إلي صفات عشرة لدور العقل العملي وآثار القلب وسائر القوي.

3- بمقتضي المطابقة بين الانسان الصغير والكبير، وأن المقصود من معرفة الرب ليس معرفة الذات الأزلية بل معرفة أفعال الذات وعالم الخلقة الذي هو عالم ربوبية الباري للخلق، والرب هو عنوان من الصفات الفعلية للباري عز وجل بل وبمقتضي المطابقة بين الانسان الكبير والمجموعي أي المجتمع وهو وأن كان اعتباريا إلا أن هذا الاعتبار ليس ناشئا من لا شي ء، بل الاعتبار كما أشرنا إليه يقتنص وينتزع من التكوين، وقد مثلنا أن قوي الانسان الصغير كلها تتمثل في المجتمع فالجيش يمثل القوة الغضبية ووزارات الترفيه تمثل القوة الشهوية، والقوي المقننة تمثل العقل النظري، والقوة القضائية تمثل الوجدان والضمير وحسب تعبير القرآن «النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» فهذه هي المطابقة بين الانسان الكبير والصغير والمجموعي.

وبمقتضي هذه المقدمات إذا كان في الانسان الصغير توجد امامة ذات هداية ايصالية ارائية فنستكشف وجود ذلك في الانسان الكبير والمجموعي وهو دور الامامة في المجتمع، وما ذكرنا في كيفية تصرف العقل العملي في بقية القوي ينطبق علي الامام في الانسان المجموعي.

الدليل الخامس: برهان العناية … ص: 303

اشارة

وهو برهان العناية، وقد تعرضنا له في الفصل الأول إلا أنا نعيده هنا ملخصا:

وهو علم الباري بالنظام الوجودي الأحسن، وعلي أكمل ما يكون عليه، وهذا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 304

العلم مستلزم لإفاضة الوجود الإمكاني الخلقي علي أحسن ما يمكن

أن يكون عليه، ولو بنحو الترتيب أو التدريج في العوالم كي تستقصي كل الكمالات في عالم الامكان (وهذا التعريف مأخوذ من مدرسة الاشراق والحكمة المتعالية)

وقد أشرنا إلي أن قاعدة العناية الفلسفية هي بعينها قاعدة اللطف لدي المتكلمين حيث أن الاخيرة تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلف من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وايجاده ويقبح عدم ايجاده، فمن حيث اللب القاعدتان تعبران عن مفهوم واحد وأمر واحد، إلا أن الفلاسفة في منهجهم يعتمدون علي العقل النظري في اثبات القاعدة، أما المتكلمون فيعتمدون علي العقل العملي في اثبات القاعدة.

* أن أعلام الامامية استنادا إلي الروايات المختلفة ذهبوا إلي أن موقع الامام في الانسان المجموعي (موقع الرئاسة والزعامة) هو لطف فلذا يحسن عن اللَّه نصبه وتعيينه واللطف هو أكمل ما يمكن أن يكون عليه الوجود، فإذا كان أكمل ما يمكن أن يكون عليه الانسان المجموعي هو بوجود الامام فبمقتضي قاعدة العناية يجب عن الحق تعالي ايجاده.

* أن الحفظ للدين و تدبير الدنيا تستلزمان أن تتوفر في الامام الهداية الايصالية والارائية التفصيلية، وذلك أن الامام لا يكون حافظا للدين إلا إذا أمّنت جنبة المقام الغيبي، ويكون علي اتصال بالغيب فلا تصدر منه زلة علمية في تبيان مدارج الاحكام الشرعية، وبما أن الغاية هو تكامل الافراد إلي الكمالات المنشودة وهو نوع من الهداية الايصالية.

تقييم الدليل: … ص: 304

أن المتكلمين اقتصروا في اثبات الامامة في الانسان المجموعي علي قاعدة اللطف ولم يتناولوا جانب الهداية الايصالية مع انها لطف أيضا، وقد قمنا بتوسعة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 305

الدليل ليشمل هذا الجانب أيضا حيث أن العناية صفة من صفات الباري وأنه لطيف خبير «إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ».

ملاحظة عامة: … ص: 305

إلي هنا نلاحظ الارتباط بين الإمامة وبقية أصول الدين ففي الدليل الأول بينّا كيف الارتباط بين الامامة والنبوة، وفي الدليل الثاني بينا الارتباط بين الامامة وفطرة التوحيد وأن بوابة التوحيد هو الامامة، وفي الدليل الثالث بينا الارتباط بين الامامة والمعاد ودور الامام في عوالم ما بعد نشأة الدنيا، وفي الدليل الرابع انتقلنا من معرفة النفس إلي الامامة، وفي الدليل الخامس ننتقل من صفات الباري وإنها تستلزم الامامة.

وبتعبير آخر أن هذه الادلة ليست أدلة خطابية بل هي برهانية عرفانية في آن واحد أي ان ادراكها يحتاج إلي مقدمات فكرية من المعاني الحصولية وإلي ذائقة قلبية كي يدرك كنه تلك الأدلة الخمسة، ففيها مطالب علمية ممتزجة من العلم الحصولي والعلم الحضوري، والنكتة التي أردنا الاشارة إليها أن هذه الادلة الخمسة اللمية تدلل علي أن أصول الدين تقود إلي الامامة.

الدليل السادس: الأدلة الإنيّة … ص: 305

اشارة

وهو من الأدلة الإنية التي اعتمدها المتكلمون والتي تنطلق من احتياج الكل إليه وغناؤه عن الكل دليل علي إمامته، وعبر البعض عنه انه اجتمعت فيهم من الفضائل كلها، فهم احق بالامر بحكم العقل العملي، وبتعبير ثالث أنهم عليهم السلام المشار إليهم باشخاصهم وأسمائهم بحسب الجرد التاريخي وباعتراف كل الفرق والملل قد فاقوا نوابغ كل صفة في كمال تلك الصفة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 306

تفصيل ذلك: … ص: 306

أن التاريخ يذكر أنهم قد وضعوا الحلول الناجعة لكثير من المعضلات الفكرية التي ابتليت بها الامة الاسلامية؛ كما في اشكالية صفات الباري حيث قالوا:

«لا تعطيل ولا تشبيه وإنما أمر بين أمرين»، فلا يجوز تعطيل الصفات والقول أننا لا ندرك شيئا من صفاته تعالي، كما لا يجوز التشبيه والقول أننا ندركه كما ندرك المحسوسات، وكذا نفي التجسيم ولوازمه عن ذات الباري، فقد كانت الاذهان عالقة بهذا الوهم. ونفي الجبر والتفويض وإثبات الاختيار في الافعال.

وهكذا في معالجتهم للمشاكل الفكرية التي انتقلت إلي الامة الاسلامية من الحضارات الأخري فتراهم يجعلون لها الحلول بنحوٍ لا يصطدم مع الاسلام وضرورياته، وموارد هذا شتي من التوحيد وصفات الحق تعالي، والعدل والمعاد والقضاء والقدر وما ورد من الشبهات حول نبوة الأنبياء عليهم السلام، وبقول ابن أبي الحديد في ذيل إحدي الخطب «لم تنتشر المعارف الالهية من غير هذا الرجل ولم يكن في الصحابة من تصور أو صور شيئا طفيفا من المعارف»، ونضيف علي مقولته تلك أن عباراتهم وحلولهم وحكمهم ظلت حتي يومنا هذا مدار بحث وتشييد لأنها تفوق ما توصل إليه السابقون من الفلسفة اليونانية ويستنير بهديها المتأخر ون من الفلاسفة.

* المرحوم الشاه أبادي يذكر: أنه في الصحيفة السجادية لفتات وحلول لمعضلات في عالم المعني والعرفان، بنحو لم يكن

مطروحا في العرفان الهندي الذي هو من أقوي وأقدم المدارس العرفانية لدي البشرية، ويشير إلي أنه في الادعية الأولي بحوث عديدة وغريبة ودقيقة في السير والسلوك أو في مقامات الهادي، أو مقامات الخلقة والتكامل الانساني ويعبّر عن ادعيتهم عليهم السلام أنها بمثابة القرآن الصاعد لما تحتويه من أسرار المعرف الالهية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 307

فمثلا المتقدمون يجعلون الظاهر في قبال الباطن والأول في قبال الآخر، بينما الامام عليه السلام جعل الذات المقدسة هو الظاهر والباطن والاول والآخر، «فهو وحدة واحدة يستوي فيها الظاهر والباطن والأول والآخر»، وفي كتاب التوحيد في ما ذكره الامام الصادق عليه السلام تبيان إلي كيفية الدلالة علي ذلك.

* أن خضوعهم وعبوديتهم المطلقة للَّه عز وجل لا تجد لها مثيلا عند من عاصرهم أو تأخر عنهم.

* أن معجزة السماء الخالدة القرآن الكريم لم ولا يوجد في الساحة الاسلامية ترجمان له- بحيث يثبت للبشرية أن القران الكريم يغطي كل احتياجاتها وكل تساؤل يطرح علي وجه الأرض لم يتمكن احد من الاجابة عليه- سوي الامام مما يوضح وجود رابطة بينهم وبين القران، وهو ما سوف نثبته في المرحلة الثالثة في فقه الآيات.

* يضاف إلي تلك الادلة مقدمة مشتركة لا بد منها وذلك لأن الاقتصار عليها يثبت أن الائمة هم أليق الناس وافضلهم لادارة شئون الامة، لكن لا يثبت بها وجود مقامات أخري في حين اننا يمكن أن نستفيد من تلك الادلة لما هو أوسع من ذلك باضافة هذه المقدمة وحاصلها:

أن توافر هذه الصفات بهذا النحو في هؤلاء الاثني عشر إما أن يكون من باب الصدفة والاتفاق أو يكون بسبب وعلة.

اما الأول فباطل وذلك لأن القول به هو نفي لوجود اللَّه وذلك لأن الطفرة هي صدور شي ء

من شي ء من دون سبب وعلة والاتفاق عبارة أخري عن نفي السببية، وأن حيازة هؤلاء علي الريادة في الصفات الكمالية إن كان اتفاقا يعني أن يد اللَّه مغلولة، وأنه ترك الخلق كما خلقهم من دون هدايتهم والاتصال بهم.

فيبقي الثاني وأن وجود تلك الصفات فيهم لم يكن من باب الصدفة والاتفاق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 308

بل أن هذا يدل علي عناية الهية وافاضة ربانية جعلت هؤلاء متصفين بتلك الصفات طيلة تلك السنين المتعاقبة والتي شهدت منافسين عدة حاولوا النيل منهم بشتي الطرق والوسائل، فتوجد في البين إفاضة ربانية للكمالات العلمية والعملية، وإن الوراثة بينهم ليست وراثة نسبية بل وراثة نورية تكوينية جعلت تلك الحقيقة الغيبية مستمرة بهم.

وبهذه المقدمة تكون تلك الادلة الإنية مثبتة للمقام الغيبي الذي نتوخاه في الامامة والذي يكون به عدل النبوة وسفارة إلهية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 309

المبحث الثالث الامامة في القران الكريم … ص: 309

اشارة

إن الهدف الذي نتوخاه من هذه الدراسة هو فهم حقيقة الامامة ودورها في عالم الغيب بعد ان استوفي الباحثون حقيقتها في عالم الشهادة، ونعتمد في ذلك علي الآيات الكريمة التي تحمل معانٍ نورانية لنستوحي منها معاني تلك القناة المعصومة المرتبطة بالغيب.

وهاهنا ملاحظة مهمة: أنه يجب الالتفات إلي أن القرآن الكريم قد صدر من الحكيم العالم بخفايا الامور، والعارف بأساليب اللغة ومفرداتها، فالالفاظ المستخدمة في القرآن ليست قوالب لفظية شعرية وأدبية بغرض ابراز الجمال الادبي، بل إن وراء استخدام ألفاظ دون أخري أو صياغات معينة دون غيرها غاية وهدف ومعني يرمي إليه القران، وعدم فهم كلام الباري بهذا النحو يكون ابتذالا وتوهيناً للمعاني القرآنية وتزييفا لمعارفه ويخالف قوله تعالي «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» فليس المراد أن القرآن فيه تبيان للحقائق التشريعية فقط، بل أن القرآن فيه بيان للحقائق التكوينية

أيضا، كما يظهر من كثير من الآيات التي تذكر خلق العالم وسنن التكوين، وأن هذا القران الحامل لسبعين بطنا لا يجوز لنا أن نقف أمام الظاهر فقط بل يجب الغوص في حقائق معانيه وما تحمله الالفاظ من معارف، بل نجد أن البعض يقدس القرآن ويسلّم بعظمته لكنه عندما نلاحظ فهمه لآياته نجده يبتذل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 310

معانيه ويقف عند حاق اللفظ والظاهر فقط جاهلا أن الالفاظ ليست هي الهدف والغاية، بل هي قنطرة للوصول إلي المعني المراد فيجب تجاوز منطق الادب وعلومه، فتنفتح أمام الانسان حينئذ تلك المعاني العالية الدقيقة التي تحتاج إلي موازين العقل والمنطق. وهذه نقطة نفترق بها عن العامة الذين حجبوا عن أعينهم تلك الأمور.

وقد قسمنا الآيات التي تتحدث عن الامامة إلي طوائف عدة نتناولها بالتفصيل.

الطائفة الأولي: … ص: 310
اشارة

استخلاف آدم، من الوقائع القرآنية العجيبة التي يحكي بها الحق تعالي بدأ الخلقة وكيفية خلق آدم عليه السلام وامر الملائكة بالسجود إليه، وهي من الآيات التي تحمل معانٍ كبيرة تدللنا علي موقع الامامة في الوجود الامكاني، ويمكن القول أنها تمثل البوابة لهذا البحث والعلامة الأم لهذا الموقع الإلهي. وقد تكرر ذكر هذه الواقعة أو مقاطع منها في مواضع كثيرة من القرآن في السور التالية:

1- سورة البقرة 2: 30:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ

غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَافَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 311

وَمَتَاعٌ إِلَي حِينٍ فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

وهذه السورة تحوي جميع مقاطع الواقعة منذ إخبار اللَّه الملائكة بخلق آدم وحتي هبوطه إلي الأرض.

2- سورة الكهف: 50:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا».

3- سورة الحجر: 28:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ».

4- سورة الاسراء: 61:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا».

5- سورة طه: 115:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَي آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَي إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَي وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَي فَوَسْوَسَ إِلَّيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَي شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّايَبْلَي فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي ثُمَّ اجْتَبَاهُ

رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَي قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُديً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ …».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 312

6- سورة الاعراف: 11- 25:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكِةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ …»

7- سورة ص: 71- 75:

«إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ …»

وقبل الاستعراض التفصيلي لهذه الطائفة نذكر عدة ملاحظات:

1- إن هذه الواقعة العجيبة التي يذكرها اللَّه جلّ وعلا لعباده تحتوي علي معانٍ جليلة وعظيمة وتستحق وقفة مطولة.

2- إن ستة سور من التي وردت فيها القصة مكية، وسورة واحدة مدنية وهي البقرة.

3- إن العنصر المشترك المتكرر في كل هذه الموارد السبعة هو أمر الملائكة بالسجود لآدم وامتناع ابليس عن ذلك.

4- تمتاز سورة البقرة بورود نص الاستخلاف فيها ومناقشة الملائكة فيه، وهذا لم يتكرر في الموارد الاخري.

5- قد رتبنا السور المكية التي ورد فيها هذه القصة حسب النزول.

وسوف تكون دراسة هذه الحادثة في مقامات أربع:

أولًا: دراسة الألفاظ الواردة فيها … ص: 312

نبدأ بدراسة الواقعة كما وردت في سورة البقرة والتدقيق في المعاني الواردة فيها:

* الملائكة: وهو وإن كان جمع معرف باللام ويفيد العموم أي جميع الملائكة إلا أن بعض الروايات تشير إلي أنهم قسم من الملائكة لا أقل من نمط جبرئيل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 313

وميكائيل واسرافيل وعزرائيل، لكن ادخال عنصر غيب السماوات والارض يدل علي أن الملائكة في الواقعة لم يكونوا صنفا خاصا منهم بل عموم الملائكة إذ أن ما غاب عنهم هو خاف علي كل السماوات والارض. كما ان الخطاب للملائكة بإخبارهم

عن جعلٍ عام وهو جعل الخليفة، ولم يخصص بآدم.

* في الارض: وفيه احتمالات ثلاث:

أ- أن تكون متعلقة ب (خليفة).

ب- أن تكون متعلقة بالضمير المستتر في (خليفة) لأنها مشتق.

ج- أن تكون متعلقة ب (جاعل).

فعلي الاحتمال الاول يكون المعني أن الخليفة مقيد في الارض، فدائرة الخلافة تكون محددة حينئذ بالأرض.

وعلي الاحتمال الثاني تكون دائرة الخلافة مطلقة غير محددة، والمستخلف مقيد بكونه أرضيا فهو انسان أرضي دائرة خلافته مطلقة غير محددة فتشمل كل عالم الخلقة.

وعلي الاحتمال الثالث فحيث أن (جاعل) تتعدي إلي مفعولين الاول (في الارض) والثاني (خليفة) فيكون المعني اخبارا من اللَّه عز وجل أن الذي هو في الارض قد جعلته خليفة علي نحو «جعلت الآجر بيتا».

أما الاحتمال الاول فهو بعيد حيث أن من البعيد جدا تقيد الخلافة في الأرض وذلك لمجموعة من القرائن نستوحيها من الآية نفسها:

أ- أن العلم الذي يمتلكه هذا الخليفة علم خاص يفوق علم الملائكة إذ أنه علم محيط بكل الاشياء حتي التي لا ترتبط بالواقع الأرضي- كما سوف نتبين ذلك لاحقا- فلو كانت خلافته محددة بالارض فما هو الحاجة لهذا العلم ثم ما هو الداعي لاظهار تفوق علمه علي علم الملائكة بخلاف ما إذا كانت دائرة الاستخلاف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 314

غير محددة بالارض.

ب- إن إسجاد الملائكة لآدم يدل علي الهيمنة التكوينية للمطاع بإذن اللَّه، وهذه الطاعة وتلك الهيمنة إنما هي وليدة العلم بحيث أن الملائكة تستقي علومها منه كما سوف يأتي التدليل عليه، ومعلوم أن شؤون الملائكة ليست منحصرة بالارض بل بكل عالم الخلقة، فهذا يدل علي أن دائرة الخلافة غير مقيدة بالارض بل هي تشمل كل عالم الخلقة غايتها هذا الموجود كينونة بدنه هي في الارض.

وقد يستشكل أنه لو كانت خلافته

عامة لكل عالم الامكان فكيف يجعل متأخرا عن الملائكة أي كيف تتأخر خلقته عنهم؟؟ والجواب: ان خلقته غير متأخرة عنهم وأنما المتأخر هو وجوده الارضي أما أصل الخلقة فإنها لم تتأخر عنهم كما سيتضح ذلك لا حقا.

ج- استنكار الملائكة وتساؤلهم لم يكن دائرا حول دائرة الاستخلاف بل حول الموجود الارضي، فهي فهمت أن هناك ذاتاً في الارض سوف تكون هي الخليفة فجاء الاستنكار، وبعبارة أخري أن مقتضي كلامهم (أتجعل فيها من …) هو تعلق (في الارض) بالجعل.

د- إن مقتضي تقدم الجار والمجرور علي لفظة الخليفة، مع صلاحية تعلقه بالعامل المتقدم يعين تعلقه به وخلاف ذلك يحتاج إلي قرينة.

* أما بالنسبة إلي (جاعل) فإنها تأتي بمعنيين أحدهما بمعني موجد وهو يتعدي إلي معمول واحد، والاخر يعني الصيرورة وهو يتعدي إلي معمولين، والاقرب ان يكون الوارد هنا الثاني، ومعمولاه هما (في الارض) و (خليفة) وهذا يؤدي نفس المعني الذي نتوخاه وهو عدم تقييد وتحديد دائرة الخلافة في الارض.

إن اصل المعمولين مبتدأ وخبر فلو قدرنا المبتدأ (خليفة) والخبر (في الارض) فمقتضاه انه ليس في صدد جعل الاستخلاف بل هو أمر مفروغ منه، وأنما هو في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 315

صدد الاخبار عن الجعل الارضي لهذا الخليفة، أما لو كان العكس فإنه يعني أن كونه في الارض أمر مفروغ عنه والجعل والاخبار عن الاستخلاف، والاول أنسب وذلك لأن مسائلة الملائكة هو عن كينونته في الارض وعن هذا القيد الذي يظهر انه مجهول بالنسبة إليهم.

ويحتمل أن يكون الجعل بمعني الايجاد فيأخذ معمولا واحدا، هو (في الارض) وخليفة صفة له، وقد يعترض عليه أن هذا التركيب يشبه قولك إني جاعل في البيت مسئولا أو إني جاعل في المؤسسة مديرا وهذا تقيد للمسؤولية

والادارة؟؟ والجواب: أن هنا مناسبة بين المؤسسة والادارة والبيت والمسئولية في حين أنها مفقودة بين الارض والاستخلاف، كما أن القرائن التي ذكرناها سابقا من التعليم والا سجاد وما يأتي من تعليم الاسماء كلها تؤكد علي ان الاستخلاف دائرته أوسع من الارض، ثم ان هذا الجعل مضافا إلي ظهوره في الاطلاق الزماني والتأبيد ما دام الموجود الارضي أن اعتراض الملائكة حيث يكفي في توجهه صدقه ولو بمقدار البرهة والفترة اليسيرة، فالتخطئة لهذا الاعتراض لابد ان يكون بنحو النفي والسلب المطلق له، وذلك بدوام وجود الخليفة ذي العلم اللدني ما دام الخلق البشري علي الارض.

* خليفة: والاستخلاف الوارد في القرآن علي نحوين: استخلاف عام لنوع البشر والهدف منه إعمار الأرض والعالم الكوني، والثاني استخلاف خاص وهو خلافة الاصطفاء وهي المقصودة هنا وذلك لأن الحق تعالي قد ربط هذا الاستخلاف بالعلم اللدني المحيط، ومثل هذا العلم ليس لدي نوع البشر بل لدي فئة خاصة منتخبة من البشر، ولكن هذا لا يعني الاختصاص بآدم بل قد يعم فئة من بني البشر، نعم هو لا يعم كل البشر.

والفارق بين الاستخلاف والنيابة والوكالة، أن هذه العناوين تقتضي وجود

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 316

طرفين أحدهما يتولي عن الآخر الفعل والعمل إلا أن دائرة التولي إذا كانت محدودة فتسمي وكالة ويتبع ذلك ضيق صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت تسمي نيابة وتزداد صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت أكثر تسمي ولاية، وإذا ازداد اتساعها تسمي خلافة و هي قيام شخص مقام آخر، فيقال خلف فلان فلانا أي حل محله، غاية الامر أنه في عالم الممكنات تكون بدلا عن فقد أي بعد فقد المستخلف في ذلك المقام، أما عندما تكون الخلافة عن الواجب فلا تكون عن فقد بل بنحو

الطولية، فاللَّه مالك الملك في السماوات والارض فهو يملك ويُقْدِر الملائكة علي شي ء، ولا هو فاقد للقدرة بل في عين تملكهم واقدارهم يكون مالكا وقادرا، فهذا الاستخلاف ليس هو التفويض الباطل بل هو اقدار وتمكين من دون تجافٍ وفقد.

فالمستخلف هو اللَّه عز وجل والخليفة يكون هو الرابطة التكوينية بين الذات الأزلية ومورد الاستخلاف، نظير الافعال الاختيارية التي يقدم بها الفاعل المختار المخلوق فإنها إقدار وتمكين من مالك الملوك واستخلاف فيها من دون عزلة ولا إنحسار لقدرة واجب الوجود.

وأخيرا فإن عنوان الخليفة غير عنوان النبوة والرسالة بل يكون أهم شأنا منها لأنه يقوم مقام اللَّه ويخلف اللَّه بخلاف العنوانين.

* قال: إني أعلم ما لا تعلمون.

إن اعتراض الملائكة يدل علي انهم تصوروا أن الهدف من ايجاد آدم هو اعمار الارض ولكن الآية تبين خطؤهم في فهمهم، ومحط اعتراض الملائكة أن من يصدر منه الافساد وسفك الدماء أي من يصدر منه الزلل والخطأ لا يتساوي مع من يكون معصوما عن الخطأ، فهم أحق بخلافته من هذا الموجود، وكان الجواب أن هذا الاعتراض منشؤه الجهل، حيث أن العصمة العملية ليست هي العاصمة فقط عن الزلل بل المهم هو العصمة العلمية التي تكون عاصمة حينئذ عن الزلل العملي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 317

أيضا، فالجهل العلمي هو الذي يسبب الوقوع في الاخطاء والزلل، ومن هذه الآية نعرف السر في حث القرآن علي طلب العلم واستخدام العقل حيث أن التقدّس والتعبد غير مانع وعاصم من الوقوع في الخطأ بل العلم التام والصحيح هو العاصم الأتم، وبذلك يمكننا القول أن سؤال الملائكة ليس اعتراضا فهم مسلمون للَّه وخاضعون إليه إلا أنه سؤال استفهامي ناتج عن عدم احاطتهم بكل شي ء فتصوروا أنهم أكثر أهلية لهذا

المقام.

* الاسماء: وهو جمع محلي باللام مفيد للعموم، والكلام في المراد من هذه الاسماء فذهب البعض إلي انها المعاني المختلفة، وبعض إلي أنها أسماء المعاني كلها، ولكن التدبر في الآيات الشريفة لا يساعد علي الاقتصار علي أيٍ منها وذلك:

- أن العلم بهذه الاسماء أوجد امتيازاً لآدم علي الملائكة وبه استحق الاستخلاف، وإذا كان هو ما ذكروه من المعلومات الحصولية فإن آدم بتعليمه للملائكة يصبحون في مستوي واحد، بل قد يكون تدبر اللاحق اشرف من السابق وعليه لا موجب لاستحقاق الافضلية لآدم علي الملائكة.

- أن الاسماء لو كانت هي اللغات وأسماء هذه المعاني المتداولة فإن الحاجة إليها إنما هو لانتقال المعاني والمرادات بين الناس، والملائكة ذات كمال أعلي وأشرف من ذلك فإنها تطلع علي النوايا من دون حاجة إلي الألفاظ فأي كمال تحصل عليه الملائكة في إنبائها بهذه الاسماء.

- أن هذه الاسماء أرفع من أن تصل إليها الملائكة مع تنوع شئونها ووظائفها حيث أنها جاهلة بها، خصوصا أن الملائكة كانت عالمة بشؤون الارض ولذا سألت عن هذا الموجود الارضي فلا يخفي عليها شأن من شؤون الارض، فلا بد أن تكون هذه الاسماء غير أرضية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 318

- في الآية اللاحقة عندما عرض اللَّه جل وعلي المسميات أو الاسماء علي الملائكة أشار إليها باسم الاشارة (هؤلاء) وهو يستخدم للعاقل الحي الحاضر ولا يقال للمعدوم ولا للجماد، وكذا استعمل ضمير الجمع للعاقل (هم) في جملة (عرضهم) وفي جملة (انبأهم باسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم).

- إن تميز آدم عن الملائكة ظل حتي بعد إنباء الملائكة بهذه الاسماء أو بأسماء الاسماء.

- إن آدم لم يعلم الملائكة بهذه الاسماء بل أنبأهم والإنباء غير التعليم إذ أن التعليم هو العيان الحضوري، أما

الانباء فهو إخبار بالعلم الحصولي.

- التعبير عن هذه الاسماء أنها (غيب السماوات والارض) فالاضافة هنا لامية وليست تبعيضية أي غيب للسماوات والارض لا أنه غيب من السماوات والارض أي ما وراء السماوات والارض وأنها كانت غائبة عن الملائكة بل خارجة عن محيط الكون.

وهذه القرائن والشواهد تدل علي حقيقة واحدة:

أن هذه الاسماء لمسميات و وجودات شاعرة حية عاقلة عالمة أرفع مرتبة وأشرف وجودا من الملائكة، بل هي اشرف من آدم لأنه بالعلم بها استحق الخلافة، فهي اشرف مقام في الخليقة.

* العلم: أن العلم الذي تعلمه آدم من قبل الحق تعالي لم يكن بالتعليم الكسبي الحصولي إنما هو بالعلم الحضوري، وهو نوع من الارتباط والرقي للروح إلي عوالم عالية حيث ترتبط الروح بتلك العوالم العلوية عيانا وحضورا، والحديث هنا ليس في مقام الرسالة والنبوة بل في مقام الخلافة وخليفة اللَّه.

إذن فالعلم المذكور هنا هو خارج حد الملائكة، لذا نفي التعليم عنهم حتي بعد إنباء آدم يدل علي ان هذا المقام هو غير مقام النبوة بل هو مقام الامامة والخلافة كما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 319

ترتب عليه إطواع وإتباع الملائكة له.

ثم أن هذا التعليم لآدم كان قبل دخوله الجنة وقبل نزوله للأرض كما يتفق عليه المفسرون أي قبل أن يكون مقام النبوة لأدم، وقد يقال أن من إنبائه للملائكة يدل علي كونه نبيا لهم لكن هذا ليس من قبيل النبوة الاصطلاحية للأرض حيث التكليف والعمل، وإنما الانباء هاهنا من قبيل التعليم اللدني الذي هو فوق مقام الملائكة.

ويذهب البعض إلي القول أن الخلافة التي جعلت عنوانا لهذا الموجود هي خلافة عن النسناس الأرضي وهذا خطأ فاحش بل بقرينة الانباء المزبور هو مقام خلافة اللَّه عز وجل أي بمعني الاقدار من

قبله عز وجل.

ومما يدلل علي أن العلم الوارد ليس علم النبوة والرسالة أن في هذا العلم لا يحتمل واسطة ملكية بين اللَّه وبين آدم بينما في علم النبوة يحتمل واسطة الملك ويمكن وقوعها.

فهذه القرائن تدل علي أن هذا العلم الذي تعلمه آدم نحو من العلم الحضوري الخاص، وأنه استحق به مقام الولاية والرتبة التكوينية، وهو فوق مقام النبوة والرسالة.

* إن كنتم صادقين.

إن القرآن في حديثه عن الصدق يذكر له مراتب من مقام الصديقين والصديق وهذه المراتب ليس في قبالها الكذب الاصطلاحي، بل هي مراتب اشتدادية في نفس الصدق وقد أشرنا قبل إلي قوله تعالي «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا» حيث ذكرنا أن اللَّه أصدق من سيد الكائنات وهذا لا يعني أنه كاذب- والعياذ باللَّه- فالاصدق دوام كلامه وسعته أكثر من الآخر، والامر الذي نريد التأكيد عليه أن مراتب الصدق لا يقابلها الكذب فالآية لا تدل علي كذب الملائكة بل تشير إلي عدم واقعية ما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 320

حسبوه وتوهموه.

وهناك روايات تبين كيف الطريق إلي أن يكون الانسان من الصديقين وهو مقام أوسع من الصدق الخبري والمخبري، فالذي يكون أكثر علما وأكثر احاطة يكون أصدق من الاقل علما وذلك لان الاول يكون علمه محيطا والآخر أقل احاطة فتأتي علومه غير مطابقة، فالمقصود أن المراد هنا من الصدق الاحاطة وعدمها لا المطابقة للواقع وعدمها.

ونظير ذلك ما تصف الروايات بعض آيات القرآن أنها أصدق من آيات أخري وأكثر احكاما وأكثر حقا، وهذا لا يقصد منه بطلان الآيات الاخري بل يقصد منه أن تلك الآيات اكثر احاطة بالواقع فتكون أصدق وأحق وأحكم.

فالملائكة في هذه الآية يخبرون عن أحقيتهم وأهليتهم للخلافة في الارض حيث انهم أنبئوا عن استحقاق ذلك لمن

تكون له العصمة العملية لا أنهم يخبرون عن واقع بل من باب المسائلة.

* الإنباء: بناء علي ما ذكرنا سابقا من أن استخدام الحق تعالي للالفاظ المختلفة ليس من باب التنوع اللفظي والنثر البلاغي، بل القرآن كتاب حقائق، وتغير اللفظ من موضع إلي آخر يدل علي تغاير في المعني الحقيقي المراد للحق تعالي.

فنلاحظ هنا أن الباري تعال أسند تعبيرين لهذه الاسماء أحدهما: وعلم آدم الاسماء كلها، والآخر: قوله للملائكة (أنبئوني) وأجابت الملائكة (لا علم لنا إلا ما علمتنا) فأمر آدم بانبائهم باسمائهم، فالارتباط بين الحق تعالي وآدم كان بالتعليم أما عندما أخبر آدم الملائكة كان بالانباء. وهذا التغاير يدل علي أن الملائكة لم ينالوا العلم الحقيقي بهذه الاسماء.

والسر في هذا التغاير هو أن التعليم عياني حضوري، والانباء إخبار من وراء حجب الصور والمفاهيم وما شابه ذلك، فإضافة آدم مع ربه من نحو العلم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 321

الحضوري، وأما الاضافة بينه وبين الملائكة فهي اضافة انباء وهي درجة نازلة عن العلم، ومن القرائن علي تلك المغايرة:

- أن الملائكة لو كانت قابلة لتعليم الاسماء لأصبحوا في الشرف سواء مع آدم، ولما كانت لآدم مزية عليهم فالملائكة لم يستحصلوا علي ذلك العلم إلي آخر المطاف، خصوصا إذا لاحظنا أن الاهلية للخلافة غير منوطة بالاسبقية الزمانية للحصول علي العلم بل الاهلية هي بالعلم وهي حاصلة لآدم.

- فاطلاع الملائكة لم يكن بالعلم اللدني ولو كان كذلك لما كانت حاجة لانباء آدم.

فالخلاصة أن الملائكة بعد إنباء آدم أصبح لديهم علما حصوليا بتلك المسميات.

* غيب السماوات والأرض: ذكرنا في بحث الاسماء أن الاضافة في غيب السماوات هي اضافة لامية أي غيب للسماوات والارض، وقد جعل بعض العامة أن المراد بهذا الغيب هو ما

كتمته الملائكة لكنه غير تام وذلك لأن قوله تعالي «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» «1»

من عطف المغاير زيادة علي الجملة السابقة إذ (ما تبدون) ليس من الغيب أصلا، وما كانت تكتمه هو أنها كانت تري أنه لا يوجد من هو أقرب منها إلي اللَّه كما يفهم من مفاضلتها ذواتها علي مطلق من هو غيرها من المخلوقات، فليس هذا المراد من غيب السماوات والارض بل المراد منه أمر ليس بجزء من السماوات والارض.

ومقابل الاضافة اللامية التبعيضية أي خصوص غيب هو جزء من السماوات والارض وهو ينطبق عل الكونية المستقبلية لكن المورد ليس من هذه الموارد التي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 322

تكون الاضافة تبعيضية، وذلك لأنه مقام اظهار قدرته تعالي واحاطته وعجز الملائكة، وتمام العجز أن هذه الاسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والارضي خارج محيط الكون، ومما يبعد معني التبعيض وأن الغيب بمعني المستقبل الذي هو جزء السماوات والارض أنه قد عرضهم علي الملائكة فهي موجودات بالفعل لا مستقبلية، وهذا مما يعزز أيضا أن المراد غيب فعلي عن السماوات والارض، فإذن هي موجودات أحياء فعلية خارج إطار السماوات والارض.

* أية السجود: وفيها موقفان يجب التأمل فيهما، أحدهما: أمر اللَّه عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، والآخر هو إباء ابليس واستكباره وكونه من الكافرين.

أما الامر الاول وهو السجود ففيه عدة نقاط:

- أن التساؤل يثار عادة هل أن السجود لغير اللَّه تعالي صحيح أم لا؟ وهذه مسألة كلامية فقهية نتعرض لبعض جوانبها ومن ثم نذكر ما يمكن استيحاؤه من الآية الكريمة.

ذهب بعض الفقهاء إلي أن السجود ذاتيه العبادة، فأينما وقع فهو عبادة فلا يجوز ايقاعه لغير اللَّه تعالي لأنه هو المعبود حقيقة، ولذا يذهبون إلي تأويل ما ورد في

القرآن الكريم من السجود لغير اللَّه تعالي إلي أنها تحمل علي مطلق الخضوع والخشوع لا اداء تلك الحركة المعينة، لأنه من المحال أن يأمر اللَّه تعالي بعبادة من ليس أهلا للعبادة فهو شرك وقبيح، ويستشهدون بما ورد من الأثر عن النبي صلي الله عليه و آله:

«لو كنت أمرا أحدا بالسجود لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، وهذا يعني عدم جواز الأمر بالسجود.

والجواب عنه: أن المستدل يستدل بوجهين أحدهما أن السجود ذاتيه العبادة، والآخر نهي الشارع عن السجود لغير اللَّه.

أما الاول: فكون السجود- لو كان بمعني الهيئة الجسمانية المخصوصة- ذاتية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 323

العبادة أول الكلام، بل أن السجود مظهر ومبرز للعبادة وفرق بين الأمرين، والشاهد علي ذلك أن تلك الهيئة المعينة قد يوقعها الإنسان و مقصوده الرياضة أو الاستراحة أو أي أمر آخر، وهذا يدل علي أن العبادية فيها متقومة بالقصد لا أن الهيئة متي وقعت كانت عبادة، وعليه نقول أن تلك الهيئة لو وقعت بقصد الاكرام والاحترام لا بقصد الخضوع العبادي فلا تكون عبادة، وقد مورس هذا النوع من التكريم والاحترام في الشعوب القديمة حيث كان يسجد للسلطان والملك كما في عهد النبي يوسف عليه السلام، ولم يكن في البين عبودية وهذا يدلل علي أن تلك الهيئة ليست ماهيتها التكوينية العبادة، مضافا إلي أن أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون الركوع عبادة مطلقا، ويجوّزون وقوعه لغير اللَّه إذا كان القصد منه الاحترام والتكريم.

وبعبارة أدق أن الخضوع تارة عبودي وأخري مطلق الاحترام والتكريم والتعظيم، والفارق بينهما أن الخضوع إن كان بقصد ان المخضوع له ذات واجبة الوجود بنفسه خالق متصف بجميع الكمالات بالذات فهو عبادة، وإن كان لا بقصد منتهي الخضوع ولا ان المخضوع له ذات مستقلة

الوجود فلا يكون عبادة.

بل أن القبح يزول عن هذه الهيئة عندما يكون الآمر إلي هذا السجود هو اللَّه عز وجل، بل يعد السجود لهذا الشخص هو منتهي الامتثال والخضوع لأوامر اللَّه، بل هو منتهي الفناء والابتعاد عن أنانية الذات، والحق تعالي عندما يأمر بالسجود لا يكون أمرا بمعني العبادة لغيره إذ أنه مستحيل، بل العبادة للَّه تعالي بتوسط الاحترام والخضوع لخليفته تعالي، وهذا ما توضحه كثير من الاخبار والآثار الواردة في ذيل السجود ليوسف عليه السلام، وفي آية «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ» «1»

، إذ ليس

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 324

المراد السجود لبيت موسي بل هو سجود للَّه وإكرام واحترام للشخص.

أما الوجه الثاني: فابتداء ليتنبه إلي أنه غير الوجه الاول إذ أنه يتم ولو فرض التنزل بأن السجود ليس ذاتيه العبادة فهو منهي عنه من قبل الشارع ايقاعه لغير اللَّه. وبذلك لا نحتاج إلي تأويل آيات السجود في القرآن، بل بأن السجود بهذا المعني لم يكن محرما في شريعة يوسف وموسي عليهما السلام، وعلي كل حال نقول أن السجود بمعني العبادة لغير اللَّه منهي عنه من قبل الشارع.

أما الآية الكريمة التي نحن بصددها فإنه- علي ما ذكرنا- لا حاجة لتأويل السجود إلي معني الخضوع والاحترام وما معناه، ولا حاجة إلي القول أن السجود علي معناه الحقيقي ولا مانع منه لأنه لم يكن محرما إلا في شريعة الخاتم، لا حاجة إلي كل هذا بل نقول ان السجود لا مانع منه حيث لم يوقع بقصد العبادة.

مضافا إلي أنه لو كان منهيا عنه فيمكن أن يأمر اللَّه تعالي به في هذا الموضع ويكون تخصيصا للنهي العام عن السجود لغير اللَّه ولا مانع من تخصيص العام- علي الوجه الثاني- حيث أن السجود

كان تكريما لآدم، وقد أشارت الروايات من الفريقين إلي أن ابليس كان ومازال يستطيع التوبة بالسجود لآدم فلو سجد لتاب اللَّه عليه، وهذا من سعة حلمه تعالي بعباده إلا أن ابليس أخذته العزة بالاثم فأبي عن السجود.

2- ومن أجل الوصول إلي المعني المراد من السجود في الآيات الكريمة نستعرض عدداً من النقاط:

أ- نعيد التذكير بأن القرآن كتاب حقائق فعندما نلاحظ لفظ كرر عدة مرات فلا يمكن القول أن التعبير به أمر أدبي بل يكون إشارة إلي ماهية معينة أراد الحق تعالي إفهامها لخلقه وهذا هو ما ذكرناه سابقا في مقدمة البحث.

ب- عبر في آية 29 من سورة الحجر «فَقَعُوا» حيث لم يكتف بذكر مادة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 325

السجود بل عبر بالوقوع الفوري وهذا فيه نوع من التشديد والتأكيد لمعني الخضوع والتعظيم.

ج- أن حادثة السجود هي الحلقة المتصلة بين هذه السور السبعة فقد كررت في كل الآيات بخلاف بقية مقاطع قصة آدم.

د- أن لفظ السجود ومشتقاته تكرر كثيرا حتي في الآية الواحدة مثلا في سورة الحجر كررت 5 مرات وفي الاعراف 4 مرات وفي الاسراء وص كرر 3 مرات، وهذا التكرار لهذه اللفظة لابد له من وجه لا أنه مجرد التحسين اللفظي والأدبي، بل يدل علي محورية هذه الماهية وجعلها فيصلا بين الطاعة والمعصية.

ه- في بعض الآيات ورد التأكيد علي أن الامر بالسجود كان لجميع الملائكة ولم يكتف بدلالة الجمع المحلي بأل (الملائكة) بل أردف بالتأكيد ب (أجمعون) و (كلهم) للدلالة علي الاستغراق.

و- إنه عندما رفض ابليس السجود لآدم عبر عن ذلك «أَبَي وَاسْتَكْبَرَ» أي أن منشأ عصيان إبليس هو الإباء والاستكبار وفي مقابله طاعة الملائكة الذي يقابل الاباء والاستكبار وهو الانقياد والمتابعة والخضوع، فمعني السجود

المأمور به فيه زيادة علي معني الاحترام والتكريم بل هو اظهار لمطلق الانقياد (غير العبادي) لآدم، و ابليس لم يستكبر عن عبادة اللَّه في الصورة بل استكبر عن أمر اللَّه بالانقياد لآدم حيث زعم أن آدم أقل مرتبة منه.

ز- أن قوله تعالي في خطابه لابليس «مَالَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» منطو علي ظريفة لا تحصل من التعبير بلفظ الملائكة أو الضمير ما منعك ان تكون معهم إذ وصفهم بالساجدين لبيان حالة الانقياد وهو السجود.

ح- نسبة آدم للَّه جل وعلا «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي» فيها تشريف لأدم وأن خلقته وتسويته مباشرة من اللَّه من دون توسيط الملائكة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 326

ط- يظهر من بعض الآيات الحاكية لهذه الواقعة أن الامر بالسجود وقع مباشرة بعد خلقة آدم من دون وجود تراخي «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» وهذا يدل علي التلازم والفورية وأن لا تمر فترة من بعد الخلقة من دون انقياد الملائكة به.

ي- أن تكرار هذا المقطع بالذات من دون بقية المقاطع فيه دلالة مؤكدة علي أن ما جري من الواقعة هو من باب المقدمة لهذا الأمر، وأن كل ما مضي كان اعداداً لها وبتعبير آخر أن المحاورة من إخبار الملائكة بالخلق وغيره كله جري تمهيدا وبيانا لمقام هذا المخلوق الجديد حتي لا يكون الامر بالسجود مفاجئا للملائكة ولا تنفر منه ذواتهم.

فهذه 10 قرائن وملاحظات عامة علي التعابير الواردة في هذا المقطع، أما ما يمكن استظهاره من المعاني في هذا الشأن فهو:

1- كما ان انباء آدم للملائكة تعبير عن الهداية الا رائية وأنه استكمال لهم لولاه لما حصل لهم ذلك العلم، فإن السجود لآدم هو تعبير عن الهداية الايصالية والمتابعة العملية التي بدونها لا

يحصل لهم أي كمال، وهذا الانقياد لم يكن لمجرد مخلوق بل إنما هو لمقام الخلافة الذي جعله اللَّه تعالي لآدم فلازم مقام الخلافة عند اللَّه هو متابعة وانقياد الملائكة والجن (بناء علي القول المشهور ان ابليس من الجن) وهذا هو مفاد الامامة وهي المتابعة العملية والعلمية والهداية الا رائية والايصالية، ويثبت بذلك أن شؤون الامامة ليست للناس فقط وإنما هي تشمل الملائكة والجن.

2- أن حدود إمامة آدم لا تقتصر علي البشر بل تشمل الملائكة والجن أيضا.

3- أن القرآن الكريم قد أثبت للملائكة وظائف وشؤون متعدد منها الحفظة، انزال الذكر، قبض الأرواح، نشر الرياح، اللواقح، المقسمات، نصرة الرسل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 327

وتأييدهم، تسبيح اللَّه …

ونتيجة أن علمهم كان من آدم وأن عليهم متابعة آدم والانقياد له وأنه حاز مقام الخلافة فهذه كلها تدل علي أن لآدم الولاية التكوينية علي الملائكة، وتكون شؤون الملائكة كلها تحت يده وفي تصرفه.

4- أن خلافة آدم ليست خلافة مقيدة بل خلافة مطلقة ونستطيع أن نطلق عليها أنها خلافة اسمائية للَّه عز وجل وذلك لأنه بالعلم بالاسماء الشاعرة الحية العاقلة استحق مقام الخلافة، وأسماء اللَّه لها تأثير في عالم الخلقة حيث أنها حقائق حية واقعية مهيمنة، حيث أن أفعال اللَّه تعرف باسمائه وهي آثار وتوابع اسمائه فتكون بذلك كل القدرات الموجودة في عالم التكوين محاطة بها وهو ذلك المقام.

وبالطبع ليس هذا الثبوت بنحو التفويض الباطل العزلي بل هو اقدار من اللَّه سبحانه وتعالي في عين ثبوت القدرة المستقلة الازلية للَّه عز وجل.

الأمر الثاني: إباء ابليس

* إن من المسلم به أن ابليس كان في جمع الملائكة عندما خاطبهم اللَّه وأمرهم بالسجود لآدم، أما أن ابليس هل هو من الجن أو الملائكة فقد كان موضع خلاف

وتعبير القرآن أنه من الجن «كَانَ مِنَ الْجِنِّ» وهذا وإن كان له تفسيران أنه كان من الملائكة فصار من الجن وأن (كان) هنا بمعني صار، أو أن يقال أنه من الجن وإنما تواجد في جمع الملائكة لأن اللَّه جل وعلا، كان يكلفه بوظائف الملائكة وهذا نوع تشريف لابليس، والروايات الواردة تشير إلي أن لابليس قبل الامتحان مقاما رفيعا ويدل عليه انضمامه في الخطاب الموجه للملائكة، كما أن تشريفه بالخطاب الالهي يدلل علي أنه كان من الموحدين، والمؤمنين باللَّه وبعالم الغيب والمعاد «أَنظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» وأما انباء آدم للملائكة فقد كان حاضرا بمقتضي تواجده معهم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 328

ومقتضي ذلك أن ابليس استحق الكفر لأنه لم يؤمن بالامامة، مقام خلافة اللَّه، وبالتحديد لعدم طاعته للَّه عز وجل في الائتمام والانقياد لمن جعله اللَّه اماما، ولم يذكر لابليس فعلا وعصيانا آخر استحق به هذا العقاب، وكانت النتيجة أن مصير ابليس هو جهنم وأن كل ما عمله قد ذهب سدي وهباء.

فهذا يثبت أحد معتقدات الامامية وهي ان النجاة مرهونة بالائتمام بخليفة اللَّه في ارضه، وقد وصف ابليس بالكفر وهو علي درجات، و يراد منه هاهنا الكفر الاصطلاحي الذي يقابل أصل الايمان ويستوجب الخلود في النار.

والكفر علي قسمين: أحدهما بحسب الواقع دون الظاهر، والآخر بحسب الواقع والظاهر معا، والظاهري هو ما عليه الكفار الآن، واما الأول فهو ما نشاهده من المقصرين الذين اطلعوا علي الادلة الحقة إلا انهم لم يؤمنوا «قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» «1»

، فهؤلاء وإن كانوا في الظاهر غير كافرين إلا أنهم بحسب الواقع كافرون، ويعاملون في الآخرة علي طبق الواقع الحقيقي، وأما في هذه النشأة والدار

فيعاملون معاملة ظاهر الاسلام، فالامامة مرتبة من مراتب التوحيد والايمان فهي توحيد في الطاعة كما ذكرنا ذلك مرارا في الفصل الاول، وبالتعبير الوارد في هذه الواقعة رأينا أن الكفر أطلق في قبال الائتمام كما اطلق في مقابل الايمان والتوحيد.

* كما أننا نلاحظ أن من أصعب الامتحانات الالهية في العقيدة هو الايمان بالامامة حيث أن هذين الموجودين الملائكة والجن لا يظهر منهم أي تمنع من الاستجابة لنداء التوحيد والنبوة بخلاف الامامة وهو الانقياد المطلق لخليفة اللَّه والخضوع و السجود إليه حيث تمنع ابليس عن ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 329

وبتعبير آخر أن أكمل مراتب التوحيد والايمان هو الامامة أي أن بها تمام التوحيد لا بمعني أنها الأصل والباقي فرع.

ثانياً: الفوائد … ص: 329

بعد هذا الاستعراض للمقاطع الواردة في هذه الآيات الشريفة نستعرض الفوائد التي نقتطفها من هذه الآيات:

الفائدة الاولي: يمكن القول أن هذه الآيات تعتبر من أمهات الآيات الوارد ذكرها في قوله تعالي «هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ» وذلك لأنها تبين ركناً من أركان النجاة الاخروية، وتبين كيفية بدء الخليقة ومقام خليفة اللَّه.

الفائدة الثانية: أن المفاد الاجمالي هو استخلاف اللَّه عز وجل لخليفةٍ أحد مصاديقه آدم وهذه الخلافة مطلقة غير مقيدة بقيد وهي خلافة اسمائية كما بيناه.

الفائدة الثالثة: أن هذا المقام الذي يبينه الحق تعالي في هذه الآيات ليس مقام النبوة والرسالة وإن كان يتصادق معهما بل ينطبق علي مقام الامامة، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في شرح الخطبة القاصعة.

الفائدة الرابعة: أن الخلافة ليست محدودة في الارض وغير مقيدة بهذه النشأة وإن كان المستخلف ذات بدن وسنخه أرضيا.

الفائدة الخامسة: الذي يظهر من الآيات الكريمة أن آدم كان قد تلقي العلم اللدني قبل نزوله الارض بل قبل دخوله الجنة، وهذا يدفعنا للقول

أن الموجود الانساني حقيقته ليست جهته البدنية التي يحيا بها علي هذه الأرض بل إن له مدي أعمق من ذلك، وأن وراء تلك الحقيقة البدنية الأرضية حقيقة بعيدة عن عالم البدن هي الروح تكون- بشهادة قصة آدم- سابقة علي الوجود الأرضي مخلوقة قبل خلق البدن، وهذا هو المقدار الذي اتفق عليه كثير من الفلاسفة من لدن أفلاطون وحتي صدر المتألهين وإن اختلفوا بعد ذلك في كيفية التقدم وتفسير ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 330

التقدم وحدوثه أو قدمه علي نظريات مختلفة، لكن القدر المتفق عليه بينهم أن خلق الارواح كان قبل خلق الابدان بمعني ما، وإن عبّر المشاؤون بأنها حادثة بحدوث البدن.

فهذه الروح أيضا ذات درجات مختلفة تبعا لاختلاف درجات العلم كما يظهر من قصة آدم، ووجود هذه الروح يتلاءم مع تفسير العلم أنه من سنخ المجردات.

وأخيرا نود ان يسائل الانسان نفسه إذا كان تلك حال آدم وروحه المقدسة ودرجاتها العالية فكيف يكون الحال مع من تكون حقيقته الاسماء التي أشير إليها بلفظ (هؤلاء)؟!

الفائدة السادسة: أثبتنا سابقا أن ملاك استخلاف آدم هو العلم اللدني الذي تلقاه من الحق تعالي.

الفائدة السابعة: أن متعلق العلم الذي تلقاه آدم حقائق نورية حية عاقلة شاعرة جامعة للعلوم وهي غيب السماوات والارض، وما ورد في بعض روايات العامة والخاصة من أن المراد بالاسماء هي مسميات كل الاشياء في عالم الخلقة فهو لا يتنافي مع ما نذكره، وذلك لأن الفرض أن العلم بالمعلومات التي هي جوامع ومحيطة بما تحتها من مصاديق وأنواع وأجناس، فيكون متعلق العلم اللدني جامع كل العلوم وذلك بجنسية اللام.

الفائدة الثامنة: ان هذه الآيات تقودنا إلي ما يثبته الامامية من أبدية الخليفة علي وجه الارض ودوام وجود الحجة علي هذه

الأرض إلي أن يرث اللَّه الارض وما عليها. ويتضح ذلك من خلال تساؤل الملائكة عن الخليفة الارضي حيث أنها نظرت إلي الصفات السلبية، فأجاب الحق تعالي أنه يكفي في صحة الاستخلاف وجود انسان كامل تتمثل فيه الحقيقة البشرية، وهو حاصل العلم اللدني وهو خليفة اللَّه في أرضه، فلو فرضنا انتفاء ذلك الموجود الكامل علي وجه الارض فترة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 331

وبرهة زمنية ما لصح اعتراض الملائكة وتساؤلهم وأن ما ذكره اللَّه عز وجل غير متحقق- والعياذ باللَّه-.

الفائدة التاسعة: أن الروايات وردت أن الامامة سفارة ربانية الهية كالنبوة وإن لم تكن نبوة فآدم حل في مقام الخليفة والسفير وهو الحجة صاحب التعليم، وهم ينقادون إليه، فهو ينطبق عليه الحد الما هوي للامامة بدليل اكتمال الملائكة بالعلم الحصولي الذي حصلوا عليه وأنبأهم به آدم وبالانقياد إليه وإلا لما امرهم تعالي بذلك، فهو إمام الإنس والجن.

الفائدة العاشرة: أن الخلافة هنا لا تكون بعزل المستخلف عن الأمر بل هي خلافة مع وجوده تعالي ولا انحسار لقدرته تعالي، بل هو اقدار من جانبه لآدم والخليفة هنا حاو وجامع لصفات المستخلف بنحو التنزل في عالم الامكان لا أن الاستخلاف هو عين تلك الصفات.

الفائدة الحادية عشر: ذكرنا مرارا أن مراتب التوحيد لا تتم إلا بالمرتبة الأخيرة وهي التوحيد في الطاعة، ومن هنا نجد أن الروايات المختلفة لدي العامة والخاصة تشير إلي أن كفر ابليس ليس كفر شرك فهو لم يعبد غير اللَّه، وإنما كان جحده واستكباره عن توحيد اللَّه في مقام الطاعة وقد ورد في بعضها أنه طلب من ربه اعفائه من السجود لآدم وسوف يعبده عبادة لا نظير لها، وجاء الجواب من الحق تعالي: «إني أريد أن أطاع من حيث أريد

لا من حيث تريد» «1»

، وفي رواية اخري «إني أُريد أن اعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد» «2»

، وهذه هي الضابطة المهمة في بحث الامامة فالامامة هي توحيد في عبادة وطاعة الباري من حيث يريد لا من حيث الذوات الاخري تريد.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 332

الفائدة الثانية عشر: أنه ورد في بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام «الناس عبيد لنا» وهذه ليست عبادة ربوبية بل هي خضوع وانقياد وعبودية الطاعة ونكران الذات والانقياد المطلق للسفير الإلهي، وهذا التسليم هو الذي نستفيده من الاسجاد الوارد في هذه الآيات.

الفائدة الثالثة عشر: أن قبول الاعمال مرهون بالتولي لخليفة اللَّه وسفيره، وهذا نستفيده من الغضب الالهي الذي حل علي ابليس لامتناعه عن السجود كما أن عبادته السابقة ذهبت هباء لا اثر لها لعدم التولي والانقياد لخليفته، وقد أشرنا فيما سبق أن قبول الاعمال مرهون بالموافاة أي موت المكلف الحي علي موافاة التوحيد أي أن لا يكفر، وقد ذكرنا أن التوحيد المقابل للكفر الاصطلاحي أحد أركانه التوحيد في الطاعة أي تولي ولي اللَّه. وهذا الأمر الذي دلت عليه هذه الواقعة القرآنية مدلل عليه أيضا في علم الكلام والتفسير.

وبتعبير آخر أن الثواب علي الاعمال هو التكامل، والتكامل هو السير إلي المقامات المعنوية العالية والامام هو صاحب ذلك المقام الملكوتي الذي يسير بالنفوس في سيرها التكاملي من كمال إلي كمال.

الفائدة الرابعة عشر: أن الآية تثبت الولاية التكوينية، وذلك لأن سجود الملائكة لآدم كما ذكرنا لم يكن سجودا عباديا بل طاعتيا وهذا يعني إقداره عليهم، وهذا يعني ولايته علي أهل السماوات والارضين والغيب ومن ثم الاشراف علي كل عمل يسند إلي الملائكة في الكتاب المجيد.

ويجب الالتفات إلي أن المقصود بالولاية التكوينية

هي اقدار من عند الحق تعالي وفي طوله من دون أن يوجب ذلك حصر قدرته وعزله عن مخلوقاته ومن دون ان يؤدي إلي التفويض الباطل ومن دون أن يحيط المخلوق- الذي أقدره تعالي- بقدرة الباري، وحيثية الشرك ناشئة من عزله تعالي وحصر قدرته بل إن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 333

الاعتقاد باستقلالية الممكن استقلالية تامة هو شرك وندية للَّه تعالي أما الاعتقاد بالطولية واقدار اللَّه وأن كل عالم الامكان هو في حضرته تعالي فهو ليس بشرك بل تمام التوحيد في الافعال.

إذن في هذه الآيات بيان لجانب من جوانب الولاية التكوينية وخصوصا إذا لاحظنا أن السجود قامت به كل الملائكة وليس بعضهم، بخلاف المواقف الأخري في الآيات الكريمة حيث أنه كان بمحضر بعض الملائكة كما يظهر من بعض الروايات، أما مقام السجود فإنه كان بحضور جميع الملائكة كما يظهر من (كلهم، اجمعون، اللام في الملائكة) ويؤيده ما ورد في الحديث أن جبرائيل لا يتقدم علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وفي كثير من المواطن يخاطبه الرسول صلي الله عليه و آله عن ذلك، فيعلله من أن اللَّه أسجدنا نحن أجمعون لآدم، وفي صحيح عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: لما مات آدم عليه السلام فبلغ إلي الصلاة عليه، فقال هبة اللَّه لجبرئيل: تقدم يا رسول اللَّه فصل علي نبي اللَّه، فقال جبرئيل: إن اللَّه أمرنا بالسجود لأبيك فلسنا نتقدم علي ابرار ولده وأنت من أبرهم» «1».

الفائدة الخامسة عشر: يستفاد من جعل الخليفة سابقاً علي الخلق (أن الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق) وهو تفسير لما ورد «لولا الحجة لساخت الارض».

الفائدة السادسة عشر: إن امامة آدم وغيره من خلفاء اللَّه وسفراءه مطلقة

وعامة للجميع- البشر والملائكة والجن- وهذا يستدعي بيان مقدمات:

- أشرنا في الفصل الثاني إلي أن الاستخلاف لبني البشر علي نحوين أحدهما:

استخلاف اصطفاء وهو مقام خليفة اللَّه والامامة، والثاني: الاستخلاف العام لنوع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 334

بني الشر وفي هذا النحو اختلفت الآراء في الهدف من هذا الاستخلاف، فذهب جمع من العامة إلي أن الغاية من هذا الاستخلاف هو اعمار الارض تمسكا بظاهر قوله تعالي «هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها» «1»

، ولكن في هذا الرأي مجانبة للحقيقة والواقع وذلك لأن ظاهر كثير من الآيات القرآنية تدل علي خلاف ذلك أو بالاحري تدل علي أن الغاية من الخلقة والاستخلاف في هذه النشأة لا ينحصر بالاعمار، وأوضح تلك الآيات «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» حيث فسرت العبادة بالمعرفة، فالغاية النهائية من الاستخلاف في هذه النشأة هو معرفة الحق تعالي حق معرفته وإطاعته وعبادته بل في قوله تعالي «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ … وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا» اشارة إلي ان الغاية من خلق الانسان ليس خصوصيته الارضية بل هو أمر أعمق غورا، وآيات تسخير المخلوقات له وأن أكرم الخلق هم بني آدم التي تدل دلالة قاطعة علي أنه حشد في هذا المخلوق من الامكانيات والطاقات لا يتناسب مع جعل الغاية هو اعمار جزء عالم الامكان.

- وبتعبير فلسفي عرفاني أن الانسان هو المظهر الجامع للاسماء الحسني، فمظاهر كل اسم من اسماء اللَّه الحسني يمكن أن تتجلي وتظهر في الانسان وفي أفعاله ودرجات وجوده بخلاف بقية الكائنات، ولذا يوصف الانسان بأنه مظهر الاسم الجامع اللَّه، وإن كان هناك أبرز أفراد البشر وهو النبي صلي الله عليه و آله في مظهر اسم الجمع (اللَّه)، أما بقية الافراد مظهر

العليم أو غيرها..

وعليه فالانسان أتم مخلوق وأشرف مخلوق وأكرم مخلوق، فمن غير الممكن أن يكون المخلوق بتلك الامكانيات والقدرات أن يخلق من أجل أمر سافل بل لا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 335

بد أن يكون لأجل شي ء أعلي وهدف أسمي.

وهذا الامر العقلي يتناسب مع ما ذكرنا من ظواهر الآيات القرآنية أن هدف الخلقة ليس هو مجرد اعمار الارض بل يجب ان يكون أمرا أسمي وأعلي، وأن المطلوب من الانسان غير الذي هو مطلوب من غيره، وهذا من باب الكشف الآني.

- أشرنا أيضا إلي أن حادثة السجود حضرها جميع الملائكة بدون استثناء والملائكة هي التي تدير الكون بأمر اللَّه تعالي ورتبتها تفوق كثير من المخلوقات، ومع ذلك فهي تنقاد لخليفة اللَّه فيظهر من ذلك أن الجن وما دون الجن تنقاد أيضا لخليفة اللَّه.

الفائدة السابعة عشر: من الامور التي ركّز عليها في قصة آدم هو مسألة خلق آدم من الطين، وأن اللَّه عز وجل تعمد إخبار الملائكة بذلك قبل أمرهم بالسجود، وهذا يدلل علي أمر مهم وهو أن الملائكة مع أنهم معصومون إلا أن تكاملهم ورقيهم يتوقف علي الامتحان والابتلاء- كما سوف تأتي الاشارة إلي ذلك في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة- وذلك بالامر بالسجود مع علمهم انه مخلوق من طين وهو ليس من جنسهم وهذا فيه تشديد في الابتلاء والامتحان، وما ذلك إلا لأن الطاعة حينئذ سوف تكون خالصة للَّه لا شائبة فيها، فلو كان في خلق آدم مزية علي خلق الملائكة وكان له من النور ما يخطف به الابصار لكانت الطاعة مشوبة لا خالصة. وهذا يرشدنا إلي ما يجب أن تكون عليه الواسطة من كونها لمجرد الارشاد والعلامتية والحرفية للذات المقدسة، وأن لا يري فيها الانسان شيئا سوي

حرفيتها، ولهذا كان التنبيه الدائم علي الطبيعة الارضية لآدم.

فكمال التوحيد وتمامه هو بالائتمام وبه يتم الخلوص في العبادة وهذا ليس شرطا كماليا للعبادة بل يكون شرطا مقوما للتوحيد والعبادة، حيث يري أن كل ما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 336

سوي اللَّه مخلوقا للَّه.

وإذا نظر إليها علي نحو الاستقلالية فإنها سوف تكون ربا، وحال الواسطة حال المعني الحرفي الذي إذا لوحظ في نفسه فلن ينبأ عن معني في غيره، وإذا لم يلاحظ كذلك فسوف ينبأ عن معني في غير ه ويؤدي الغرض منه.

ومن هنا يجب أن تكون الطاعة خالصة للَّه عز وجل لا يري فيها إلا وجه المعبود خالية من الزوائد والشوائب. وهذا لا يكفي فيه الخطور الذهني فقط بل يجب ان يري في نفسه حقيقة العبودية، والخلوص بهذا المعني نستفيده من هذه الآية، وأن ما جري لابليس أنه كان يري لنفسه استقلالية فقال «لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ» فهو رأي أن لا يليق بشأنه أن يسجد لآدم وهذا نحو من رؤية استقلال الذات ونفي للواسطة التي نصبها اللَّه أي نفي للحاظ الافتقار إلي الباري. ومن هنا يظهر ان الايمان أحد محاوره هو الامامة حيث فيها يظهر كيف يقوم الانسان باماتة الذات ودحر الانانية وأن عدم الاعتقاد بالامامة هو بداية الشرك.

الفائدة الثامنة عشر: والحديث حول نفس الوسائط حيث يجب أن يؤمن فيها معني الحرفية وهذا يعني أنهم لا يشيرون إلي ذواتهم وغرور ذاتهم بل هم في حالة خضوع وتذلل لباريهم، وهذا لا يكون إلا بعصمتهم العلمية والعملية، وذلك لأنه إذا نصب واسطة غير معصومة فإنها سوف لا تكون مشيرة إلي الحق تعالي وسوف تظهر نفسها، ولا تظهر عظمة اللَّه، ولدينا في بعض الروايات «أن

من حكم بغير حكم اللَّه فهو طاغوت».

وهنا يجب التدقيق في أن منشأ عدم حكمه بما حكم به اللَّه ما هو؟ والجواب:

هو غرائزه النفسية فذاته طغت علي ما يجب ان تكون عليه الذات الانسانية من حقيقة العبودية للَّه والحرفية له تعالي، وطاغوت صيغة مبالغة من الطغيان، وقال

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 337

في المفردات «أنه كل متعد، وكل معبود ما سوي اللَّه»، أي تعدي حدود نفسه ونظر إليها علي نحو الاستقلالية، والايمان بالطاغوت هو الايمان بذلك الطاغوت وهي الذوات التي ليس فيها اراءه للَّه عز وجل، إذن العصمة هي التي تؤمن لنا أن يكون الواسطة دائما مظهرا للَّه يطوع ارادته لارادة ربه في كل مكان ولا يري لنفسه شيئا.

فيجب علي العابد:

1- أن لا يلتفت إلي ذاته، وأن يري نفسه دائما مخلوقا.

2- أن تكون الوسائط حقة من عند اللَّه لا أن توسطها له من عند المخلوق بل توسطها منتسب إلي اللَّه ولا استقلالية لها في نفسها وأن الواسطة دائما في حالة خضوع وتذلل إلي اللَّه ولا تشير إلي نفسها ومن هنا كان التنصيب للواسطة من عند اللَّه، وكانت الواسطة معصومة حتي لا تري لنفسها مكانا سوي مكان الطاعة والخضوع للَّه عز وجل، بل يجب أن تكون في تمام شئوناتها حاكية عن اللَّه قال تعالي «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ» «1»

.وإذا لم تكن الواسطة آية فسوف تكون حجابا «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ» إذ من الواضح أن المسيحيين لم يؤلهوا أحبارهم وإنما كانوا مستقلين في أحكامهم يحكمون بهواهم ورغباتهم ولم يستقوها من عند اللَّه.

وفي كلام بعض أهل المعرفة والتحقيق عند شرحه للسفرين الاولين من الاسفار الاربعة قال: وفي هذين

السفرين لو بقي من الانانية شي ء يظهر له شيطانه الذي بين جنبيه بالربوبية ويصدر منه (الشطح) والشطحيات كلها من نقصان السالك والسلوك وبقاء الإنية والانانية، ولذلك بعقيدة أهل السلوك لا بد للسالك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 338

من معلم، يرشده إلي طريق السلوك، عارفا كيفياته غير معوج عن طريق الرياضات الشرعية، فإن طرق السلوك الباطن غير محصور بل هو بعدد انفاس الخلائق «1».

والائمة عليهم السلام في حالة خضوع وخشوع وتضعضع للَّه دائما ومن اقترب منهم فقد اقترب من الحق تعالي لأنهم مرآة له وآيات له.

الفائدة التاسعة عشر: أن مقام سفير اللَّه وحجته احد شئونه النازلة هي الزعامة السياسية وأن غصبها منه لا تعني غصب مقام الامامة، وهي أدني شؤون الامامة، وقد أشرنا أن أعلاها هو الخلافة الاسمائية لاسماء اللَّه حيث يبين في الآيات أن استحقاقه لهذا المقام هو بتعلمه لهذه الاسماء فأدني الدرجات اعتبارية كما في نصبه في حديث الغدير وأعلاها تكويني.

الفائدة العشرون: أن الامامة أمر اعتقادي ومن أصول الدين وليست مسألة فرعية ويبتني عليه أن البحث فيها يكون ذا ثمرة خطيرة وليس بحثا متوسط من الفائدة، ولا تنحصر الفائدة منه في كونه مصدرا للاحكام فقط، بل المسألة اعتقادية كمسألة النبوة تناط بالتواجد الفعلي فيجب بحثها حتي مع غيبة المعصوم، كما أنها ليست مسألة فرعية يكون الحكم فيها دائرا مدار وجود الموضوع، ومن الغفلات الشديدة ان يقال أن البحث في الامامة لا محل له الآن.

وهذا الامر نستفيده من مقام الولاية علي الملائكة الوارد في الآية، وأن هذا المقام حقيقة تكوينية، ويحاول البعض من العامة الاستفادة من غفلة البعض ليعترض بأن الامام الثاني عشر غائب فما الفائدة من البحث في امامته وهذا الامر يؤثر علي المبني المتبع في تنظير

الحكم والحكومة في زماننا هذا، حيث أنه مع عدم وجود الامام فقد يقال بالشوري، وهذا كله غفلة عن حقيقة الامام و مقامه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 339

التكويني وانه يتصرف في النفوس لا من باب الجبر وقد مضي البحث في هذا مفصلا.

الفائدة الحادية والعشرون: اثبات المعرفة النورانية وأنهم كانوا أنوارا لما تقدم من ان اسم الاشارة (هؤلاء) وضمير الجمع (هم) المتكرر ثلاث مرات، إنما يستعمل في الحي الشاعر العاقل وأن تلك المسميات غيب محيط بالسماوات والارض بالعلم باسمائهم استحق مقام الخلافة والتفوق علي الملائكة، فهذه المسميات موجود نوري أي حي شاعر لطيف منشأ للقدرة والعلم وكونهم أعلي وأرفع شأنا من آدم فضلا عن الملائكة، وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام «إنه لا يستكمل أحد الايمان حتي يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللَّه قلبه للايمان وشرح صدره وصار عارفا مستبصرا،.. معرفتي بالنورانية معرفة اللَّه عز وجل، ومعرفة اللَّه عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال اللَّه تعالي «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»» «1»

والحديث طويل يتناول فيه معرفتهم بالنورانية وشؤون الامامة وهو وإن كان حديثا مرسلا إلا أن مضمونه عال، وهكذا الرواية التي تليها من نفس الباب عن جابر بن يزيد الجعفي عن الامام السجاد والباقر عليهما السلام وهي كالسابقة عالية المضامين ويشير بعض الاعلام في ذيلها (إنما أفردت لهذه الاخبار بابا لعدم صحة أسانيدها، وغرابة مضامينها، فلا نحكم بصحتها ولا ببطلانها ونرد علمها إليهم عليهم السلام) وهذا عجيب منه قدس سره حيث أن أحاديث النورانية عنهم كثيرة في غير هذا الباب وليس فيها غرابة، انظر في بحار الانوار المجلدات

23- 24- 25 يذكر روايات كثيرة في بيان مقام الامامة التكوينية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 340

وعلومهم اللدنية، وكذا من طرق العامة التي بمضمون «اول ما خلق اللَّه نور نبيك يا جابر».

وفي حديث طارق بن شهاب عن أميرالمؤمنين المروي في البحار 25: 169:

«يا طارق الأمام كلمة اللَّه و حجة اللَّه ووجه اللَّه ونور اللَّه وحجاب اللَّه و أية اللَّه يختاره اللَّه ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية علي جميع خلقه فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد علي جميع عباده، فمن تقدم عليه كفر باللَّه من فوق عرشه» وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث أنه يكون حرفيا بالنسبة للَّه مشيرا إليه دائما وأن إمامته تشمل جميع الخلائق، و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما اوردنا البعض فقط من باب التأييد لما يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الامام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الامام العالية وشئونه النازلة.

الفائدة الثانية والعشرون: إن اللَّه عز وجل بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها فلا يقول قائل ملك مقرب أو عبد ممتحن وأنه يجب أن يكون كل شي ء عن طريقه، وفي نفس الوقت نؤكد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجاب.

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة علي عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة اللَّه تعالي. الفائدة الرابعة والعشرون: أن اضافة الرب إلي ضمير الخطاب (ربك) يفيد ان هذه السنة الالهية في هذه الامة ايضا، بل ان صياغة التعبير المكرر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخري بل لنوع البشرية، هذا

مضافا إلي ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد ايضا.

الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضي الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 341

الخبر الذي هو بمنزلة الفعل المضارع يفيد الاستمرار، ومقتضاه الحصر به تعالي في جعل هذا المقام.

الفائدة السادسة والعشرون: أن مقتضي مادة الخلافة تعطي تحلي الخليفة بصفات المستخلف لأنه ينوب في جهة ومورد الخلافة وإن كان في الباري الامر بلا عزلة ولا انحسار رباني ولا تفويض باطل.

ثالثاً: قراءة في الخطبة القاصعة … ص: 341

في قراءة للخطبة القاصعة التي يتناول فيها الامام عليه السلام مقامات الائمة ويتعرض لهذه الآيات:

«الحمد للَّه الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمي وحرما علي غيره واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة علي من نازعه فيهما من عباده».

ففي هذا المقطع نشاهد أنه انطلق من كون هذين الاسمين مختصين به تعالي لأن العز والكبرياء من لوازم الاستقلال وما عداه فهو خاضع له متذلل له، ومن ينازعه فيهما ويدعي له هاتين الصفتين فسوف يبعد عن رحمة اللَّه، ولا يخفي ما في الابتداء من براعة الاستهلال حيث يريد أن يبين في الخطبة حقيقة التوحيد والطاعة وأن لا استقلالية لأحد علي الاطلاق وسوف نشاهد أن هذا الامر هو السلك الذي تنتظم عليه فقرات الخطبة، وهو المنتهي إلي وجه ركنية الامامة في عقيدة التوحيد ونفي الشرك.

(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين).

ثم أراد الباري اختبار ملائكته في التوحيد في الطاعة ليتميز المتواضع عن المستكبر ومنه يعلم أن التواضع جذره عقيدتي وليس مجرد أخلاق حيث أن المتواضع هو الذي لا يري لنفسه موقعا ومقاما ومكانا، ومنه ايضا يتبين أن الملائكة يعملون ويتكاملون لكن فرقهم عن غيرهم أن الملك لا يعمل بغريزة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 342

الشهوة والغضب،

واختبارهم يدلل علي أنه يفعل ما يفعل عن علم واختيار. ثم إن اختبار التوحيد- وهو اتصاف الباري فقط بالاستقلالية- هو في اتباع ولي اللَّه وهو كما أشرنا إليه مرارا أشق المقامات.

(وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ»).

ويوجد بحث بين الفلاسفة أنه هل لدي الملائكة علوما وصورا مرتسمة أم لا؟

العلامة الطباطبائي في الميزان والنهاية ينفي ذلك لكن ما في القرآن «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» يدلل علي أن لديهم نوع من العلم الحصولي، ويركز الامام علي الصفة الطينية لآدم، وكذلك اجتماع (فقعوا) مع (السجود) حيث أن فيه زيادة في الاخضاع.

(اعترضته الحمية، فافتخر علي أدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع اللَّه رداء الجبرية وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).

فيشير الامام أن ابليس نازع اللَّه تعالي رداء الكبر الذي لا يحق لأحد إلا له سبحانه واعتقد لنفسه الاستقلال ورفض الانصياع لولي اللَّه، وخلع قناع التذلل فجحود خليفة اللَّه تعالي وحجته علي خلقه جذره ومنشأه كبر في الجاحد واستكبار علي امر اللَّه تعالي ورؤية استقلالية للجاحد في ذاته، وكانت عاقبته:

(ألا يرون كيف صغّره اللَّه بتكبره ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا).

وهذه هي نتيجة الكفر الابليسي وعدم الانصياع لاوامر اللَّه تعالي، وعاقبة من لا ينزل نفسه منزلتها ويري الانا دون خالقه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 343

(ولو أراد اللَّه أن يخلق أدم من نور يخطف الابصار ضياؤه، ويبهر العقول روأؤه وطيب يأخذ الانفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ولخفت البلوي

فيه علي الملائكة ولكن اللَّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم وإبعادا للخيلاء منهم).

فهكذا نري أن آدم لو كان في خلقه مبهرا للعقول لاستجاب له الملائكة لأنه بهرهم لا لأن اللَّه أمرهم بذلك ومن هنا كان امتحان الامامة أصعب الامتحانات وأشقها حيث يكون المعني حرفيا فقط دالا عليه وبه يكون التوحيد خالصا حيث لا يكون في اتباع الواسطة سوي حرفيته وآيتيته للَّه جل وعلا، فإذا نجح في هذا الامتحان الشاق واستطاع أن يكبح جماح ذاته وأناه فبها، وإلا لم تنفعه عبادته الماضية كابليس.

(فاعتبروا بما كان من فعل اللَّه بابليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللَّه ستة ألاف سنة، لا يدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد ابليس يسلم علي اللَّه بمثل معصيته. كلا ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنة بشرا بامر أخرج به منها ملكا).

ويتبين أن ابليس كان ملكا، كما يشير إلي ان القانون واحد بين أهل الارض والسماء وسير الكمال واحد وحكمه واحد.

«فاحذروا عباد اللَّه عدو اللَّه أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بخيله ورجله، فلعمري لغد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد …

فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإن تلك الحمية تكن في المسلم من خطرات الشيطان …

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة علي ربهم وجاحدوا اللَّه علي ما صنع بهم..

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 344

ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهو أساس الفسوق وأحلاس العقوق اتخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول

علي الناس وتراجمة ينطق علي ألسنتهم، استراقا لعقولكم ودخولا في عيونكم ونفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمي نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده».

فهذا تحذير منه عليه السلام من عدوي داء ابليس إليهم، ودائه هو عدم التسليم لخليفة اللَّه تعالي والكبر عن طاعة اللَّه في امره بطاعة حجته، وترفع ذاته عن الخضوع لأمر اللَّه بمتابعة خليفته، وأن ابليس أخذ علي نفسه إغواء البشر بنفس الغواية التي ابتلي بها، وإخباره عليه السلام بأن قد وقع منهم تأثر بعدوي ابليس، وهذا إشارة إلي ترك الناس الائتمام بإمامته عليه السلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأن سبب ذلك الحمية الجاهلية التي يسعرها ابليس في قلوبهم ايجادا للكبر والاستكبار عن متابعة وطاعة خليفة اللَّه تعالي، وأن دواء هذا الداء هو التواضع، ثم يشير مرة أخري إلي وجود من هو مبتلي بهذا الداء في هذه الأمة ومتابعته لكبرياء ابليس وجحود حجة اللَّه تعالي وأن عليه الوزر والآثام إلي يوم القيامة، ثم يقتبس عليه السلام من القرآن قوله تعالي «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» الوارد في سياق ذم محترفي النفاق في الامة وتحذيرهم بأنهم لاستكبارهم بحمية وفخر الجاهلية عن طاعة خليفة اللَّه تعالي في أرضه، إذا تقلدوا زمام الامور امعنوا في الغي وافسدوا في الارض إلا انه عليه السلام يخبر عن تحقق ما حذّرت عنه الآية الكريمة.

ثم انه عليه السلام يحذّر الناس من طاعة واتباع الذين تكبروا عن طاعة أمر اللَّه في خليفته في ارضه وحجته علي عباده الذي هو كبر ابليس أيضا، ووصفهم بأنهم جحدوا اللَّه، وكابروا قضائه … ومن هنا يتبين ان هذه الخطبة أصرح من الخطبة الشقشقية في بيان زلة طريقة القوم.

(فاعتبروا بما

اصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس اللَّه وصولاته ووقائعه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 345

ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم..

فلو رخص اللَّه في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر …

فإن اللَّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في انفسهم، بأوليائه المستضعفين في اعينهم، ولقد دخل موسي بن عمران ومعه أخوه هارون- صلي اللَّه عليهما علي فرعون وعليهما مد ارع الصوف وبأيديهما العصي …

ولو اراد اللَّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان … ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الانباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الاسماء معانيها ولكن اللَّه سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفا فيما تري العين من حالاتهم مع قناعة تملأ القلوب والعيون غني، وخصاصة تملأ الابصار والاسماع أذي.

وكلما كانت البلوي والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل).

فيستعرض عليه السلام استكبار الامم الماضية وكيف آل مصيرهم، ومن المعلوم أن أكثر استكبارهم كان علي أنبياء اللَّه حجه استصغارا لهم، وهو عين الاستكبار والجحود الابليسي، ثم وصف عليه السلام حالة موسي وهارون عند دخولهما علي فرعون من حالة التواضع والمسكنة زيادة امتحان اللَّه لفرعون إذ لو بعث اللَّه انبياءه بالقدرة المهيبة والسطوة الشديدة لسقط البلاء وبطل الجزاء ولكان الايمان عن خوف القوة أو رغبة فيها لدبّ الشرك في النيات، ولكان التسليم ليس للَّه تعالي وحده، فمن ثم يظهر وجه التناسب الطردي بين شدة الامتحان وشدة الخلوص في التوحيد، وهذا يتجلي بوضوح في رسل اللَّه تعالي وخلفائه حيث انه تعالي أراد أن يكون الاتباع لرسله والاستكانة لأمره له خاصة أي التذلل له تعالي في كل من التابع وهم البشر والمتبوع

وهم الرسل والحجج، فيصفي الامر عن أي كبر وإدعاء استقلالية في البين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 346

لأن الكبر هو دعوي المخلوق الفقير الغني والاستقلال عن الباري بأي نحو كان.

(ألا ترون أن اللَّه سبحانه اختبر الاولين من لدن أدم صلوات اللَّه عليه إلي الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر …

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار وسهل وقرارٍ جم الاشجار داني الثمار ملتف البني متصل القري بين برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغر قدر الجزاء علي حسب ضعف البلاء

ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلي فضله وأسبابا ذللا لعفوه …

فاللَّه في عاجل البغي وأجل وخامة اللم وسوء عاقبة الكبر فإنها مصيدة إبليس العظمي ومكيدته الكبري …

انظروا إلي ما في هذه الافعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر).

يتعرض إلي وجود هذا السلك التوحيدي الجامع لكل أبواب الشريعة فيتعرض إلي وجود هذه الحكمة في الحج إلي بيت اللَّه الحرام وأن ضروب المشقة في السفر وأداء الاعمال ووعورة المسالك كل ذلك اختبارا بالشدائد وأنواع المجاهد ليخرج التكبر من قلوبهم واسكانا للتذلل في نفوسهم، إذ حالة التكبر شرك وندية لذوات البشر مع باريهم وخروج منهم عن طورهم وواقعهم وهو الفقر لباريهم بخلاف حالة الذل في النفس فإنها حالة توحيد وخضوع لتسليم الذوات حينئذ بالفقر للباري وأن الغني والعز خاص به تعالي.

ثم انه عليه السلام يبين وجود هذه الحكمة ايضا في بقية الفرائض في الصلاة والزكاة والصيام مع ما فيها من الحكم الاخري من

انها تسبب خشوع أبصار البشر، وتسكنّ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 347

أطرافهم، وتذلل نفوسهم، وتذهب خيلاءهم، وأنها دواء عن السموم القاتلة لابليس وهي الكبر الذي وصفه عليه السلام بأنه مكيدة ابليس الكبري.

(ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الاشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء او حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة، أما ابليس فتعصب علي أدم لأصله وطعن عليه في خلقته … واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم..

فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال ومحاسن الامور …

فتعصبوا لخلال الخمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والاخذ بالفضل والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الارض

واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذمم الاعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم …

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا اثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالا … ألا وقد قطعتم قيد الاسلام وعطلتم حدوده وامتم أحكامه).

ثم انه عليه السلام يبين أن العصبية وليدة الكبر والاستكبار علي اختلاف الوانه وأقسامه، وأن الحريّ بالانسان أن يتعصب للفضائل والمكارم المحمودة.

ثم أنه عليه السلام بين أن النصرة والعزة لأي أمة من الامم لا تكون إلا بالولاية فإنه بها يذهب تشتت الألفة وتزول اختلاف الكلمة والافئدة، وكذلك كان حال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل، حيث كانت الا كاسرة والقياصرة غالبين لهم قاهرين عليهم، إلا انه بنعمة اللَّه عليهم حين بعث رسولا إليهم انتظمت به ملتهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 348

وطاعتهم وألفتهم واغدقت عليهم

البركات فعادوا قاهرين بعد ان كانوا مقهورين، وغالبين بعد ان كانوا مغلوبين، ولكنهم- بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- سرعان ما تركوا حبل الطاعة والولاية وهدموا حصن اللَّه تعالي بأحكام الجاهلية وصاروا بعد الهجرة أعرابا، وبعد موالاتهم لولي اللَّه أحزابا، لم يبقوا إلا علي ظاهر الاسلام يرفعون شعار النار ولا العار، إلي ان تمادي بهم الامر أن قطعوا قيد الاسلام وعطلوا حدوده وأحكامه.

(ألا وقد امرني اللَّه بقتال أهل البغي والنكث الفساد في الارض، فإما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت، واما المارقة فقد دوخت …

أنا وضعت بكلاكل العرب وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر …

ولقد قرن اللَّه به صلي الله عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره.

ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر امه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولايراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلي الله عليه و آله، فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وتري ما أري، إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير، وإنك لعلي خير …).

فبعد ما بين عليه السلام أن قوة الامة وعزها بموالاة ولي اللَّه وخليفته في أرضه وأن هذه الموالاة تذلل في النفوس وتواضع للباري تعالي سبب لنزول الفيض الالهي والبركات والنعم وأن بدون موالاة حجة اللَّه تعالي في أرضه

تدب الفرقة والاهواء والاحزاب لكون ذلك عن كبر في النفوس واستكبار وهو منشأ نزاع كل منهما مع الآخر، بعد هذا كله، أخذ عليه السلام في بيان الادلة والبراهين علي تقلده لمقام خليفة اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 349

في أرضه وحجته علي عباده بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من بيان الصفات الخاصة التي يتحلي بها سواء للتربية السوية أو الاهلية الروحية الخاصة به حيث يري نور الوحي والرسالة ويسمع المغيبات حتي قال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنك تسمع ما اسمع وتري ما أري … إي أنه قد أوتي مؤهلات العلم اللدني، ثم يبين أنه اول السابقين إلي الاسلام وأنه معصوم من الزلل والخطل، وأنه أقرب واشد الناس اتباعا لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وغيرها من الصفات التي تشير إلي تقلده الخلافة الالهية.

وبهذا يختم خطبته عطفا علي ما بدأ من أن كمال التوحيد وتمام الاخلاص هو بموالاة ولي اللَّه وطاعته كما في سجود الملائكة لآدم ولذلك كفر ابليس اللعين ودحر باستكباره عن ولاية خليفة اللَّه.

وبذلك يفصح عليه السلام عن وجه هذه الواقعة القرآنية التي تكررت في سبع سور من القرآن الكريم، كما أنه عليه السلام افصح عن حقه وغصب القوم له، ومن بديع الحكمة الذي أظهره عليه السلام أن يبين كيفية كون الصفات الخلقية هي جذر الافعال. وان الاعتقادات جذر للصفات الخلقية، أي ان كل فعل صادر من الفاعل المختار منشؤه صفة خلقية في نفس الانسان وهي منشؤها أمر اعتقادي يبطنه الفاعل ذو الصفة المعينة وهذا يفسر موالاة ولي اللَّه وخليفته في أرضه وعدم موالاته أنهما يتسببان عن التواضع في النفس في الموالي والمنقاد، والكبر في الجاحد والمنكر، وأن التواضع

متسبب عن خلوص الشخص لربه أي خلوص توحيد لربه عن الشرك بإقامة ذات نفسه ندا لخالقه، والكبر كفر وجحود وشرك لاقامة المتكبر ذات نفسه مستقلة علي غير ما هي عليه من الحد الواقعي من الفقر للَّه تعالي.

ومن ثم يتبين أن الولاية لخليفة اللَّه في ارضه علي أصعدة ثلاث في الفعل وفي الخلق بالمحبة له، وفي الاعتقاد بالاذعان أنه مجعول من قبل الباري.

وهكذا نري الامام يتدرج من الكفر الابليسي إلي الكفر في النبوة ثم الكفر في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 350

الافعال يري أن جذرها كلها واحد هو الانصياع إلي الانا وعدم تسليم النفس للَّه الواحد الاحد وعدم الانصياع لأوامره وأن كل شي ء ذائب فيه وأن لا استقلالية لأحد بل كل في سبيله ومن أجله وكل آية له سبحانه، و أخيرا يصل إلي الاخلاق وأن منشأ جميع الرذائل يرجع إلي الكبر ومنشأ كل الفضائل يرجع إلي الخضوع، والامام في كل هذا يربط بين اقسام الكفر ويرجعها إلي الاصل الواحد.

رابعاً: عصمة آدم … ص: 350

معصية آدم وإخراجه من الجنة، وهذه من المسائل المهمة التي كثرت فيها الاقوال والآراء وزلت الاقدام من القديم وحتي يومنا هذا، وخصوصا أن القران قد عبر «وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي»، فكيف يتناسب هذا التعبير مع غيره من نسبة زلة الشيطان لآدم الذي له تلك المقامات العالية والخلافة عن الحق تعالي وهي خلافة اسمائية، وهذا له جواب نقضي وحلي.

أما الجواب النقضي فهو: أن الواقعة تحكي نوع من المخالفة للملائكة مع أنهم معصومون ولا يعصون اللَّه ما أمرهم، وذلك عندما قال لهم الحق تعالي «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» فإن فيها نوع من التأنيب فأي جواب يذكر للملائكة فيتجه لآدم، ثم إن المكان الذي يجب أن يكون فيه هو الارض وان فعله هذا لم

يؤثر علي مقامه وخلافته بدليل رد الاعتبار الذي حصل له بالتوبة، وأن الذي فقده هو الخروج من الجنة ولا يعلم أن هذا عقاب حيث أن آدم مخلوق أرضي أصلا، ثم ان الانزال للأرض ليس فيه عقاب بل هو نوع من التكريم لأنها دار الحصاد وفيها الابتلاء والتكامل والسعي نحو الآخرة، وهذه الجنة التي كان فيها ليست جنة الخلد بل هي أقل شأنا من جنة المأوي والآخرة وذلك لأن الخلود في الأخيرة، وهذا كله شاهد علي ان الهبوط للارض ليس فيه توهين لآدم.

اما الجواب الحلي:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 351

1- أن الحق تعالي يتعرض في حديثه عن الانبياء دائما إلي جنبتهم البشرية وأنهم مخلوقون له، وان كمالاتهم بالنسبة إليه ناقصة ومحدودة كما يتعرض إلي كمالاتهم الغيبية التي يفوقون بها علي البشر، وهذا ليس لأجل بيان عيوبهم ونقائصهم بل لأجل بيان أنهم ليسوا بآلهة يعبدون من دون اللَّه بل هم عباد مكرمون محتاجون إلي اللَّه، وحتي الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله الذي لا خلاف في مقاماته ومنزلته فإن القران يركز علي بشريته، كما يركز علي مقاماته الغيبية «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ» «1»

ففي الحين الذي يؤكد علي مماثلته لهم بالبشرية يؤكد علي اختلافه معهم بالمقام الغيبي وهو الارتباط بالوحي والعوالم الإلهية، حتي لا يعبد من دون اللَّه فهم بالاضافة إلي بارئهم محدودين كمالاتهم ناقصة ولكن بالاضافة إلي ما سواهم فهم المعصومون الانبياء الواجب اتباعهم واتخاذهم قدوة. وهذا كله لأن الواسطة- في الحين الذي هي ضرورة لا بد منها- يجب أن يتوفر فيها خاصية الوساطة لا خاصية الحجاب.

وبتحليل آخر يشير علماء النفس إلي أن الانسان يجب ان يستشعر في نفسه النقص فإذا أحس به سار

وسعي نحو الكمال، ولذلك كانت العبادة- أي اصل العبادة- تكاملًا لكن المتعلقة بالمعبود الحقيقي، وحيث كان الانبياء هم قدوة المخلوقات فيجب أن يشعر الناس فيهم كلا الجنبتين، يرونهم أعلي منهم شأنا وأرفع منزلة من جهة الهدي الخارق والافعال التكوينية الخارقة ليستشعر الانسان النقص في نفسه فيسعي نحو الكمال الذي يراه، ويجب في نفس الوقت أن يلحظوا فيهم جنبة النقص والحاجة للَّه وانهم مخلوقون مثلهم حتي لا يكونوا حجابا دون الحق تعالي فيظهر الحق تعالي جانب النقص فيهم من خلال بعض

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 352

الافعال ويكون جانب النقص بالاضافة إلي من هو أعلي رتبة منه لا بالنسبة إلي من هو دونه ممن يكون لهم إماما، فالانبياء والائمة في حركة إلي اللَّه تعالي.

2- الجواب الآخر المذكور في بعض الروايات أن النهي في عالم الجنة ليس هو نهي تكليفي حيث أن الجنة ليست دار تكليف إذ التكليف مقارن مع الكمال والعقاب والثواب وبالتالي لا تكون معصيته معاقباً عليها كما في عالم الارض، مضافا إلي ان هذه الجنة كانت مختصة بأحكام خاصة منها أن لا تجوع ولاتعري، ومن المتفق عليه بين العامة والخاصة أن المخالفة ليست لعزيمة وليس لها عقوبة أخروية.

3- أن الآية تدل علي ان هناك مقامات ورتب و مدارج في الامامة وهي تلك الوجودات الحية النورية الشاعرة التي عرضها علي آدم وهي بالتأكيد غير الذات الالهية المقدسة ونسبتهم لآدم كنسبة آدم لبقية الخلق.

الطائفة الثانية: آيات الكتاب … ص: 352

وهي كل آية ورد فيها لفظ القرآن أو الكتاب، وعمدة البحث في آيتين الاولي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

.الثانية: «أَفَمَن كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَاماً وَرَحْمَةً

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ» «2»

.والبحث في الآية الاولي ويقع في أمور:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 353

1- في شأن النزول المعروف أن سورة الرعد مكية وإن ادعي البعض أن خصوص الآية التي هي مورد بحثنا مدنية، علي أساس ان المقصود من (من عنده علم الكتاب) هم اهل الكتاب وهؤلاء أسلموا في المدينة، وهذا ليس بشئ لان الاتفاق علي نزولها في مكة.

كما أن السورة كأغلب السور المكية واردة في بيان التوحيد والرسالة والرسول وتأكيد أن الرسول حق من عند اللَّه عز وجل، وقد ورد فيها لفظ الكتاب 7 مرات، والآية واردة مورد الاحتجاج مع الكفار حيث ظلوا يجحدون بآيات اللَّه ويستهزؤن بالرسول فهي بقرينة (بيني وبينكم) دالة علي ورودها مورد الاحتجاج وهذا كله يدفع ورودها في المدينة حيث لم يتعرض الرسول لمثل هذه المواقف.

2- أن الآية تذكر شهادتين الأولي شهادة اللَّه تعالي والثانية شهادة من عنده علم الكتاب، واقترانها بالاولي يدل علي عظمها وفضلها، وهي غيرها وإلا لما ذكرت ثانية فإن التعدد دال علي المغايرة.

3- كيفية شهادة اللَّه، إن الكفار لما كانوا مشركين فأنهم يؤمنون بالقدرة المطلقة للَّه غايته أنهم يشركون بعبادته ويكفرون بنبوة النبي الخاتم صلي الله عليه و آله، كما انهم يذعنون بكبري مؤداها أن الذي يتقول علي المقام الربوبي سيما مقام الشريعة وبيان مطلق الارادات الالهية فهذا ليس بكذب في مسألة جزئية بل هو ادعاء مقام من وإلي الرب، ومن هاتين كان وجه حجية المعجزة أنه اقدار الباري بقدرة يعجز عنها بقية البشر وتكون مقرونة بدعوي الوساطة. وهم مع اذعانهم أنها قدرة خاصة لا تصدر من

البشر إلا أنهم يغالطون ويقولون أنها قدرة سحرية، فهم يذعنون كبرويا أن القدرات التي لا يقدر عليها البشر لا بد أن يكون منبعها الغيب.

فشهادة اللَّه هي اقداره للنبي صلي الله عليه و آله إي اعطاؤه قدرة غيبية، وكيفيتها هي نفس كيفية المعجزات وأنها هي شهادة منه والمعجزة هنا هي القرآن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 354

الكريم.

ويمكننا القول ان الشهادة نوع من البرهان وهو لا ينحصر بالعلم الحصولي بل يطلق علي ما يولّد العلم الحضوري، وذكرنا أن الكثير- من الفلاسفة من عهد ابن سينا- غفل عن البرهان العياني، وغرضنا أن شهادة اللَّه هي من نوع البرهان العياني خلافا لما هو مشهور عند المتكلمين من الخاصة والعامة من حصر برهانية المعجزة في العلم الحصولي، بيان ذلك:

أن معجزات الانبياء المذكورة في الكتاب باقية وليست منصرمة ومختصة بزمن معين، بل هي باقية وذلك لأن الغرض من المعجزة هو تحدي جميع الأقوام وليس خصوص القوم الذي أرسل لهم الرسول، ولو كانت المعجزة خاصة بمن ارسل إليهم لأمكن أن يطلع علي ايجادها الأمم الاخري فينتهون إلي بطلان نبوته ولا تكون في واقعها معجزة بل أمرا عاديا خفي سببه عن الآخرين، فلابد أن يتوفر في المعجزة أنها تحدٍ أبدي للبشرية أي ما يعجز عنه الاولون والآخرون، ولذا نقول أنه يطلق علي المعا جز البرهان العياني.

أما تطبيق البرهان العياني علي شهادة اللَّه فذلك بعد كون بعض مواده المؤلفة عيانية لا بتوسط الصور الحصولية، وهنا قد يتساءل عن وجه تقديم (باللَّه) علي (شهيدا) والجواب انه من جهة الحصر ثم من جهة العيانية فاللَّه حاضر بقدرته اللامتناهية واللامحدودة فكفي باللَّه الحاضر عيانا وكفي بحضوره العياني، ويذكر بعض المفسرين أن التعبير ب (شهيدا) وليس بشاهد دليل علي إرادة الحضور

لا الشهادة المنشأة بالكلام.

ومما يدلل علي أن المراد من الشهادة التكوينية لا الاعتبارية، هو الرجوع إلي أصل اشتقاقها اللغوي حيث أنها أطلقت علي التأدية والاداء مع انها اسم للتحمل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 355

والحضور فاطلقت علي التأدية باعتبار المنشأ أي أن من له التأدية هو من كان حاضرا فتحمّل الشهادة، والشهادة في الامور الاعتبارية تجعل السامع كالحاضر حين التحمل أما في الامور التكوينية فإنها تجعل المشهود له في أكمل إدراك وأقصي ما يمكن تصوره وهذا لا يكون إلا بحصول علم لديه من الشهادة علما حضوريا.

وكأن المعني كفي باللَّه حاضرا وتشهدون حضوره في بيان الحق حيث ان هذه القدرة المدركة في القرآن التي يعجزون عنها نحو من رفع الستار عن قدرة الغيب فهو ظهور للغيب عياني لهم بعد كونهم يذعنون بأن اللَّه موجود وحاضر.

4- شهادة من عنده علم الكتاب، وهاهنا تطرح أسئلة متعددة في كيفية شهادة هذا الشاهد وفي امكان كونها شهادة علي صدق النبي وفي مصداقها، وذلك لان المشهود به هو النبوة والارسال فكيف يكون هذا الشاهد شاهدا علي ارساله وهذا يعني انه يكون حاضرا في مقام انباء الرسول حتي يستطيع تحمّل الشهادة والاداء بها، وإذا لم يكن حاضرا عند تحمله فسوف تكون شهادته اطمئنانا بصدق النبي صلي الله عليه و آله، ومقتضي كون النبي في مقام الاحتجاج أن هذا الشاهد حاضر الانباء حتي يستطيع الأداء. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما ورد في الخطبة القاصعة «انك تسمع ما أسمع وتري ما أري»، وهذا يعني أن (من عنده) جهز بجهاز وجودي وروح ذات خصائص معينة مشابهة للروح النبوية «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ».

قد يقول قائل ان تحمل (من عنده) ببرهان حصولي ثبت لديه فسوغ له الشهادة كما في قصة

ذي الشهادتين حيث شهد لمجرد ان الرسول هو الذي أخبر ان الدرع له.

وهذا القول مدفوع أن تسمية هذا بالشهادة من باب التنزيل وهذا مسلم به، ولو كان حصول العلم لدي الشاهد بهذه الطريقة فالاولي أن يذكر نفس البرهان ولا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 356

حاجة حينئذ لشهادته لأن ترامي الشهادة اضعاف للمشهود به فلو أمكن الادلاء بالمشهود به فهو أولي، فالغرض من الشهادة ان ما حصله الشاهد بعين الشهود واليقين المستند إلي العلم الحضوري، وهذا يدل علي أن مستند الشاهد ليس علما حصوليا.

وهاهنا تساؤل يطرح أنه كيف تكون شهادة الشاهد وهو من تابعي النبي يحتج بها علي الكفار الذين يشككون في النبي؟

ومن أجل الاجابة علي هذا التساؤل يجب الاشارة إلي أن النبي محمد صلي الله عليه و آله كان قبل البعثة معروفا لدي قومه ببعض الخصال والصفات التي استيقن منها الجميع كالصدق والامانة وانه من الذين يستسقي بهم الغمام، وهو من عائلة سلمت إليها زعامة قريش وذلك لأهليتهم وصدور خوارق العادات منهم، ومن هنا كان يتهم بالسحر، وقد تواتر النص التاريخي من المشركين علي وصفه «أنه سحر قديم في بني هاشم» مع ما هو مقرر عند قريش من كونهم من نسل ابراهيم واسماعيل الذبيح وهم ورّاثهما، وقد ذكر الامام ذلك في ذيل الخطبة القاصعة «وأني لمن قوم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الابرار عمار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرأن يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل» أي انه من قوم وشجرة توفرت فيهم صفات الكمال من الحكمة والصدق والاحسان والعفاف والشجاعة والخلوص للَّه تعالي والاجتهاد في العبادة والتحلي بالعصمة

العملية، فلم يشاهد لهم زلل ولاخطل في جاهلية قريش ولا في الاسلام.

ثم أن نفس ولادة الامام في الكعبة وانشقاق الجدار ودخول فاطمة بنت أسد وبقاؤها داخل الكعبة ثلاثة أيام لم يكن بالامر الذي لاقي استنكارا من قريش لما تعودوه من أهل هذا البيت من خوارق العادات.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 357

وعلي كل حال لا نجد فيما بأيدينا من أخبار وتواريخ اعتراض الكفار علي هذه الشهادة وطعنهم فيها، ثم إن وصفه بأنه عنده علم الكتاب يعطي الحجية علي وجه الاستشهاد به لأن في ذلك اشارة إلي انطوائه عليه السلام علي العلم الجامع وفي ذلك تبيان لكيفية استعلام ذلك بالمسائلة ونحوها ليتحققوا من ثبوت الوصف ومن ثم يستثبتوا وجه حجية شهادته عليه السلام، وهذا الكتاب إما ان يراد به الكتب السماوية أو القرآن الكريم، والاخير هو الارجح حيث أن سورة الرعد نزلت دفعة واحدة غير متقطعة وموارد الكتاب فيها قد قصد منه القران الكريم، بل في بعض الآيات من السورة ارادة كتاب التكوين كما في ام الكتاب.

5- من عنده علم الكتاب، من بين معاني الاضافة الانسب ان تكون الاضافة بيانية استغراقية ولو اريد منها التبعيض لأتي بلفظ من كما في وصف آصف بن برخيا في سورة النمل، وقد ذكرنا ان الاختلافات الواردة في تعابير القرآن تدل علي اختلاف المعاني وليس الهدف منها بلاغيا أدبيا، والاحاطة بمعاني الكتاب ليس بالعلم الحصولي بل بالعلم الحضوري، حيث ان الكتاب ليس الموجود النقشي بل كتاب التكوين كما سوف يأتي بيانه فيما بعد. هذا مضافا إلي ان العلم لو كان ببعض الكتاب لما كان في شهادته مزية حيث ان المشهود عليه هو اعظم الغيبيات وهو نبوة النبي الخاتم.

ثم إن ماهية هذا العلم لا

يمكن ان تكون حصولية وذلك لما ذكرناه من ان هذا العلم جعل منشأ لحجية الشهادة ومقتضاه ان يكون التحمل حضوريا.

وقد ينقض علي هذا المعني وأن القرآن استشهد بشهادة بعض اصحاب الكتب السابقة وذلك في عدة آيات: منها «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 358

شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَي مِثْلِهِ» «1»

.منها: «أَوَ لَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ» «2»

.ومنها: «لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَي بِاللّهِ شَهِيداً» «3»

.ومنها: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لَا تَعْلَمُونَ» «4»

.والجواب العام عن هذه الموارد أن الاستشهاد بطائفة من علماء بني اسرائيل وما شابههم ليس من جهة أشخاصهم بل استشهاد بما ورد في كتبهم من بشارات بالنبي الخاتم، وواضح أن هذه الكتب غيبية من عند اللَّه، والمشركون متأكدون من أن كتبهم متقدمة بقرون علي زمن النبي صلي الله عليه و آله وهي منسوبة إلي السماء وليس هو من السحر، وفي ذلك بينة وبرهان قاطع علي نبوة النبي الخاتم فهي شهادة الكتب السماوية بالنبوة وهي تكون من سنخ شهادة اللَّه وهي بمعني آخر شهادة الانبياء السابقين علي صدق النبي الخاتم، وشهادة الملائكة أيضا شهادة غيبية وسنخها ليس بالعلم الحصولي، وعليه نصل إلي نتيجة أن جميع الشهادات ترجع إلي سنخ واحد.

اما الأجوبة التفصيلية:

1- فشهادة الملائكة ليس شهادة عادية وذلك لأنهم لا يستطيعون استنطاق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 359

الملائكة فكيفيتها يجب أن تكون بما ذكر في شهادة اللَّه من أن ذلك هو بمحضره وقدرته، حيث ان مشركي قريش يذعنون بوجود الملائكة وانهم اعوان اللَّه وذلك بدليل نسبتهم الأنوثة لملائكة للَّه وانهم بنات اللَّه

والعياذ باللَّه تعالي.

2- أن قريش والمشركين كانوا علي اطلاع وخبر من علم أحبار اليهود ببعثة النبي صلي الله عليه و آله حيث كانوا من قبل يستبشرون ببعثته ويأملون النصر به علي المشركين قال تعالي «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا» «1»

.3- أن الآية الاخيرة ليس فيها استشهاد علي أصل الرسالة والبعثة بل دفع لاستبعادهم كون الرسول المرسل بشرا رجلا، ومع ذلك فإن الاستشهاد بأهل الذكر لا باعتبار اشخاصهم كما قدمنا.

6- ونتعرض فيه لمقام القران الكريم ومراتبه.

وفيه مسائل ثلاث:

المسألة الاولي: ان القران ذو حقيقة تكوينية بمعني ان القرآن لا تنحصر درجات وجوده بالعبارات الوارد ذكرها بين الدفتين، وأن هذا الوجود للقرآن هو المعبر عنه بالكتبي وأنه معبر عن وجود آخر للقرآن وهو الوجود التكويني، ويدل علي هذه المرتبة للقرآن مجموعة من الشواهد:

أ- ان التنزل يدل علي أن القرآن كان موجودا ثم تنزل بما نراه نحن الآن وهذا التنزل لا يضاهيه التعبير بأنه كان لفظا مصوتا وكلاما نفسيا.

ب- بعض الآيات القرآنية التي تدل علي آثار للقرآن لا يمكن نسبتها إلي هذا الوجود الاعتباري من نحو «وَلَوْ أَنَّ قُرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بِل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً»»

، حيث أنه قد ذكر في شأن النزول أن قريش اقترحت علي النبي صلي الله عليه و آله أن يباعد بين جبال مكة لأن مكة ضيقة فتتوسع وتصبح بها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 360

وديان وسهول ومزارع وما شابه ذلك، وطلبوا منه أن يحيي لهم قصي جد قريش وأجدادهم ليكلموهم، فاللَّه تعالي يخاطبهم أن القرآن لو أظهر لهم تلك الآثار بالقرآن لما آمنوا، وهذه الآثار لا تفترض للكتاب الاعتباري لأن هذه ألفاظ والوجود اللفظي وجود تنزيلي للشي ء.

ج-

قوله تعالي «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «1»

، وواضح ان المقصود في هذه الآية ليس القرطاس والورق الذي كتب عليه القرآن له هذه الخصوصية، ولم ينزل القرطاس المكتوب علي صدر النبي الخاتم، بل ان ما نزل هو المعاني وحقيقة القرآن التكوينية هو الذي يجعل الجبل خاشعا متصدعا، ولدينا شاهد علي تصدع الجبل وهو في قوله تعالي «فَلَمّا تَجَلّي رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً» فتدكدك الجبل هو من تجلي النور الالهي، والحقيقة القرآنية هي التي تجعل الجبل متصدعا وهي التي لها الآثار التكوينية.

د- قوله تعالي «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «2»

، فهذا القرآن المتصف بالمجد وهو نوع من العلو والرفعة والعز العظمة في اللوح المحفوظ فهو متنزل من حقيقة أخري.

ه- قوله تعالي «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ» «3»

وهذه الآية صريحة في كون حقيقة القرآن التكوينية في كنّ محفوظ لا يناله إلا المعصومون.

المسألة الثانية: ما ورد من وصف الكتاب بالمبين وقد ورد ذلك في أماكن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 361

متعددة.

ويذكر العلامة الطباطبائي في ذيل قوله تعالي «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ … فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «1»

أن الكتاب وارد في ثلاث معان:

الاول: الكتب المنزلة علي الانبياء وهي المشتملة علي شرائع الدين مثل كتاب نوح «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» «2» «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي» «3»

وكتاب عيسي وهو الانجيل «وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُديً وَنُورٌ» «4»

وكتاب محمد صلي الله عليه و آله «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ» «5»

.والثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات، وهو كتاب الاعمال والآجال «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ كِتَاباً» «6»

وما ورد في سورة المطففين: 21.

والثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود و الحوادث الكائنة فيه ولعل هذا النوع من الكتب فيه ضبط عام حفيظ لجميع الموجودات وهو ام الكتاب يستطر فيه كل شي ء وفيه ضبط خاص يتطرق إليه المحو والاثبات، وهذا هو الكتاب المبين واللوح التكويني «وَمَا يَعْزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ … إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7»

.فالكتاب المبين بشهادة الآيات هو الذي يستطر فيه كل شي ء وهو يحصي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 362

جميع ما وقع في عالم الصنع والايجاد مما كان وما يكون وما هو كائن من غير أن يشذ عنه شاذ وفيه نوع تعيين وتقدير للاشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء ومعها وبعدها.

المسألة الثالثة: ان القرآن الكريم هو الكتاب المبين بدليل قوله تعالي «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

، وهذا الكلام الصادر من الحكيم العليم ليس من قبيل الالفاظ العادية والمبالغات وقد أشرنا إلي ذلك في بداية الفصل حول المعاني القرآنية العالية، و أننا إذا استنطقنا القرآن ووصلنا إلي معني فلا يجوز ان نتراجع عنه خشية ذلك المعني الهائل، فإذا كان القرآن فيه تبيان لكل شي ء صادر من حكيم، وهو تعالي يعبر عن القران بذلك وفي موضع آخر أن الكتاب المبين فيه كل شي ء ولا يعزب عنه شي ء، وليس المقصود من التبيان هو خصوص الاحكام الشرعية وذلك لان الواقع يخالفه حيث أن أربعة أخماس القرآن في المعارف الالهية، ولا يمكن ان نقول ان ظاهر هذا الذي بين الدفتين هو فيه كل شي ء من احكام الوجود وهو محدود إلا إذا اعتبرناه نافذة علي أمر آخر، وأنه يشير إلي حقيقة معينة هي القرآن الذي فيه تبيان لكل شي ء، وهذا

هو الذي نريد الوصول إليه من أن النبي الخاتم اختص بالكتاب المبين، ومن هنا لم تطلق علي كتب بقية الانبياء القرآن بل الفرقان.

ونستطيع ان نوجز الدليل علي اتحادهما من خلال اتحاد وصفهما:

1- ان الكتاب المبين يستطر فيه كل شي ء وهكذا القرآن الكريم.

2- ان المقصود من القرآن ليس هو خصوص اللفظ المصوت بل الحقائق النورانية التي ليست من سنخ المعاني الحصولية ومن الشواهد علي ذلك قوله

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 363

تعالي «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» فكيف يكون مكنونا مع أن المنقوش برسم الخط متداول بين أيدي الناس.

3- قوله تعالي «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ …» وقد ورد توصيف الكتاب المبين بأنه ام الكتاب.

4- أن في القرآن الاسم الاعظم وهو ليس من جنس الالفاظ المصوتة- وإن كان لإسمه لفظ- فلا يعقل وجوده في القرآن بوجوده الاعتباري بنقش رسم الخط بل في القرآن التكويني.

ومن هنا ننتقل إلي نقطة أخري ان هذه الاقسام التي ذكرناه للكتاب هي في واقعها تنزلات ومراتب للكتاب المبين وأنها كلها تعود إليه، والكتاب المبين هو عين القرآن الكريم وهو له مدارج عالية ونازلة ومدارجه العالية ام الكتاب أي المصدر الذي يتنزل عنه كل شي ء، والبقية تنزلات.

والدليل علي ذلك:

أ- أنه قد ورد أن في القرآن أشياء يراد منها أمور تكوينية كالاسماء الحسني، واللوح، والقلم والصحف والرق المنشور.

ب- أن الماهية المقررة للكتاب شي ء يكتب فيه ويجمع فيه الكلمات والكلام، والكلمة والكلام هو ما يدل علي أمر ما، وهذه الدلالة وإن كانت بالوضع الاعتباري كما في الالفاظ فهي كلمة وكلام اعتباري، ومصداق فرضي لماهية ومفهوم الكلمة والكلام، وأما إن كانت الدلالة تكوينية فالشي ء الدال تكوينا كلمة وكلام حقيقيان ومصداق خارجي للماهية، قال تعالي «إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ

اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «1»

، وبالتالي فإن الكتاب الحقيقي هو الذي يجمع ويضم الكلمة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 364

والكلام الحقيقيين جمعا وضما تكوينا.

وكذلك الحال في الاسم إنما سمي اسما لأنه يكون علامة علي ذي العلامة والمصداق الاعتباري له هو اللفظ المصوت لكون دلالته بالوضع الفرضي الاعتباري، بخلاف المصداق الحقيقي فهو الدال تكوينا والعلامة التكوينية علي الشي ء، فالكتاب مجموع الكلمات، و ماهية الكلمة هي الشي ء المنطوق بها، والنطق هو الاظهار والاعراب وهو أيضا ينقسم إلي اظهار تكويني واعتباري، وهو اعراب عن مغيب ومستور فنطق اللَّه تعالي خلقه وايجاده ومخلوقاته كلماته وبعضها تام.

ج- ذكر في المعقول أن كل معني ماهوي له وجود اعتباري، ولا يمكن ان يكون هناك شي ء اعتباري ليس وراءه امر تكويني أي ان الماهية التي يفرض لها وجود اعتباري انما تُقتنص وتنتزع عن وجود تكويني لها، فالكلمة لها وجود تكويني، والاسم له وجود تكويني، فالمعني الاعتباري لا يمكن ان يكون مستلا لا من شي ء، بل لا بد ان يستل من وجود تكويني، وهذه مسألة استوفي البحث فيها في الاعتباريات في علم الاصول أيضا، ومن شواهدها القرآنية التعبير عن بعض الانبياء انه كلمة من اللَّه، (النساء: 171- المؤمنون: 50)، وهذا الاطلاق ليس مجازيا بل هو اطلاق حقيقي واطلاق الكلمة علي اللفظ هو المجازي لأن حقيقة الكلمة هي المعبرة تكوينا عن معني لدي المتكلم، والمتكلم هنا هو اللَّه جل وعلي والنبي معبر حقيقي عن اللَّه وعن عظمته وينبئ عما في الغيب، فهذا الاطلاق حقيقي.

وإذا كان القرآن الكريم هو الكتاب المبين وهو ام الكتاب وهذا يعني انه الكتاب التكويني فكل الكمالات المتنزلة تكون هناك موجودة بشكل بسيط شريف وعالٍ ويكون معني الكتاب هو وجود جمعي بسيط مجموع

فيه كل الكلمات التي تعبر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 365

عن الغيب.

د- وهناك الكثير من الآيات التي يذكر فيها الحق سبحانه تنزيل الكتاب والآيات مع ذكر خلق السموات والأرض مثل قوله تعالي «إِنَّ اللّهَ لَا يَخْفَي عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ» «1»

، وقوله تعالي «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ … وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» «2»

، وقوله تعالي «الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَي صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ» «3»

، وقوله تعالي «طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَي تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماوَاتِ الْعُلَي» «4»

، وغيرها من الآيات في السور الاخري.

5- الروايات الواردة ان في القرآن عمل كل عامل ومكانه في الجنة مآله وثوابه وعقابه … وهذه الكتب في الكتاب المبين باعتبار انه يستطر فيه كل شي ء، وهذا يعني ان القرآن فيه كل شي ء وهو عبارة ثانية عن العينية بين القرآن والكتاب المبين.

والخلاصة: ان المراد من حقيقة القرآن الكريم هو الكتاب بوجوده التكويني وهو حقيقة علوية تكوينية جامع لجميع الكلمات الالهية، والشهادة المعطوفة علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 366

شهادة اللَّه تعالي هي شهادة من عنده علم مثل هذا الكتاب فمن ثَمّ ذكرت تلو الشهادة الاولي.

ثانياً: قوله تعالي «أَفَمَن كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ

مُوسَي إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ» «1»

.* الآية الكريمة في مقام الموازنة بين كفتين بعد ان ذكر الاحتجاج مع الكفار علي كون القرآن كتابا منزلا من عند اللَّه سبحانه، ثم يطيب خاطر النبي بأن ليس من كان كذا وكذا كغيره ممن ليس كذلك، وأنت علي هذه الصفات من كونك علي بصيرة من ربك ويتلوه من يشهد بأحقية القرآن وكان علي بصيرة من أمره فآمن به عن بصيرته وشهد بأنه حق منزل من عند اللَّه تعالي.

* إنما اوردناها في هذه الطائفة من حيث ان هذا الشاهد من شأنه أن يشهدعلي اصل النبوة وأحقية القرآن فتكون قريبة المضمون من آية سورة الرعد، مع اتفاقهما في كونهما مكيتان.

* حاول البعض صرف ظهورها عن الامام علي عليه السلام وذلك بالتصرف في ارجاع الضمائر ونحوه أو القول ان المراد منه جبرائيل يتلو القرآن علي النبي صلي الله عليه و آله، لكن كلها مردودة وخصوصا علي ما ورد في بعض القرآت عند أهل البيت عليهم السلام من ان الآية «وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي» فوصف الامامة والرحمة للشاهد لا لكتاب موسي إلا أنهم بدلوا موضعها عند جمع القرآن.

* وجود قيد (منه) للشاهد تدفع الاحتمالات التي ادعوها في المقصود من الشاهد، حيث لا معني ان يرجع الضمير إلي غير الرسول، وان المراد من (يتلوه)

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 367

التلو التابع لا التلاوة.

* ان المراد من حرف الجر في قوله تعالي «بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» هي النشوية لا البيانية أي انها ناشئة من اللَّه وآتية من جانبه.

* لفظة (منه) الواردة في (شاهد

منه) هل المراد منها الاتصال النسبي أم امر آخر؟ والاول بعيد وذلك لان القرآن لا يعتد بخصوص ظاهرة الولاء النسبي فقط في نسبة الاشخاص كما في قوله تعالي «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» مع انه ابنه، بل يعتبر ان من خرج عن الطريق الصحيح فهو خارج عن اتصاله بالنبي وهنا اطلاق (منه) علي الامام علي عليه السلام من جهة نسبة الروح والولاء والايمان وكونه منه لها دخالة في شهادة الشاهد، ويؤكده ما ورد عن الامام من رؤيته لنور النبوة، وقوله صلي الله عليه و آله: انت أخي، فالاخوة ليست نسبية والشقيق يعني الاشتقاق من أصل واحد فمرتبتهما الغيبية تؤول إلي أصل واحد، وقريب منه ما ورد كنا نورا واحدا، ومثله قوله تعالي «وأنْفُسَنا وأنْفُسكُم».

ثالثاً: اما النقاط التي يمكن استفادتها من هذه الطائفة:

1- ثبوت مقام الطهارة والعصمة لمن عنده علم الكتاب حيث ان الشهادة لا يمكن أن تقبل في هذه المواطن التي هي اللبنة الاولي للشريعة إلا لمن اتصف بذلك، وإن سر وحقيقة العصمة يعود للعلم، ولم يدع احد من الاولين والآخرين ان لديه علم الكتاب إلا هؤلاء الاطهار واستعدادهم للجواب علي كل تساؤل، ومن دلائل العصمة اجوبتهم وكلماتهم التي صحت نسبتها إليهم فإنها تظل منارا هاديا ومشعلا مضيئا إلي أبد الدهر ودالا علي امامتهم وعصمتهم ومعاجزهم العلمية.

2- أن الائمة عليهم السلام لديهم العلم اللدني المحيط بكل الاشياء وهو ليس غير علم الاسماء الجامع، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الطائفة الاولي.

3- ان من يكون لديه العلم اللدني يكون مؤهلا للهداية التكوينية الايصالية وهي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 368

الحد لماهية الامامة كما ذكرنا في الطائفة الاولي.

4- بما أن لديهم هذا العلم الحضوري فلديهم القدرة وهذا يعني ان لديهم الولاية

التكوينية والقدرة التكوينية علي من سواهم حتي الملائكة، وهذا العلم يكسب مثل هذه القدرة الغريبة كما رأينا في آصف بن برخيا إذ ان اتيانه بعرش بلقيس بهذه السرعة ليس إلا بسبب ما حصل عليه من علم من الكتاب فكيف بمن عنده علم الكتاب، وقد حرر في محله ان القدرة فرع العلم.

5- لقد أشرنا إلي ان الكتاب هو الكتاب المبين وهو كتاب التكوين وهو الحاوي لكل شي ء ومن وصل إلي هذا العلم يدل علي علو منزلته ومقامه وعلي حسب ما أوتي نستطيع معرفة رقيه الروحي، ومن المسلم به في علوم المعارف الالهية أن فضيلة الانسان بمقدار ما أوتي من ربه.

6- ان مقتضي النقاط السابقة هو امامتهم لمن دونهم وان هذه الامامة هداية تكوينية وانها باقية علي مر الزمان، إذ تنزل العلوم والكمالات من المراتب العليا علي النفوس المستعدة لها، وقد مرّ عليك اطلاق الكلمة علي بعض الانبياء، كما انه قد عرفت الفرق بين الكلمة والكتاب التكوينيين، فعلم الكتاب حاوٍ لجميع الكلمات، وإياك أن تحمل هذه الاستعمالات القرآنية علي المجاز والتفنن اللفظي، فإنه كتاب حقائق موزونة ألفاظه واستعمالاته ومعانيه ولطائفه وحقائقه من لدن حكيم عليم، فلاحظ ما ذكرناه في الفصل الاول.

7- ان القرآن معجزة خالدة باقية علي حقانية الرسول وهكذا الامام الذي هو شاهد حي علي مر الدهور علي صدق الرسول، حيث ان شهادة من عنده علم الكتاب لكل افراد الانسانية كما ان القرآن لجميع الانسانية فكذلك الشاهد الآخر يكون شاهدا ابديا علي صدق الرسالة وصدق الكتاب من الحق سبحانه وهو القرآن الناطق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 369

وهذا المفاد عين مفاد حديث الثقلين، وقد اشارت روايات أهل البيت عليهم السلام إلي العديد من الآيات التي يتطابق مفادها مع حديث

الثقلين، وبالتالي فإن هذا الحديث وإن كان متواترا بين الفريقين إلا انه يزداد رصيد اعتباره مفادا وسندا.- وسوف يأتي مزيد بيان في فقه الروايات- والمحصل: ان وجود الائمة عليهم السلام وتصديقهم بنبوة النبي صلي الله عليه و آله شهادة و معجزة علي نبوته صلي الله عليه و آله علي حذو شهادة ومعجزة القرآن الكريم علي نبوته، وهذا مفاد يدق معناه ويلطف في معني معية الثقلين، فوجود الائمة عليهم السلام وعلومهم وسيرتهم وطهارتهم وكمالاتهم المختلفة في الجوانب العديدة التي بهرت العقول دليل صدق علي النبوة، ومن ثم ورد عنهم عليه السلام أن آية «وَكَفَي بِاللّهِ شَهِيداً …» مورد نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام وهي جارية في الأئمة عليهم السلام، ولقد كان تحدي السلطات القائمة دولة بني امية و بني العباس لهم مستمرة علي كافة الاصعدة في العلوم المختلفة والرياضات النفسانية والقدرات الكمالية، وكانوا يستعينون برواد العلوم والفنون والرياضات من الاقطار المختلفة في العالم ومن الممالك المختلفة بل كانوا يستعينون بالسباع فيرونها تخبت لهم خاضعة.

8- يثبت من خلال الآية ان ولايتهم وامامتهم امر اعتقادي وليس من الفرعيات وذلك باعتبار ان المعجزة يجب الايمان بها كالقرآن وهذه الشهادة أمر اعتقادي وهي دليل النبوة، مما يدلل علي أن النبوة والامامة توأمان وقرينان لا ينفك احدهما عن الآخر.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 370

الطائفة الثالثة: آيات الهداية … ص: 370

وهي علي ثلاثة ألسنة:

أ- «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «1»

.«أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي» «2»

.ب- «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي» «3»

.«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «4»

.ج-

«وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً» «5»

.«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً» «6»

.«وَقُلْ عَسَي أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً» «7»

.«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «8»

.إن الهداية الواردة في القرآن الكريم علي انحاء مختلفة:

1- الهداية التكوينية الخلقية «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي» أي الذي خلق كل شي ء، وجعله في صراطه التكويني الذي يؤدي إلي كماله وهدفه، وجعل ذلك في فطرته حتي الكائنات غير الشاعرة غير الارادية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 371

2- الهداية التشريعية الارائية العامة، وهي التي تصدر عن النبوات وشرائع الانبياء وهي معلقة علي العلم والادراك الذي يستطيع ان يصيبه كل احد.

3- الهداية الايصالية للفاعل المختار، وهي التي نبحث عنها بالآيات من القسم الاول ويقابلها الاضلال التكويني، وفي القسم الثالث يتضح أن هذه الهداية معلقة علي العمل والطاعة «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً»، «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ».

فهذه الالسنة الثلاثة تعالج ماهية الامامة، وهي المستبطنة للهداية الايصالية وأما الارائية فتكون تابعة لصاحب الشريعة، ونلاحظ ان القران في مواطن كثيرة يشير إلي أن العمل الصالح له آثار وضعية منها انه يؤدي إلي عمل صالح آخر أكثر من الاول.

و- يظهر من آية سورة الكهف: 24 أن الهداية علي مراتب ودرجات وهي لا تقف عند حد فكلما زاد العمل والسعي زادت الهداية، وما ذلك إلا لأن الكمال لا حد له والقرب الالهي لا يقف عند نقطة معينة، وفي هذا جواب قاطع علي العامة الذين يقولون ان الهداية حاصلة بمجرد التلفظ بالشهادتين بل أن قوله تعالي «وَزِدْنَاهُمْ هُديً» «1»

، وقوله تعالي «وَقُلْ عَسَي أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً» «2»

دليل علي خطئهم.

وتشير آية سورة المائدة إلي تعين الولاية وتشخيص صاحب الهداية الايصالية، مما يعني ان هذا السعي يجب ان يسري عن هذا

الطريق ومن هذا الباب.

أن آية سورة طه التي اشرنا إليها في البداية تدل علي ان الغفران منوط بالولاية لأنها تشترط الايمان والعمل الصالح والهداية وهو اتباع الهادي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 372

المفاد التفصيلي للآيات:

1- إنما أنت منذر ولكل قوم هاد

في هذه الآية الشريفة موارد للبحث:

أولا: من المقصود بالهاد، فقد ذكر البعض ان المقصود هو الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله أي انك هاد لكل قوم، وهذا الاحتمال ضعيف لامور منها: ان الحصر ب (انما) في قبال توهم أن وظيفته صلي الله عليه و آله هي اهتداؤهم بالفعل بتلبية طلبهم بإتيان المعجزة والآية التي يقترحونها.

ومنها: من الجهة الاعرابية حيث سوف يتنازع منذر وهاد الجار والمجرور ولذا لا يجوز توسطها، كما لا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بالواو.

ومنها: ان الانذار هداية ارائية فتكون هاد عطف تفسير، وهو خلاف الاصل الاولي في ظهور الكلام في التأسيس.

ومنها: انه لا يكون هناك وجه لتأخير هاد عن الجار والمجرور

ثانيا: أن الهداية ليست الهداية الارائية بل الايصالية وذلك لعدة وجوه:

* المقابلة بين الانذار والهداية.

* إن الكفار طلبوا من الرسول آية وهي مظهر للقدرة والقدرة مظهر الولاية، وهذا ما يحتاج إلي بيان:

وذلك لان المدعي أن المعجزة التي تظهر علي يد الرسول هو من حيثية ولايته لا رسالته، ويكون جواب طلبهم أنك من حيث الرسالة لا تجري بيدك الآية وإنما ظهور الآية، والمعجزة بيد الهادي ومَن له الهداية الايصالية، والنبي الاكرم حيثياته متعددة ومن هذه الحيثية يكون المعجز علي يديه.

* إن هذه الهداية جعلت عدلا للنبوة باعتبار أنها تحقق الايمان في الخارج وهو غاية الهداية الارائية فإن الايمان في الخارج متوقف علي الهادي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 373

* إن مجيئ أداة العموم (كل) والتنوين في

(قوم، هاد) يدل علي الاستغراق وأن لكل قوم هاد وحيث أن النبي صلي الله عليه و آله محدود العمر و ليس باقٍ في هذه النشأة لجميع الأقوام، فبتكثر الاقوام يتكثر الهادي.

* إن سياق الآيات التالية لهذه الآية يدل علي العلم اللدني، وأن علم الحق يسع ويحيط بكل شي ء وموارد قدرته التكوينية وهو مناسب للهداية التكوينية.

2- الآية الثانية «أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي».

والآية مكية واردة في مقام الاحتجاج مع الكفار، وأن الالهة التي يعبدونها لا تستطيع شيئا وان الهادي هو اللَّه واسناد الهداية إليه لا يختص بالهداية الارائية بل يعم حتي الايصالية، ويكاد يجمع المفسرين ان (يهدي) في الاصل يهتدي ثم قلبت التاء دالا لاجل التخفيف، والمقابلة هنا بين من يهدي إلي الحق وهو عام ولم يخصص كما في قوله تعالي «قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» أي من هو الاحق بالاتباع هل هو الذي يهدي إلي الحق ام من لا يهتدي إلي الحق إلا أن يهدي.

فالذي تكون هدايته من ذاته ومن نفسه هو الذي يكون هاديا، أما من لا تكون هدايته ذاتية وليست من نفسه فإنه لا يكون هاديا للحق فتوجد ملازمة بين الهداية الحقة والهداية اللدنية، فيجب ان يكون الهادي مهتدياً لا بغيره وفي المقابل الذي يهتدي بغيره لا يكون هاديا للحق فتوجد ملازمة بين الاثنين أي ان المهتدي بنفسه هدايته ملكوتية باقدار اللَّه عز وجل. والمهتدي باللَّه لا يقال انه مهتدي بغيره من المخلوقين، إذ الاهتداء بهداية اللَّه كما ورد في قل اللَّه يهدي للحق هو عبر اتباع رسوله واللَّه هو الحق وهداية الرسول إلي الحق هي هداية إلي اللَّه، ونتيجة لهذه الخصوصية في الهداية نقول

ان المراد هو الهداية الايصالية وذلك لان المهتدي بسبب غيره قادر علي الهداية الارائية اما الايصالية فلا يستطيعها.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 374

ثم أن للهداية درجات كما تشير إليه العديد من الآيات كقوله تعالي «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» «1»

، وقوله تعالي «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» «2»

، وقوله تعالي «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً» «3»

مما يدلل علي كون الهداية علي درجات، وفي الاستعمال القرآني أيضا استعملت الهداية في مقابل الضلالة، والهداية بمعني الصراط المستقيم في مقابل بقية السبل المتفرقة.

كما ان في قوله تعالي «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي» «4»

دال علي وجود درجة من الهداية دخيلة في أصل النجاة الاخروية وهذه الدرجة وراء مبدأ الايمان والعمل الصالح، وهذا المفاد كما يلاحظ مقارب لمفاد الطائفة الاولي في واقعة آدم عليه السلام، حيث تبين ان ابليس لم ينفعه إيمانه باللَّه تعالي واليوم الآخر، ولا عبادته بعد عدم توليه آدم عليه السلام وعدم خضوعه وانقياده إليه كخليفة للَّه تعالي، وهذا المفاد في آية سورة طه لمفاد آية الاكمال «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً» فالاسلام بما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد والفروع من الصلاة وغيرها كملت بالذي نزل ذلك اليوم وتم به، ورضا الرب مشروط بما نزل في حجة الوداع عند رجوعه صلي الله عليه و آله في غدير خم في قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»»

، فوعده بالعصمة مما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 375

يحذره صلي الله عليه و آله من الناس وأن من يكفر بذلك الذي انزل

فإن اللَّه لا يهديه، فهذه الهداية هداية زائدة علي ما ذكرنا تشترط في النجاة الاخروية وهي الهداية التي في هذه الطائفة.

الطائفة الرابعة: آيات الملك … ص: 375

قوله تعالي «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً» «1»

.والآية تتعرض للنبي الخاتم صلي الله عليه و آله بأن الآخرين يحسدونه علي ما آتاه اللَّه من فضله ثم يعدد ذلك الفضل بالكتاب والحكمة والملك العظيم، اما الكتاب والحكمة فمعناهما واضح إجمالا فالاول هو النبوة، والثاني هو العصمة كما تشير إليه كثير من الروايات فإن مقتضي الحكمة عدم الزلل.

أما الملك العظيم فيتضح معناه بالالتفات:

أولا: ان آل ابراهيم لم يستلم أحد منهم السلطة والملك إلا سليمان وداود وهذا لا يتناسب مع مجيئه مورد صفة الجمع والمنة علي كل آل ابراهيم.

وثانيا: هذا الملك العظيم لا بد أن يكون مغايرا للكتاب والحكمة ولا يكون غير الاقتدار والسلطنة، وهذا هو الحد الماهوي للملك.

وثالثا: إذا لاحظنا الآية السابقة عنها وهي «أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» فما هو الملك الذي لو أوتوه بني اسرائيل لما اعطوا الناس منه شيئا بالتأكيد ليس هو الملك الظاهري حيث ان المراد من النقير هو المتخلف من التمر في النواة وهذا نوع تشبيه و المراد منه باب المحاجة وبيان المباغضة والحسد الذي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 376

عند اليهود تجاه نبوة النبي صلي الله عليه و آله وهي في مقام النعم الغيبية الالهية التي حباها اللَّه تعالي آل ابراهيم، فإذا كانت لديكم النبوة وما هو من قبيلها من المنح الإلهية فلا تؤتونها أحداً من الناس وتمانعون من وصول هذا الفضل الالهي لأحد، فلا بد من مجموع هذه القرائن أن يكون هذا الملك

ولاية تكوينية.

وهذا يعني ان الملك هو الذي تنبثق عنه النبوة وهو أعظم مقام من النبوة بمعني أن ولاية كل نبي أرفع شأنا من نبوته- لا أن ولاية أي ولي أرفع من مطلق النبوة- وذلك لأن الولاية تعبر عن أرقي مراحل الروح التي ترتقي فيها فترتبط بالفيض عن الذات الازلية، او ترتبط بالذات ويعبر عنه بباطن النفس وهي تنقاد للرب وتعبد الرب منتهي الانقياد والعبادة بحيث تكون مشيئته مشيئة اللَّه وارادته ارادة اللَّه.

فالولاية هي الجانب الملكوتي اما الانباء والنبوة دون ذلك المقام وذلك لانه بتوسط رقي روحه يفاض عليه المطالب العالية حيث أن علومها أوسع من التشريعية وتكون مصدرا لها، ويشير إلي ذلك قوله تعالي «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

، حيث أن الابتلاء كان في كبر سنه بعد ما رزق الذرية، والابتلاء بتوسط ما أوحي إليه كما تشرحه بقية السور، فهو بعد النبوة والرسالة: كان التأهل لمقام الامامة.

ثم بالنظر إلي الآيات الاخري نري ان آل ابراهيم قد أوتوا الامامة وحبوا بها «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا..» «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، فالحبوة التي حبي بها اللَّه آل ابراهيم هي الامامة، وهل يوجد ملك اعظم من هذا! وهذا الملك العظيم هو الذي حباه اللَّه لرسوله

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 377

الاكرم وعترته الطاهرة.

يذكر العلامة الطباطبائي «ان المراد من الملك هو السلطنة علي الامور المادية والمعنوية فيشمل ملك النبوة والولاية والهداية وملك الرقاب والثروة وذلك انه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة فإن الآية السابقة تومئ إلي دعواهم انهم يملكون القضاء والحكم علي المؤمنين وهو مسانخ للملك علي الفضائل

المعنوية … ثم عندما يصل إلي الملك العظيم يقول «تقدم ان مقتضي السياق ان يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية علي هداية الناس وارشادهم ويؤيده ان اللَّه سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلي فضيلة معنوية ومنقبة دينية» «1»، ونحن وإن نقلنا كلام العلامة بطوله إلا أنا لا نتفق معه علي أن كلا من النبوة والامامة داخلتان في الملك العظيم لما ذكرناه من القرائن، ونضيف أن قوله تعالي «قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ..» يدل علي أن القدرة هو علم الكتاب وهو الامامة كما توصلنا إليه.

ثم ان المراد بآل ابراهيم هم النبي وآله وذلك لجملة من القرائن:

- منها ان المقام هو المحاجة والحاسدين هم بنو اسرائيل وحسدهم للنبي صلي الله عليه و آله، ولو كان المراد انبياء بني اسرائيل لكان تقريرا لحجتهم لا دحضا لها فلا بد ان آل ابراهيم لا يشمل بني اسحق.

- ان الناظر في الآيات الاخري:

كقوله تعالي «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 378

وَيَحْيَي وَعِيسَي وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَي اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَاكانُوا يَعْمَلُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا

ذِكْرَي لِلْعَالَمِينَ» «1»

.وقوله تعالي «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلي عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» «2»

.وقوله تعالي «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «3»

.فإن ما في سورة الانعام دل علي ان ابقاء هذا الاجتباء والحبوة الالهية في ذرية ابراهيم متصلة حتي النبي الخاتم صلي الله عليه و آله فإن يكفر بها أي بهذه النعم اللدنية الالهية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 379

(الكتاب والحكم والنبوة) فقد وكلنا …

وهكذا في سورة البقرة أن الامامة متصلة في ذريته وهي ذرية اسماعيل وكذا ما في سورة الزخرف فإن كلمة التوحيد ونفي الشرك جعلها اللَّه باقية في عقب ابراهيم متصلة، ومن الواضح أن الباقي علي التوحيد ونفي الشرك إنما هو في عقب اسماعيل، وتدل كل هذه الآيات في السور علي بقاء هذا الأمر والأمور بعد النبي الخاتم في ذريته التي هي ذرية اسماعيل وابراهيم عليه السلام أيضا.

فيستنتج ان الامامة في عقب ابراهيم و اسماعيل إلي

النبي الخاتم صلي الله عليه و آله ثم في ذريته.

- قوله تعالي «إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا» «1»

، فهذا التشقيق الثلاثي الذين اتبعوه والنبي والذين آمنوا فهو اولي الناس بابراهيم …

- إن ما ورد في دعاء اسماعيل عند بناء البيت العتيق واستجابة الدعاء وأن الامامة في ذريته. وهي الآية المتقدمة في سورة البقرة.

وعلي كل حال فإن المتتبع لآي القرآن الكريم يقف علي ان المراد من آل ابراهيم في اصطلاحه هم محمد وآله عليهم الصلاة و السلام.

الطائفة الخامسة: آيات الاصطفاء والطهارة … ص: 379

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» «2»

، «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 380

تَطْهِيراً» «1»

.«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «2»

، «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» «3»

، «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «4»

.* ونبدأ البحث في آية سورة الاحزاب وقد وردت الآية في ضمن سياق آيات تخاطب نساء النبي وقد اشبع علماء الامامية البحث عن ان المراد منهم اصحاب الكساء خاصة لا نساء النبي ولذا نكتفي بما قرروه و نتحدث في فقه الآية:

- ان في الآية قصرين احدهما ب (انما) والمقصور عليه اذهاب الرجس عن اهل البيت، والآخر هو تكرار الاسم بعد الضمير في عليكم وهو دال علي القصر والاختصاص أي ان المخاطب هم اهل البيت

- ان الارادة هل هي تشريعية ام تكوينية؟ وهذا أيضا بحثه علماء الامامية واثبتوا ان الارادة تكوينية ونشير إلي نكتتين لذلك:

أحدهما: ان الارادة لو كانت تشريعية وان اللَّه يريد تبيين ان الهدف من ارادته- أي من التكاليف- هو تطهير اهل البيت فهو غير مختص بهم عليهم السلام، حيث ان المعني ان ارادته تعالي

متعلقة بصدور الفعل الواجب تشريعا من غيره بارادته واختياره كما في ارادة اللَّه سبحانه وتعالي صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وارادتهم لا مجرد حصولها باعضائهم وصدورها بابدانهم، وحملها هنا عليهم فقط لا خصوصية فيه لان الجميع مخاطبون بذلك كما في «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّي يَطْهُرْنَ.. إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 381

لأن التعليل بالاعتزال لا يختص بأهل البيت، بخلاف ما إذا كانت الارادة تكوينية فهي لا تتخلف أي ان المراد يتحقق لا محالة، فيصح التخصيص في لفظ الآية، هذا مع أن الاغلب في استعمال الارادة التشريعية مجي ء لفظ (أن) التفسيرية متوسطة بين الارادة و متعلقها تدليلا علي التكليف.

الثاني: يبقي التساؤل حول التعبير بالمضارع الدال علي التدريجية لا الدفعية واذا كانت الارادة كذلك فهذا يدل علي ان المراد من الارادة هو التشريعية لا التكوينية إذ ان الارادة التكوينية لا يتخلف عنها المراد فلا مجال للتدريج والاستمرار، مضافا إلي ان أهل البيت استخدمت في القرآن واريد منها الزوجة كما في سارة امرأة ابراهيم «رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ».

اما الاخير فجوابه ان سارة هي ابنة عم ابراهيم فهي من اهل بيت الوصاية وهي من اهل البيت من هذه الجهة لا من جهة زوجيتها لابراهيم. مع انه في هذه الآية أيضا لم يستعمل في خصوص الزوجة، وكذا في قوله تعالي حول موسي عليه السلام «وَسَارَ بِأَهْلِهِ» حيث أن الاطلاق عليها وهي حامل مقرب.

وعلي أية حال فاطلاق الاهل علي ذي الرحم ودخوله فيه لا ريب، وأما الازواج فعلي فرض الاطلاق فليس اطلاق ذاتي بل معلق علي الوصف وهو الزوجية، ويزول بزواله وظاهر الحكم في الآية أنه بلحاظ الذوات هنا، مضافا إلي ما

حرره العديد من الاعلام من ورود الروايات من طريق العامة علي قراءة الرسول صلي الله عليه و آله هذه الآية ستة اشهر علي باب اصحاب الكساء، أي اختصاصها بهم عليهم السلام، مضافا إلي تغاير الضمير بين آيات سورة الاحزاب المخاطبة لنساء النبي صلي الله عليه و آله بضمير جمع الاناث بينما الضمير في الآية بلفظ جمع المذكر كما ان لسان تلك الآيات التحذير والوعيد والتشدد بينما لسان هذه الآية المجد والتودد مما يوجب الوثوق بأن هذه الآية أقحمت بين تلك الآيات عند جمع القرآن الكريم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 382

اما الاشكال الاساس في الارادة فجوابه: أولا: ان الارادة التكوينية علي نحوين اما دفعية واما تدريجية كما في الامطار وارسال الرياح لواقح، وهذه التدريجية لا تقدح في كونها تكوينية وذلك لان الخاصية الاساس لها هو عدم التخلف وهي متوفرة، وكونها تدريجية لا يقدح في كون الارادة تكوينية. اما ان التدريجية تقدح في العصمة فهذا أيضا غير تام وذلك لان العصمة علي درجات فالملائكة معصومون ولكن هذا لم يمنع ان يتركوا الاولي، والمسلمون قاطبة يجمعون ان النبي الخاتم صلي الله عليه و آله بالنسبة إلي ربه تعالي هو في تكامل مستمر ويكتسب الفيض منه تعالي، وان كان بالنسبة لمن دونه لا يصل إليه احد لما له من مقام لا يصل إليه نبي ولاوصي، إذن التدريجية لا تنافي العصمة لان التكامل والسير نحو اللَّه مستمر وهم مكلفون بحقيقة التشريع.

وأما الاشكال: بأن الاذهاب من زاوية التدريج لا يستلزم العصمة، لكن من زاوية اثبات الرجس قبل الاذهاب يدل علي عدم العصمة.

فجوابه: ان هناك مقطعين في الآية احدهما يذهب الرجس والاخر يطهركم تطهيرا فلنتأمل في سر المخالفة بينهما! والسر في هذه المخالفة

انه قد قرر في علم الفلسفة والعرفان وايده الاخلاق ان هناك مقامان مقام التزكية او التخلية ثم مقام التحلية و التجلية، وذلك لان التحلية بالفضائل لا يكون إلا بعد التخلية عن الرذائل وهذا شرط في تحقق التحلية وبدونه لا تتحقق، وفي مقامنا نقول ان اذهاب الرجس تخلية والتطهير تحلية ويلاحظ أن التطهير- وإن كان مستمرا- فعلي حيث لا يوجد فيه دلالة علي الاستقبال بل انه مؤكد بالمفعول المطلق وهذا يدل علي الوقوع الحالي فلا بد من وقوع الاذهاب قبل ذلك، وهذا التطهير غير متناهي.

ثم ان هناك معني آخر لإذهاب الرجس يجتمع مع ما تقدم من المعني وهو بمعني الإبعاد وأن لا يقترب الرجس من الذات والتوقية عن حريم ذواتهم نظير

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 383

قوله تعالي «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» «1»

، أي الصرف فلا يقترب إليه.

والجواب الثاني: يذكر علماء الاخلاق والعرفان ان المرتبة الادني من العصمة هي عدم الرجس وما فوقها كمالات، كما ان ليس كل عدم يطلق عليه رذيلة، وذلك لأن العدميات تصنف إلي قسمين احدهما ما يكون منشأ للرذيلة والشرور والاخر عدم كمال، والمنطقة الاولي من العصمة سميت بإذهاب الرجس، ومنه يبدأ السير التكاملي.

اما المراد من الطهارة في الآية:

فهي في معناها اللغوي مقابل القذارة وقد استعملت في القرآن في مصاديق مادية ومعنوية، اما الاولي ففي النقاء من الحيض وموارد الاستنجاء بالماء، اما المعنوية فقد عبر عن الكفر بالرجس في آيات عديدة «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ»، وقد اطلق فيها الرجس علي احد معاني الشرك أو الالتفات لغير اللَّه.

وللطهارة مراتب ومدارج نستفيدها من نفس القرآن الكريم ففي سورة الدهر «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» في الرواية عن الامام الصادق عليه

السلام قال: «يطهرهم عن كل شي ء سوي اللَّه» «2»

، فهؤلاء الذين ادخلوا الجنة ونعموا بها يبقي هناك مجال للتطهير مع انهم داخل الجنة ولا يدخلها إلا المؤمنون، ولكن مع ذلك يمكن ان ينظروا بانشداد وجذبة في هذه الجنة إلي غير الذات الالهية نظرة مستقلة وهذا معني للشرك دقيق قد لا يلتفت إليه الانسان في حياته اليومية، وفي بعض الروايات نري التعبير ان كل شي ء شغلك عما سوي اللَّه فهو صنم، وهذا يدلنا علي ان الطهارة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 384

لها مدارج عديدة وعجيبة.

* ثم أن هاهنا تحقيق دقيّ يزول به اللبس المتوهم في معني الإذهاب، وذلك بالامعان في هذه النكتة العقلية وهي أن الرفع وإن عرف بأنه إزالة ما كان، والدفع ممانعة الشي ء عن الحصول منذ البدء إلا انه في الواقع يرجع الرفع في حقيقته إلي الدفع لأنه أيضا ممانعة من الوجود غاية الامر بقاءا، إذ أن وجود الشي ء حدوثا لا يشفع في وجوده بقاءا بل هو محتاج إلي سبب ليفيض عليه وجوده أناً فآناً فمن ثم يتضح أن الرفع هو دفع ممانعة عن حصة الوجود اللاحقة لا أن ما هو موجود بالفعل يزال ويعدم في عين فرض وجوده، فإن ذلك تناقض فإن العدم لا يصدق علي نفس الوجود، فمن ثم يتضح أن الرفع أو الاذهاب في حقيقته دفع وليس هناك رفع حقيقي، نعم المصحح للتفرقة هو الوجود السابق ثم لحوق العدم أو العدم من الابتداء، ولكن المصحح للتفرقة لا ينحصر بذلك بل يسوغه أيضا وجود القابلية في المحل، إذ أن الممانعة التي في الدفع لا تصحح إلا بوجود الاقتضاء القابلي وإلا فلا معني للممانعة «لولا التقي لكنت أدهي العرب» وهو ممانعة التكليف، فالاذهاب والرفع والدفع

يصححه الامكان الذاتي والاقتضاء القابلي، فليس يتوقف الذهاب علي الوجود الفعلي كما يتوهم وهذا الذي قررنا باللغة العقلية هو المعني الثاني للاذهاب الذي اشرنا إليه سالفا بمعني الصرف والابعاد للرجس عن حريم الذوات المطهرة.

* اما الآية الثانية وهي «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ء 78 لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».

لقد تقدم البحث في شئون الكتاب في الطوائف السابقة ونشير هنا إلي المراد من المس، وقد ذكر ان المس غير اللمس الحسي بل يقصد به الادراك والعلم به، وعليه يحمل علي ان الكتاب مكنون في العوالم العلوية لا يصل إليه إلا المطهر،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 385

والمطهر بقول مطلق هو الذي عنده علم الكتاب وبهذا يكون التناسب بين هذه الآية وبين الآيات السابقة في الكتاب.

* آيات الاقتران بين التوبة والطهارة.

وهنا نلاحظ ان منشأ التوبة هو منشأ الطهارة، وبيانها العقلي ان كل أوبة وتوبة هو رجوع وسير إلي اللَّه عز وجل إذ هو انقلاع للنقائص، والبعد عن الباري هو سبب النقائص والقرب منه تعالي هو سبب الكمال.

* آيات الاصطفاء.

وواضح ان المراد منها هو الغربلة والانتقاء ومنها «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي الْنَّاسِ بِرِسَالاتِي» «1»

، وهو اختصاص بمقام غيبي واصطفاء آل ابراهيم وآل عمران علي العالمين واضح فيه انه لمقام فوق مقام بقية العالمين، وفي بعض الآيات «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي» «2»

، وهذا سلام مخصوص يدل علي مقام مخصوص.

الطائفة السادسة: آيات شهادة الاعمال … ص: 385

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «3»

.«كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُونَ ء 19 كِتَابٌ مَرْقُومٌ ء 20 يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» «4»

.وقوله تعالي «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 386

فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» «1»

. وهذا المقام هو مقام غيبي

حيث فيه شهادة اعمال الأمة.

«لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «2»

.الكلام يقع أولا في الشهادة علي الناس فليس المراد شهادة مطلق المسلمين بل المراد ثلة خاصة منهم لقرائن:

- لما ورد في آية الحج «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا..» «3»

والتعبير ب (أبيكم) حيث لا يراد منه مطلق المسلمين.

- إن هذه الامة المسلمة التي دعي لها ابراهيم ربه «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً» «4»

، وهذه هي التسمية التي اطلقها ابراهيم عليهم.

- ما ورد في آيات عديدة من خصائص لذرية ابراهيم من الاصطفاء وان ليس كل الذرية مشمولون بكل دعاء وقوله تعالي «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «5»

.- وقوله تعالي «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَي هؤُلَاءِ شَهِيداً» «6»

، ومن الواضح ان مقام الشهادة ليس لكل الناس بل لفئة خاصة حيث يكون الرسول شاهدا علي جميع الامم الغابرة، وهذا يقتضي نوع خاص من التحمل، خارج اطار الحياة البشرية حيث انها قبل ولادة الرسول وبعد وفاته.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 387

- إن سنخ هذه الشهادة التي هي مقرونة برؤية اللَّه تعالي للاعمال تعني أن التحمل لهذه الشهادة ليس من سنخ الادراك الحسي إذ هو ممتنع في حقه تعالي لأنه ليس بجسم، وممتنع في حق رسوله صلي الله عليه و آله والمؤمنون المعنيون في الآية، بحسب أجسامهم البدنية أن يفرض لها الاحاطة بكل الناس مع ان رؤية الاعمال غير مخصوصة بما إذا كانوا في النشأة الدنيوية للتأبيد والعموم في الآية، فيحدس اللبيب بالقواعد العقلية أن نحو الإحاطة بأعمال العباد إحاطة ملكوتية

في طول إحاطة الباري تعالي.

- وقد ورد مثلها في قوله تعالي «وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «1»

، وفي قراءة أهل البيت «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً» حيث فرع غايتين علي الوسطية شهادتهم علي الاعمال وشهادة الرسول عليهم وهذه الوسطية ليست متوفرة في جميع افراد الامة، ففيها الطغاة والظالمين فليس كونهم مسلمين هو الذي جعل لهم تلك الوسطية بل أن الوسطية في الصفات العلمية والعملية والخلقية- بين الافراط والتفريط- علي نحو الاطلاق تعني التوفر علي أكمل الصفات وأعلاها وإلا لم يكن وسطا ميزانا شاهدا وهو يعني العصمة من كل النقائض.

وفي العياشي عن الصادق عليه السلام قال: ظننت ان اللَّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفتري أن من لا يجوز شهادته في الدنيا علي صاع من تمر يطلب اللَّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية، كلا لم يعن اللَّه مثل هذا من خلقه يعني الامة التي وجبت لها دعوة ابراهيم كنتم خير امة اخرجت للناس وهم الائمة الوسطي وهو خير امة اخرجت للناس «2».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 388

إذن ما نستفيده من الآية ان الرسول له مقام الشهادة علي كل الامم والائمة علي كل اعمال الناس، وفي قوله تعالي لعيسي بن مريم «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ» «1»

، فهو شهيد عليهم في زمن حياته، بخلاف شهادة النبي صلي الله عليه و آله فهو مقام شهادة يفوق مقام شهادة بقية الانبياء.

كما نستفيد من هذه الطائفة ان الامام هو رائد قافلة الاعمال الذي له وسطية الفيض في العمل وله احاطة بالعمل، وقد ورد في كثير من تعاريف

الامامة علي لسان الائمة بشهادة الاعمال، فقد روي في بصائر الدرجات بعدة اسانيد معتبرة عن الباقر عليه السلام: أن الامام إذا قام بالامر رفع له في كل بلد منار ينظر به إلي أعمال العباد، وروي بعدة أسانيد أخري أنه يجعل له في كل قرية عمود من نور يري به ما يعمل أهلها فيها «2».

الطائفة السابعة: آيات الولاية … ص: 388

وهي الآيات التي تبين مقامات من ولاية النبي صلي الله عليه و آله في الامة ولسان آخر تبين ان الولاية للنبي وآخرين معينين «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»، «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «3»

.وهذه الآيات وثيقة الصلة ببحث التوحيد في الطاعة وهي آيات اغلبها مدنية وقد اشبعنا البحث حولها في الفصول السابقة، اما هنا فالكلام في نقاط:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 389

* قوله تعالي «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» «1»

.في هذه الآية يطرح بحث حول حدود ولايته وسلطانه، وكما ذكرنا مرارا ليس الغرض من القرآن التفنن الادبي الصرف والتزويق اللفظي المجرد بل الالفاظ لقولبة المعاني وهندسة القواعد وتحديد الحقائق، وأن انتقاء الالفاظ للدلالة علي المعاني المعينة المحددة، وهنا يعبر عز من قائل عن النبي بأنه اولي من النفس فكل ما يثبت انه شأن من شئون النفس فالنبي اولي به وشئون النفس غير منحصرة في الارادة قال العلامة: «فالمحصل ان ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الارادة فالنبي أولي بذلك من نفسه ولو دار الامر بين النبي وبين نفسه في شي ء من ذلك كان جانب النبي ارجح من جانب نفسه.، وكذا النبي اولي بهم فيما يتعلق

بالامور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الاطلاق في الآية» «2».

وهكذا تظهر الاولوية بنصوصية في قوله تعالي «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»»

، وواضح من نزول الآية كون موردها قضية شخصية وهي زواج زينب بنت جحش وهو امر شخصي وهذا يعني ان ولايته تعم حتي الامور الشخصية

- وهاهنا اشكالات قد تطرح علي تعميم الولاية:

1- و حاصله ان ارادة النبي لو كانت في الاغراض الشرعية والامور العامة المهمة التي يعتمد عليها مصير الجماعة فيكون هناك وجه لتقديم ولاية النبي صلي الله عليه و آله، اما لو كانت إرادته صادرة عن أمر نفساني خاص وشوق شخصي فإنه لا يليق بالشريعة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 390

ذلك، وأنه لو كانت الولاية عامة لشملت حتي وطي الزوجة والنظر إلي محارم المؤمنين.

والجواب: أن هذه الأحكام منوطة بعناوين خاصة كالزوجية وعناوين الرحم الخاصة كالابن والاب والعم ونحو ذلك، مضافا إلي عدم كونها أفعالا منوطة بالرضا والاختيار أي بقدرة وولاية الشخص فلم ينط حلية وطء الزوج للزوجة برضا الزوج ولم يعلق حلية نظر لمحرم للمرأة المحرم برضاه، والولاية خارج هذا الاطار وانما الولاية تشمل المواطن التي تناط بالاختيار والارادة وتكون للمؤمن ولاية علي نفسه، وبتعبير آخر الاشياء الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن وليست ثابتة له بعنوان خاص مثل عنوان الولد أو الاب أو الزوج لذا لا تصح المقايسة بين البيع والنظر لان في الاول منوط بالرضا والاختيار لذا يستطيع المالك ان ينيب غيره عنه بخلاف الوطي فإنه لا يعقل ان ينيب فيه أحد عنه والطلاق كفعل مثل انيط برضا بالزوج بما ان له الولاية وحينئذ يثبت للنبي صلي الله عليه و آله.

2- ما ذكره

البعض ان الآية ليست في صدد بيان الولاية الخاصة للنبي علي الامة بل في صدد بيان ولايته علي بيت المال وإمرة المؤمنين بدليل ما ورد في أدلة الارث من أن النبي ولي من لا ولي له، وان الامام من ضمن طبقات الميراث وانه إذا لم يوجد من يسدد ديون الميت فالامام هو الذي يقوم بسداده، مع الاستدلال بهذه الآية في مثل تلك الروايات منها ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله أنه كان يقول: «أنا أولي بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي، ومن ترك مالا فهو لورثته» «1»

، وأمثال هذه الروايات العامة التي تثبت ولايته في الامور السياسية العامة وما يشبه الضمان الاجتماعي في يومنا هذا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 391

ولكن الحق أن كل هذا لا يدل علي تحديد لولاية النبي صلي الله عليه و آله وذلك لأن الآية ظاهرة في أن للنبي مقاماً فوق منزلة النفس يجب الانصياع لها في كل مورد يوجد نفوذ للارادة التي هي في مجال الولاية، وهذه الروايات في الارث لا تتنافي مع هذا الذي ذكرناه وذلك لأنها تعلل وتنزل ولاية النبي علي الامة منزلة الوالد علي الولد وهذه الولاية تعني أنه في موارد التزاحم تنفذ ولاية الوالد بمناط حرمة العقوق ووجوب الطاعة (وهي لا تعني أن يجب ان يستأذن من والده في كل تصرف) وهكذا في مورد البيع أنيط برضا المالك الشخصي ولم ينط بارادة النبي صلي الله عليه و آله، وكذلك بقية التصرفات الاعتبارية انيطت بالملاك الشخصيين ولم تنط بولاية النبي، نعم في بعض الموارد إذا أعمل النبي صلي الله عليه و آله ولايته وارادته تكون المفاضلة له وهي النافذة.

هذا في موارد وجود

الارادة النبوية اما في موارد عدمها فأن صرف الاعتقاد والمحبة هو الذي يكون عليه الفرد المسلم، ويوطن نفسه أنه في بعض الموارد إذا أراد النبي استعمال ارادته.

3- أنه لا يعقل تعميم الولاية للميل الشخصي أي أن النبي صلي الله عليه و آله يعمل ولايته تبعا لرغبات وأمور شخصية، لأنه يكون فيها نوع من الاستبداد الذي ينبذه القرآن والعقل فلا بد من اعتماده ميزانا شرعيا يرجع إليه في تصرفاته، وهذا يعني أن ولايته غير مطلقة بل محددة، وشبيه بهذا ما يقال في الأنفال والأخماس من أنه ليس ملكا شخصيا للامام بل هو للمقام، ويترتب عليه أن الامامة حينئذ لا تكون حيثية تعليلية بل تقيدية، لأنها إذا كانت تعليلية فتكون ملكا شخصيا للامام، وعليه لا يكون المعصوم منطلقا من الميول الشخصية خصوصا في الأمور العامة ومصالح المسلمين.

والجواب: إن في هذا الكلام خلط لأنا عندما نتكلم عن اعمال الولاية في الأمور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 392

العادية والشخصية هل مرادنا هو غرائز المعصوم أم الارادة المعصومة؟ ولاشك أنا نريد الثاني وأصل البحث أن ثبوت هذه الولاية لهم هو بتعليل عصمتهم، فهم آباء هذا الامة فارادته معصومة عن الزلل والخطأ وغرائز الشهوة وكبرياء الذات، ولا يمكن أن تصدر منه نزوة و لا يكون تصرفه صادر عن جهالة، بل إنا من تصرفه نستكشف الارادة الشرعية لأن ارادته هي ارادة شرعية وإنْ لم نعلم جهتها الشرعية، وخلاصة القول:

إن المعصوم غير خال من الغرائز والشهوات كبقية بني آدم، لكن الفارق أن مبدأها هو العقل والارادة الالهية التي تجعل كل فعل يقوم به الانسان يكون خالصا لوجهه الكريم ولا يكون مبدؤها الشهوات الطامحة البهيمية التي تأكل الإنسان العادي، بل القوة العاقلة المتصلة بالافق المبين هي

التي تسيطر علي جميع القوي المادون فتجعلها تسير في خط مستقيم لا ينحرف عن جادة الصواب والحق.

وهذا يقودنا إلي بحث آخر وهو ان الجنبة البشرية في النبي والامام هل تعني الغاء الافعال الغيبية أو ان الجنبة الغيبية للمعصوم تلغي افعاله البشرية؟

وللاجابة عن هذا التساؤل نقول أنه يذكر في اقسام العبادات: عبادة الاحرار وهو من يعبد اللَّه حبا فيه وأنه أهلا للعبادة، وعبادة التجار وهي عبادة من يرغب في الجنة، وعبادة العبيد وهي من يعبد اللَّه خوفا من النار، ومن جانب آخر نري في الادعية حرص الائمة علي العبادة والدعاء خوفا من ناره وطلبا لجنته، وقد ألفت صدر المتألهين- في مبحث المعاد من كتاب الاسفار- إلي ان هذا الرجاء والخوف لا ينافي الاكملية، إذ أن تلبية الغرائز الدانية للنفس ليس ينافي الا كملية دوما فليس كل من طلب بعبادته الجنة فهي عبادة التجار بل توجد روايات تشير إلي أن الذي يعبد طلبا للجنة بما هي جنة من دون غاية أخري فهي عبادة التجار أما إذا أتي بالعبادة طلبا للجنة والنجاة من النار كغاية متوسطة، والغاية النهائية هي اللَّه فلا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 393

يكون خلافا للراجح وتكون هي عبادة الاحرار.

وببيان عقلي ان لكل قوة من قوي النفس كمال تسعي إليه وهذه القوي المادون كمالها هو في النعيم الاخروي والاجر والابتعاد عن النار، فيجعل الانسان سعيه في الدنيا لغرض تسكين تلك الغرائز في النشأة الدنيوية كي لا تمانعه من أن يسير في طريق آخر وهو طريق الحق وسير النفوس في كمالاتها العالية، فالخوف من النار وطلب الجنة هو غاية متوسطة للقوي النازلة حتي لا تمانع من سير النفوس العالية.

وروي في الصحيفة السجادية أنه عليه السلام رؤي بعد منتصف

ليلة متهيأ بأحسن وأجمل هيئة لي سكك المدينة فسئل: إلي أين؟ فقال عليه السلام: إلي خطبة الحور وقصد بذلك التهجد في المسجد النبوي، وفي كفاية الاثر في باب ما جاء عن الصادق عليه السلام في التنصيص علي الائمة عليه السلام في حديث قال عليه السلام: أن اولي الالباب الذين عملوا بالفكرة حتي ورثوا منه حب اللَّه فإن حب اللَّه إذا ورثه القلب استضاء به وأسرع إليه اللطف فإذا نزل منزلة اللطف صار من أهل الفوائد فإذا صار من أهل الفوائد تكلم بالحكمة فإذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة فإذا نزل منزل الفطنة عمل في القدرة فإذا عمل في القدرة عرف الاطباق السبعة، فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه «1».

4- أنه ورد في معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا حضر سلطان من سلطان اللَّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها، وإن قدّمه ولي الميت وإلا فهو غاصب» «2»

فقد قيد صلاته علي الجنازة بإذن ولي الميت، ولم يجعل أولي منه.

والجواب: أن متن الرواية متدافع حيث ان اثبات الاحقية يفيد اولويته علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 394

الكل وعلي ولي الميت، والتقييد بأن قدمه ولي الميت، ينفي الاحقية الخاصة به، إذ أن من يقدمه ولي الميت أحق من غيره سواء كان السلطان أو غيره فلو كان المدار علي تقديم من يقدمه ولي الميت فلا اختصاص لها بالسلطان كما ان الاحقية هي لتقديم ولي الميت، فلو لم يقدمه لما كان أحق، فكيف يجعل الاحقية الخاصة به دون بقية الناس.

فالوجه في مفاد الرواية هو كون المراد ان سلطان اللَّه أحق بالصلاة، وعلي ولي الميت تقديمه علي الجميع، وإلا فولي

الميت غاصب في التصرف فيما غيره وهو السلطان أحق منه، ويعضد هذا التفسير لمفاد الرواية، ما رواه الكليني في الصحيح عن طلحة بن زيد- وهو وإن كان عاميا بتريا إلا ان الشيخ الطوسي وصف كتابه بأنه معتمد- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا حضر الامام الجنازة فهو أحق الناس بالصلاة عليها «1» وقد رواه الشيخ في التهذيب أيضا، فإن ظاهر اطلاقها الأحقية علي الجميع بما فيهم ولي الميت، ويكفي بيانا في المقام قضية زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، فقد روي في تفسير البرهان عن الكليني عن أحمد بن عيسي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه عز وجل «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» قال: أنما يعني اولي بكم أي أحق بكم وبأموركم وانفسكم وأموالكم وللَّه ورسوله والذين آمنوا يعني عليا واولاده عليهم السلام إلي يوم القيامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 395

المبحث الرابع: الامامة في السنة النبوية … ص: 395

اشارة

وجريا علي ما اتخذناه من المنهج فإنا لن نتعرض للروايات الخاصة الواردة في مقامات الائمة عليهم السلام بل سوف ننتقي الروايات التي تواتر نقلها لدي الفريقين والتركيز علي الفقه العقلي والذوق المعرفي.

الحديث الأول: حديث الثقلين … ص: 395
اشارة

وهو حديث متواتر ومشهور بين العامة والخاصة ويظهر التسليم علي أنه قد ذكره النبي الاكرم صلي الله عليه و آله في مواطن عدة حتي قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة وفي أخري أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخري أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخري أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواضع وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة «1».

والاستدلال من طرق العامة في ثبوت هذه الاحاديث له فائدة في افحام الخصم لأن الحديث كلما كان نقلته غير مؤمنين بما ورد فيه كلما كان ابعد عن الرمي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 396

بالتدليس والكذب.

والبيان الاجمالي لهذا الحديث هو: ان النبي اشترط للنجاة من الضلال التمسك بالعترة ومن ثم ورد في كثير من الروايات انهم اعدال الكتاب فلا مجال لمقولة حسبنا كتاب اللَّه ولا أن يقال حسبنا الروايات المأثورة، وعلي حسب تعبير العلامة: ان من يقول حسبنا كتاب اللَّه فقد خالف الحديث وذلك لأن من فارق التمسك بهما فقد فارقهما لا أنه فارق أحد والتزم بالاخر.

ثم أن مقتضي العِدلية هي اتحاد صفاتهما، فإذا كان الكتاب تبياناً لكل شي ء ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه ونور وهدي وغير ذلك هو ثبوت الصفات للعِدل الآخر، ومن ثم تسمي كل منهما باسم الآخر، فهم القرآن الناطق، والكتاب امام لمن استهداه وعمل به.

ومن الغريب بعد ذلك حسر مفاد حديث الثقلين بكون مفاده كالقاعدة الفقهية، وهو كون مصدر التشريع الكتاب والعترة، وحجية اقوالهم، كيف وأن نفي الضلال المشروط بالتمسك بهما ليس مخصوصا بالاعمال الجارحية، بل أن الشطر الاعظم في جانب الضلال هو في العقيدة والمعرفة فبالتمسك بهما يتحرز عنه اولا، وعن الضلال في الفروع ثانيا، كما ان الكتاب الكريم أكثر ما اشتمل عليه هو في المعتقدات والمعارف، وكذلك مجموعة المنظومة الروائية المأثورة عنهم عليهم السلام، وهل يتم التمسك بالكتاب- مع ذلك- من دون الاعتقاد به انه منزل من الباري تعالي، فكذلك في التمسك بالعترة لا يتم من دون الاعتقاد بنصبهم من قبله تعالي، مع ان لازم حجية اقوالهم الاخذ بما يدعون إليه من الاعتقاد بامامتهم.

1- حديث الثقلين في القرآن الكريم: … ص: 396

ذكرنا سابقا ان هذا الحديث الشريف اكد عليه القرآن في ضمن مجموعة من الآيات نستعرضها:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 397

1- قوله تعالي «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

، وقوله تعالي «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ ءٍ» وغيرها من الآيات الدالة علي ان الكتاب الكريم فيه تبيان لكل شي ء ولا يعدوه شي ء ثم نربط هذا بقوله تعالي «هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2»

، حيث ان القرآن- الحامل لهذا النعت المادح لنفسه- لابد ان يوجد من يصل إلي هذا البيان العظيم الذي اقتصر علي الذين اوتوا العلم وصاروا هم المحيطون به احاطة علمية تامة، فقد جعل اللَّه لهذا القرآن عِدلا مطلعا علي أسراره واحاطته، وهؤلاء موجودون ما وجد القرآن، وذلك لأنه لو كان تبيانا ولا يوجد

من يصل إلي هذا التبيان لما كان هناك فائدة من هذا الوصف، واللطيف أنه لم يدع احد من المسلمين علم ما في القرآن إلا هم عليهم السلام.

2- قوله تعالي «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»، وهي دالة علي ان للقرآن مرتبة وجودية تكوينية غيبية لا يصل إليها أحد إلا المطهرون المعصومون، كما نستطيع اقتناص عدة نكات من الآية: آ- أن مس هذا الكتاب المكنون وهو مرتبة للقرآن- قد أشرنا سابقا إلي مؤداها تفصيلا- مختص بالمطهرين مما يدل علي ان لهم رقي روحي يجعلهم قادرون علي الوصول إلي تلك المرتبة، ب- انهم معصومون، ج- ان المؤهل لنيل هذه المرتبة العلمية العالية بسبب الطهارة والعصمة.

3- قوله تعالي «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ». ويستفاد منها:

أ- ان الاستفادة المستقلة من الكتاب من دون توسط الراسخون غير ممكن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 398

ويجب الاستهداء بهم في رفع المتشابه.

ب- كما تدل علي أن المحكم أيضا لا سبيل للوصول إليه من دونهم وذلك لأن المحيط بالمحكم يرتفع عنده التشابه حينئذ حيث انها ام الكتاب والامومة هي في الاحاطة التامة، فهم يهدون إلي القرآن وعليه نستطيع فهم المعية فهما صحيحا فلا مقولة حسبنا كتاب اللَّه تامة ولا مقولة حسبنا الروايات المأثورة تامة بل هما معا.

ج- إن هذه الآية تدل علي وجودهم دائما لأن القرآن موجود دائما والمحكم والمتشابه موجودان فيجب أن يكون هناك من يرفع هذا المتشابه خصوصا أن التشابه في كثير من الاحيان يعود إلي المصداق والتطبيق لا المعني المراد، و

إلي تأويل القرآن تطبيقاته حيث أن كثير من الاخطاء والانحرافات تنشأ من ارجاع الصغريات أو الكليات العديدة المتوسطة إلي الكليات الفوقانية.

ومن هنا ايضا نفهم كيف يقاتل عليه السلام علي التنزيل وعلي التأويل ايضا، ومن هنا نتوجه لمعني ما روي عنهم عليهم السلام أنهم الكتاب الناطق، وأن بدونهم يعني تعطيل الكتاب وترك التمسك به، ومن أمثلة رفع التشابه ما ذكره المشايخ الثلاث وابن حمزة والحلبي ان من فوائد وجوده عليه السلام أنه ينبه بوسائل خفية بوسائط غيبية شيعته، ولذا اعتبروا الاجماع حجة من باب اللطف وأن الامام إذا وجد الاتفاق علي الخطأ فإنه يتدخل لازالته واحداث الخلاف فيرتفع الاتفاق.

د- ان هذه الطائفة تدلل علي وجوب الاتباع في الجزئيات والكليات المتوسطة، ومن ثم يدل علي لزوم الائتمام بهم وهذا هو الهداية الايصالية التي هي حد الامامة، فإذا كان امير المؤمنين عليه السلام قاتل علي التأويل فإن بقية الائمة يهدون إلي التأويل، فليس الايمان فقط بالتنزيل بل المهم ايضا الايمان بالتأويل وأنه بيد ثلة خاصة هم اهل البيت عليهم السلام، إذ ما الفائدة في الايمان بالكليات الفوقانية مع فرض الخطأ في الكليات المتوسطة بدرجات عديدة و في الجزئيات والمصاديق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 399

4- قوله تعالي «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ ءٍ» وقوله تعالي «وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ».

وواضح الارتباط بين الآيتين إذ أن الكتاب الحاوي لكل شي ء ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة وان الذي عنده علم الكتاب هم أهل البيت عليهم السلام.

5- قوله تعالي «كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» الدالة علي أن الصادقين المأمور بالكون معهم موجودون في كل زمان ومكان.

2- أما ما ورد من الالفاظ في الحديث الشريف: … ص: 399

التعبير ب (الثقل) وهو العيار الذي يوضع ليثبت به الميزان، وقد يعبر به عن الثقل والتثبت وأن حركته تكون مطمئنة

فالكتاب والعترة هما اللذان تستقر بهما الحياة المطمئنة الدنيوية، وبارتفاعهما يرتفع الاستقرار، وبهذا المضمون «لولا الحجة لساخت الارض بأهلها».

- (فيكم) مما يدل علي التواجد الدائم وأنه امر يتوصل إليه وليس ممتنعا.

- «ما ان تمسكتم بهما» لم يقيد التمسك بمورد معين أو في مجال ما، بل جعله مطلقا حتي يشمل كل شي ء ومطلق الامور وخصوصا أن القرآن جامع لكل العلوم.

- «لن تضلوا أبدا» تأكيد الاطلاق ب (أبدا) يدل علي عدم الضلال المطلق وهو يعني أنه غير مختص بالارائة فقط بل يعمه إلي الهداية الايصالية وهو يدلل علي ماهية الامامة التي ذكرناه.

- «لن يفترقا» دليل علي العصمة حيث أن العترة مع الكتاب دوما، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، وهذا غير مختص بهذه النشأة بل يدل علي الاتصال في جميع مراتبه ومدارجه

- إن المعية بين القرآن والعترة مؤبدة بدليل قوله «حتي يردا علي الحوض» وهذا يشمل جميع النشآت التالية للدنيوية والبرزخ والبعث وتطاير الكتب … والمراد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 400

من الحوض هو حوض يوم القيامة وقد يشار به إلي حقائق أخري، كما يستفاد من الورود علي النبي انه صلي الله عليه و آله أعلي مكانة ومنزلة ومقاما من العترة ومن الكتاب إذ انه المرجع والمنتهي، وهو المبدأ «إني تارك» لحجية الثقلين وهو المنتهي (علي الحوض) لهما.

3- النظريات في تفسير المعية بين القرآن والعترة: … ص: 400

ثم إن مقتضي المعية الواردة فهي هو التلازم بينهما كما ذكرنا مرارا وهاهنا بحث في تفسير هذه المعية وقد ظهرت ثلاث نظريات في بيان العلاقة بينهما:

النظرية الاولي:

حسبنا كتاب اللَّه وأنه هاد، ولذلك ورد الأمر في تمييز الحجة عن اللاحجة من الروايات في عرضها علي الكتاب الكريم، وهذا مؤيد بأنه المعجزة الخالدة الباقية الذي لا يأتيه الباطل من بين

يديه ولا خلفه، ودور اهل البيت هو كونهم مقدمة للقرآن الذي عليه المدار فإذا وصل واصل إلي تلك المفادات بأي طريقة كانت فبها ونعمت فيكون الآل طريق ليس إلا، ويستدل لهذا البيان بقوله تعالي «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ» «1»

، «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» «2»

فدوره دور المعلم والدال علي طريق التعليم والأصل هو القرآن، ويعضده ما ورد من تحدي المشركين بأن يؤتوا بمثل هذا القرآن فلو كان مغلقا مقفلا لما كان هناك معني للتحدي، بل إن حجية قوله صلي الله عليه و آله مستمدة من معجزة القرآن وحجيته.

وفي مقام تقييم هذه النظرية نري ان أدلة النظرية الثانية وان لم تتم منفردة فهي بلا شك تخدش في تمامية هذه النظرية، ولكن يمكن الاجابة عن هذه النظرية بعدة وجوه:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 401

منها: وجود آيات- قد أشرنا إليها وهي التي ذكرنا أنها دالة علي الثقلين ومعيتهما علي الاطلاق وغيرها- وطوائف روايات عدة دالة علي أنهم المخاطبون بالقرآن وهم القادرون علي فهمه وتأويله، والظاهر من عموم الادلة أنه لا يمكن الإستبداد دونهم والانفراد في فهم القرآن.

منها: أن معجزة الرسالة المحمدية ليس هو القرآن وحده والذي يظهر من النصوص- سواء من حديث الثقلين وغيره- أن مقام النبي الخاتم فوق مقام القرآن، فهو كما ذكرنا المبدأ لهما بمقتضي أنه صلي الله عليه و آله أسند وجود الثقلين في الامة إلي نفسه الشريفة «إني تارك» فهو بمنزلة المصدر لاعتبارهما، وهو المنتهي باعتبار «يردا علي الحوض».

بل أحد وجوه حجية القرآن هي صفات الرسول صلي الله عليه و آله «وَإِذَا تُتْلَي عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ

أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَي إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» «1» «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ» «2»

فأمانته وصدقه ووثاقته كانت بدرجة عالية فائقة تضاهي أمانة وصدق ووثوق المعجزة في الدلالة علي كون القرآن من الباري تعالي، وقد لبث فيهم عمرا لم يأتهم بشي ء لأنه لم يأته من تلقاء نفسه، وهذه كلها من الموثقات علي ان القرآن من عند اللَّه، والتاريخ ينقل لنا ان الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله سأل المشركين: أنه لو اخبرتكم ان العدو وراءكم وراء هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا: بلي انك الصادق الامين، إذن نفس حجية الكتاب من نفس قطع المشركين بصدقه وامانته، وما رأوا من بقية معجزاته، لكنه العناد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 402

والتكبر هو الذي منعهم عن التسليم له.

ومنها: ان الاحتياج إلي الغير في فهم القرآن لا يدل علي نقص القرآن الكريم، بل هو أشبه شي ء بالوادي العميق الذي يحتاج في ارتياده إلي رائد يقود المسير والقرآن فيه المحكم والمتشابه والظاهر والباطن، فالنقص في الواقع هو في الانسان الذي يقرأ القرآن ويتداوله حيث لا يستطيع أن يصل إلي أعماقه، لا في القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين وعلي الانسان ان يغرف منه ما استطاع طبقا لما يمتلك من القدرات والامكانيات العلمية.

ومنها: أن الصحيح بعدما تقدم هو تكافل الحجج الالهية فصفات الرسول صلي الله عليه و آله وبقية معجزاته أحد وجوه حجية القرآن و القرآن هو أحد معجزات النبي صلي الله عليه و آله، ومن عنده علم الكتاب، والراسخون في العلم، والذين اوتوا العلم …

أحد وجوه حجية

القرآن، وهم شهداء للرسول صلي الله عليه و آله، فالتكافل والتشاهد بين الحجج برهانا وفي مقام الدلالة الاثباتية كذلك.

وأخيرا: قد ذكرنا بحثا مبسوطا في الفصل الاول في جواب منهج العلامة الطباطبائي القائل أنه بممارسة السنة يحصل لنا الدربة في طريقة تفسير القرآن بالقرآن.

النظرية الثانية:

ومؤداها حسبنا الاحاديث المأثورة عن العترة الطاهرة وقد نادي بها الاخباريون، واستدلوا علي ذلك بما ورد بأنهم المخاطبون بالقرآن وأنه لا يحيط بالقرآن إلا أهل البيت، وأن القرآن فيه المحكم والمتشابه وله ظاهر وباطن وفيه العام والخاص والناسخ والمنسوخ، وهذا يعني عدم امكان التوصل لنا إلي معانيه المرادة الواقعية، وكذلك يستدل بما ورد من النهي عن التفسير بالرأي والذي فسر علي أساس النهي عن الاستبداد بالرأي، كما يستدل بالحصر الوارد في قوله تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 403

«والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ» حيث أن فيها حصرا في عدم العلم بالتأويل إلا لهؤلاء، وهذا يعني ان المحكم ايضا لا يحيط به كل أحد وذلك لأن للمحكم قيمومة علي المتشابه باعتبار أنه أم الكتاب فلو كان غير الراسخين لهم احاطة بالمحكمات فلا يبقي متشابه حينئذ وعليه يبطل الحصر الوارد ان المتشابه لا يعلمه إلا اللَّه والراسخون في العلم.

وما ذكره الاخباريون من مواد الأدلة متين لكن لا يؤدي إلي ما ذكروه، ونفس أدلة النظرية الأولي تبطل أدلتهم، كما أن النصوص القرآنية لا تجعل المدار علي أقوال العترة فقط بل تنص علي أن للقرآن دورا خصوصا مع روايات العرض علي الكتاب، ونفس الآيات التي مفادها حديث الثقلين وكذا نفس الحديث التمسك فيه بهما معا لا بأحدهما هو المدار في عدم الضلال، بل قد تقدم أن التمسك بأحدهما هو تمسك صوري وإلا فهو في واقعه عدم تمسك به أيضا لأنهما

لا ينفكان عن الآخر فالانفكاك عن احدهما انفكاك عن كل منهما معا.

النظرية الثالثة:

وهي التي نادي بها أغلب علماء الامامية والتي تنص علي المعية علي نحو المجموعية لا الاستقلال كما أفادته النظريتان السالفتان، وهذه المجموعية هي المدار في المعرفة الدينية واستنباط الاحكام الشرعية الاصولية والفرعية، فالتعامل يكون معهما كوحدة واحدة. هذا هو البيان الاجمالي لمفاد النظرية، اما المفاد التفصيلي:

فإن المعية بين الكتاب والسنة علي صعيدين أحدهما تكويني والاخر اعتباري باعتبار الحجية. أما الصعيد الاول فقد اشرنا في بحث الآيات إلي طوائف عدة تشير إلي أن للقرآن حقائق تكوينة و مدارج في عالم التكوين، وأن لأهل البيت حقيقة تكوينية وأن تلك الحقيقتين في الواقع واحدة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 404

ونشير مجملا إلي ذلك ببيان أن المصداق الحقيقي للكتاب هو الشي ء الوجودي الجامع للكلمات الحقيقية فالكتاب له دلالة علي شي ء جامع لكل شي ء وهو شاعر، ومَن تكون له الاحاطة الحضورية بذلك الوجود الجامع، ويكون هناك اتحاد بين العالم والمعلوم والعلم فهذا يعني أن العلم يكون فصلا نوعيا واحدا، وكذا الفصول النوعية للراسخين في العلم والذين أوتوا العلم فهي تدل علي أن الفصل النوعي كمال جوهره ورقيه بذلك العلم، وهو يدل علي الوحدة التكوينية بينهما فهناك معية في مدارج الوجود.

نعم في تنزل هذه الحقائق العلوية تتنزل بكثرة ويعبر عن ذلك في بعض الروايات أن الائمة نور واحد، وقد يعبر عنه في مقام التنزل بالروح الاعظم التي تنتقل من امام إلي امام.

فإذا كان الحال هكذا في مدارج التكوين فهو بنفسه في مدارج الاعتبار، فالوجود الاعتباري اللفظي المصوت أو للنقوش المرسومة في الخط للقرآن في محاذاته وجود اعتباري للامام وهو كلامه، ومما تقدم يتضح أن كلامهم عليهم السلام واحد وإن كان متفرقا

ومجموعه حجة وإن تعددت رواياته، نعم القرآن له اضافة تشريفية في كونه كلام اللَّه وكلام العترة هو دونه وانه كلام المخلوق وفي الجهة الحقيقية التكوينية فإنهم كلمات اللَّه التكوينية، كما في التعبير عن عيسي أنه كلمة اللَّه وهم حقيقة القران.

ومن هنا نفهم لماذا يجب عرض رواياتهم علي الكتاب الكريم بمعني ان المتشابهات من كل من الكتاب والعترة تعرض علي المحكمات منهما جميعا، وما ذلك إلا لأن مصدر الكلام واحد، وقريب من هذا التعبير في عالم الاعتبار والحجية ما يقال إن الكتاب الكريم هو كالمتن، وإن روايات المعصومين هي كالشرح علي المتن وإنهم شارحون لشريعته صلي الله عليه و آله وهادين إليها علي اساس «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 405

قَوْمٍ هَادٍ».

4- خلاصة ما يستفاد من الحديث … ص: 405

1- أن من المسامحة والبعد عن الانصاف حصر مفاد الحديث في التشريع والفروع حيث أن التمسك بهما ورد مطلقا من دون تقييد ومقتضي الاطلاق وجوب الاخذ بهما في الاعتقادات، كما ان مقتضي ذلك هو وجوب الاعتقاد بكل منهما.

2- دوام وتأبيد بقاء امامتهم وهذا التأبيد شامل لعالم الدنيا والحشر.

3- أن النبي صلي الله عليه و آله هو المبدأ لحجية الثقلين والمنتهي لهما وأنه أفضل من أهل البيت عليهم السلام.

4- ان لهم مقام غيبي باعتبارهم عِدلا للقرآن فصفات القرآن المسطورة في الآيات والسور المتكثرة كلها فيهم بمساعدة الآيات الدالة علي الحديث.

5- المعية في الحجية بين الكتاب والعترة فلا يجوز الاكتفاء بأحدهما دون الاخر.

6- مفاضلتهم علي بقية الانبياء حيث أن الكتاب وصف بأوصاف لم يتصف بها أي من الكتب السماوية التي نزلت علي الانبياء، وكونهم عدل الكتاب المتصف بهذه الاوصاف يدل علي مدارجهم الروحية واحاطتهم بهذا الكتاب الذي امتاز بهذه المميزات.

الحديث الثاني: «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» … ص: 405

وهذا من الاحاديث التي ثبتت صحتها من كتب العامة والخاصة والكلام في فقه الحديث.

وللأسف حاول البعض تفسير هذا الحديث سياسيا بمعني وجوب مبايعة الامام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 406

ولو كان فاسقا ولا يجوز ان تكون رقبة وذمة المكلف خالية من البيعة، وقد وجدناامثال هؤلاء في العصر المتقدم كعبد اللَّه بن عمر مع الحجاج عندما ذهب إليه ليبايعه مستدلا بهذا الحديث، وسوف نتناول الحديث في نقاط عدة:

* إن أول أمر يواجهنا في هذا الحديث هو الأثر المترتب علي عدم المعرفة لا عدم البيعة، وهو أن تكون النتيجة كميتة الجاهلية أي أن هذا الانسان مدرج في الذي لم يشم رائحة الاسلام في الآخرة أي بحسب الواقع، ويكأن الرواية الشريفة تعطي مفاد الآية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً» فرضيت كانت متوقفة علي الامامة التي بلّغها الرسول في هذا اليوم وبها يتم الدين والاسلام كمجموع متكامل وكل شي ء مرهون به، وقبله لم يكن رضا، ولذلك قال عز من قائل «وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» وهذه كلها تؤكد المضمون الذي يورده هذا الحديث من أن معرفة والاعتقاد بالامامة دخيل في أصل الدين والتدين بالاسلام بحسب الواقع والآخرة.

* نعود إلي الشرط المذكور في الرواية حيث أنه مطلق غير مقيد بشي ء بل هو المعرفة المطلقة مما يدلل علي أن المطلوب العمدة هو أمر اعتقادي، فليس المطلوب الاهم المتابعة في الفروع ولا المتابعة السياسية بل المتابعة الاعتقادية والمعرفة والتدين والائتمام، وهل يعقل ترتب مثل هذه النتيجة وهي الموت ميتة الجاهلية علي مجرد عدم المتابعة في الفروع، بل الأمر أهم وأكبر وهو محور اعتقادي المعرفة والاعتقاد، ولو فرض المتابعة السياسية المصطلح عليه بالولاء السياسي والمتابعة في الفروع والاخذ من الامام المنصوب أحكام الفروع من دون المتابعة الاعتقادية المصطلح عليه بالولاء الاعتقادي المعرفي لما تحقق أصل التدين بالاسلام بحسب عالم الآخرة والواقع.

* إن الرواية مطلقة من حيث الزمان والمكان فهذا اللسان عام وشامل لكل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 407

الافراد في جميع الازمنة، مما يدلل علي عموم وجود الامام وانه موجود حتي قيام الساعة وهذا يؤيد مدعي الامامية من تأبيد وجود الامام.

* إن الرواية تدلل علي وجود واجب شرعي في قسم من الأصول الدينية علي الفرد المسلم وهو السعي إلي معرفة الامام في كل فترة من فترات حياته فهذه وظيفته التي أوكلها إليه الحق سبحانه ويقع علي عاتقه تشخيص الامام، وإن هذا الواجب جانحي، وإن هذا الامام تناط به النجاة من النار.

* ثم أن هذا الوجوب الاعتقادي- من

قسم الاصول الدينية- دال علي كون المعتقد من الامامة ليس من سنخ حسي مشهود بالآلات الحسية، بل متعلق المعرفة ومتعلق الاعتقاد هو من السنخ الغيبي فمثلا نبوة النبي ليست امرا حسيا بل شيئا وراء الحس ومن قبيل نشأة الروح، وإن كان لها آثار في عالم الدنيا والحس دالة عليها برهانا، وإلا فمثل السماء والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها من الحسيات ليست تتعلق بها المعرفة الدينية، فالمعرفة الحسية والشهود المادية ليس من متعلقات الايمان والمعرفة الدينية، فالايمان ركن متعلقه لا بد أن يكون غيبيا من نشآآت أخري وأن كانت تلك النشآآت مهيمنة محيطة علي الحس، يقصر الحس عن مدرج ظهورها فتكون غيبا عنه، فظهورها الشديد عين غيبها عن الحس.

* وقد ينقض علي هذا اللسان ما ورد من ان من استطاع الحج ولم يحج او سوّف في ذلك ثم مات بعثه اللَّه يهوديا أو نصرانيا، ولكن التأمل في هذا المفاد يبين الفرق بين ان يبعث يهوديا وان يبعث كافرا جاهليا فإن الثاني هو من لم يدخل في الدين السماوي من الاساس أما الأول فهو المعتنق للديانة الالهية إلا انه بعّض في التدين وآمن ببعض وكفر ببعض، فقد تكرر في أحاديث كثيرة ان تكون هناك درجة معينة من العذاب في النار مترتبة علي ارتكاب بعض الكبائر، ولكنه بخلاف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 408

ما نحن فيه من ان المنكر وغير العارف لإمام زمانه يخلد في النار ويموت ميتة الجاهلية، وهو إنما يتفق مع كون الواجب الاعتقادي من اصول الديانة.

الحديث الثالث: في تبليغ سورة براءة … ص: 408
اشارة

وقد ورد الحديث بألسنة متعددة منها: ان جبرائيل نزل علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك، ومنها: لا يبلغ عنك

إلا علي، ومنها:

لا يؤدي عني إلي أنا أو رجل مني.

ولا خلاف في نزول هذا الحديث في امير المؤمنين عليه السلام، ولكن الكلام في مدلول هذا الحديث الشريف الذي ينطوي علي دلالات مهمة تفوق مسألة التبليغ لسورة براءة كما يحاول كثير من العامة تصويرها علي أساس أن من عادات العرب ان لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي صلي الله عليه و آله أن يأخذ سورة براءة- وفيها نقض ما للمشركين من عهد- من ابي بكر ويسلمها إلي علي ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض اهل بيته ويزعمون أن ابا بكر لم ينفصل من امارة الحاج.

وواضح أن هذا التأويل من العامة لا أساس له.

أما أولا: فأي شهادة من التاريخ أن من عادة العرب ذلك بل من عاداتهم أنهم يبعثون في اجراء العهد أو حله علية القوم ومن يطمئنون به، وأي مدرك في سير ووقائع العرب دال علي أنه يجب أن يكون من عشيرة القوم، فهذه قريش في صلح الحديبية بعثت مسعود الثقفي وهو ليس من قريش لإبرام العهد مع النبي صلي الله عليه و آله والواقعة في تبليغ سورة براءة ليست قبلية وعائلية وشخصية بل أمر الهي لا يتحمله إلا من هو أهل له.

وثانيا: إن كتب السير والتاريخ مختلفة في كون أمارة الحاج بيد أبي بكر في ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 409

العام، مضافا إلي أن أبا بكر لم يكن هو الأمير إلي الابد بل تولي الامارة غيره أيضا.

وثالثا: ما ذكره العلامة الطباطبائي: من أن البحث ليس في أفضلية مَن علي مَن، بل الكلام في ما يمكن فهمه من الحديث، و «وليت شعري من اين

تسلموا ان هذه الجملة التي نزل بها جبرائيل: «انه لا يؤدي عنك إلا انت او رجل منك» مقيدة بنقض العهد لا تدل علي ازيد من ذلك ولا دليل عليه من نقل او عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يؤديه لا يجوز ان يؤديه إلا هو أو رجل منه سواء كان نقض عهد من جانب اللَّه كما في مورد سورة براءة او حكما آخر إلهيا علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ان يؤديه ويبلغه»، ثم أن هذا التبليغ يتميز أنه التبليغ الأول عن السماء حيث ان الحكم لم يعلن بعد علي مسامع المسلمين وغيرهم بل اختص به النبي صلي الله عليه و آله، ومن هنا ورد في الرواية أن الكتاب كان لدي ابي بكر مغلق لا يعلم ما فيه وعندما اتي الامام اخذه منه.

وهذا يغاير ابلاغ بقية الاحكام بتوسط من سمعها إلي من لم يسمعها التي كان النبي قد أعلن عنها في ملأ المسلمين في مناسبات عدة، فمقام تبليغ سورة براءة هو مقام الناطق الرسمي عن السماء وهذا لا يعني الشركة في النبوة مع النبي الخاتم صلي الله عليه و آله و سلم لأن الوارد هو لا يؤدي عنك إلا انت أو رجل منك وليس الوارد لا يؤدي إلا انت أو رجل منك، وواضح الفرق بين المعنيين بأدني تأمل.

وبتعبير آخر: أن الذي له أهلية التبليغ عن الغيب يجب أن يكون له ارتباط بالغيب، فلا يبلغ عن تلقيك النبوي إلا لسانك النازل وبفيك أو فاه آخر لكنه من سنخك الذي يسمع صوت الوحي ويري نوره ويشمه، ويسمع رنة ابليس، كما تقدم في الخطبة

القاصعة.

وهذا يفتح الباب لفقه حديث المنزلة (أشركه في أمري) وأن هارون كموسي نبي، وحيث يضفي النبي علي عليّ تلك المنزلة إلا النبوة أي الانباء فبقية الصفات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 410

تكون ثابتة للامام بمقتضي حديث المنزلة، كما يتضح معني الحديث «يا علي انا وانت ابوا هذه الامة» والظاهر أن هذا المقام من مختصات علي أمير المؤمنين، وهكذا نفهم المؤاخاة بينهما في المدينة ليست اعتبارية بل تكوينية حقيقية.

فالمدلول الذي نستفيده من الحديث أنه يشير إلي مقام للامام عليه السلام وأن مقام تأدية الاحكام الالهية لا يكون إلا للنبي أو من يؤديه عنه وهو منه، ونستفيد منه أن ما يبلغه الامام وبقية الائمة لا ينحصر فيما بلغه النبي بل حتي الموارد التي لم يبلغها للامة فهم يبلغونها عنه، وتشمل الأخذ عن مقامه النوري بعد مماته كما هو الحال في مصحف فاطمة عليها السلام، لأن عنعنتهم عن النبي ليست روائية حسية سماعية كما هو المتعارف في نقلة الحديث خاضعة لشرائط الحس والمشاهدة، بل هي عنعنة نورية.

وقد روي الصدوق في العيون «ان المأمون سأل الرضا عليه السلام: ما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال عليه السلام: اما بلغك قول الرسول صلي الله عليه و آله اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللَّه، قال:

بلي، قال: وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور اللَّه علي قدر ايمانه ومبلغ استبصاره وعلمه وقد جمع اللَّه في الائمة منّا ما فرقه في جميع المؤمنين، وقال اللَّه عز وجل في محكم كتابه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» فأول المتوسمين رسول اللَّه صلي الله عليه و

آله ثم امير المؤمنين عليه السلام من بعده، ثم الحسن والحسين والائمة من ولد الحسين عليهم السلام إلي يوم القيامة، قال: فنظر المأمون فقال له: يا أبا الحسن زدنا مما جعل اللَّه لكم أهل البيت، فقال الرضا عليه السلام: إن اللَّه عز وجل قد ايدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك ولم تكن مع أحد ممن مضي إلا مع رسول اللَّه وهي مع الائمة منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 411

بيننا وبين اللَّه عز وجل» «1»

.ومن هنا يجب ان نهتم كثيرا بإزالة هذا الالتباس عن أذهان الجميع من ان روايتهم ليست رواية بالموازين العادية أوان حجية اقوالهم بما أنهم رواة.

ونتجاوز اطار اللفظ إلي عمق المعني لنقول إن هذا الحديث يدلنا علي حجية الزهراء البتول عليها السلام وذلك من جهة ان المناط في حجية المؤدي عن النبي صلي الله عليه و آله هو الوصف المتعقب للرجل وهو (منك) وهذا الوصف يدل علي عدم خصوصية الرجل بل الوصف هو المهم وقد ورد في الحديث انها منه صلي الله عليه و آله، فما تؤديه عن النبي لا ينبغي التشكيك فيه، ومن هنا كان مصحف فاطمة مصدر لعلوم الائمة عليهم السلام.

اشكال ودفع: … ص: 411

قد يقال ان رواة الحديث الذين ينقلون الحديث عن المعصومين لهم هذا المقام، حيث يسأل الامام حول مسألة معينة ولم يكن الامام قد أظهر الحكم فيها قبل ذلك، ويكون دور الراوي نشر هذا الحكم بين أهل مدينته أو قبيلته وما شابه ذلك؟

والجواب عن هذا الاشكال: أن الحديث يتحدث عن مقام خاص اختص به الامير عليه السلام، وليس الحديث عن مسألة شرعية سألها أحد المسلمين بتلقيه حسا عن حس المعصوم، وهذا المقام هو مقام التلقي

النبوي الذي حازه النبي الأكرم صلي الله عليه و آله، ولو كان هذا التلقي عن الوجود النازل لمقام النبوة لما قيل في الحديث القدسي لا يؤدي عنك إلا أنت أو … فتأدية النبي صلي الله عليه و آله عن نفسه، ليست بمعني تأدية حسه الشريف عن حسه بل هو نحو من التجريد وتأدية المراتب النازلة من وجوده

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 412

الشريف عن المراتب العالية من روحه المقدسة، وعن مقام التلقي للوحي في درجة وجوده، فالذي يبلغ عن ذلك المقام من روحه وجوده النازل أو رجل منه يتلقي عن ذلك المقام، فعلي عليه السلام يتلقي من المقام الروحي النوري النبوي كما تتلقي القوي الادراكية النازلة في نفس النبي صلي الله عليه و آله عن المقام الباطن لروحه الشريفة، ومن ذلك يتضح أن عليا في حين أخوته للنبي صلي الله عليه و آله إلا ان النبي صلي الله عليه و آله يمتاز عليه وعلي بقية الائمة عليه السلام انهم يتلقون مما قد تلقاه المقام الروحي النوري النبوي أي في طوله متأخرا عنه.

فالتصريح بأنه لا يؤدي عنك أي عن هذا المقام الذي انت فيه إلا انت او رجل منك، والترديد هو لإفادة كونكما في نفس هذه المرتبة الصالحة للتأدية عن مقامك النوري.

وجواب ثالث: أن المعصوم في السؤال والجواب العاديين لا يكون غرضه تخصيص السائل دون غيره بالحكم بل أي شخص أتي وسأله هذا السؤال لكان أجابه بنفس الحكم لأنه أدي إليه الحكم عبر قناة الحس إلي حسه، فليس المقام مقام تبليغ حكم عن السماء وكون المبلغ هو الناطق الرسمي، بل من باب الاتفاق اختص هذا السائل بهذا الحكم، ثم إن الحصر الوارد في هذا الحديث القدسي عن رب

العزة بالحصر في التأدية بهذين دليل علي ان هذا لا يشمل مقام الرواية.

الحديث الرابع: «ان اللَّه يرضي لرضا فاطمة» … ص: 412

إن هذا الحديث من الاحاديث المهمة التي نستفيد منها عصمة الزهراء البتول، وليست المسألة هي مداراة من العلي القدير لنبيه الاكرم في تبجيل ابنته التي يحبها، بل هو مقام حباها اللَّه به، حيث تكون هي ممثلة لرضا اللَّه جل وعلي ويكون رضاه برضاها، وهذا يعني أنها لا تفعل المعصية لأنها ممثلة لرضا الرب وغضبه.

وقد ذكرنا سابقا في بحث المراتب الوجودية للانسان وتنزل العلوم ان للانسان مراتب ثلاث هي مرتبة العلم الحضوري ومرتبة العلوم الحصولية ومرتبة القوي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 413

العملية التي هي دون المرتبتين، وسلامة الافعال تتوقف علي مدي المطابقة بين هذه المدارج الثلاث حيث تتنزل الارادات الالهية من دون عوائق، ولا تكون هناك مشاكسات من القوي المادون وذلك إذا ما ابتلي بالامراض والوساوس والبلادة والحدة أو سلطنة الغرائز النازلة.. وقد استعرضنا ذلك بنحو التفصيل وشواهده من الآيات القرآنية.

وبناء علي هذا فعندما يقال ان الرضا الالهي هو برضا أحد عباده فهذا يعني أن هذا العبد هو ممثل للمشيئة الالهية ويكون كل حركاته وسكناته لا تتخلف عن المشيئة الالهية، وهذا يعني ان تكون القنوات التي تسير فيها علوم الانسان وهي ما تقدم ذكره غير مبتلاة بأمراض ادراكية ولا عملية، ولا يكون هناك عائق أمامها فتتنزل صافية من دون كدر، وهذا ليس تأليها بل هو استقامة في مدارج الوجود فيخرج العمل مظهرا للارادة الالهية، وعلي هذا البيان لا تنحصر عصمة في الموضوعات الكلية بل تشمل الجزئيات الخارجية ولا يشذ عنها مورد، وقريب من هذا المعني الحديث الذي ينص علي ان عليا مع الحق والحق مع علي، إذ لا يمكن أن تكون هناك موائمة بينه

وبين الحق إلا إذا افترضنا ان هناك عصمة علمية عملية تجعل كل تصرفاته نابعة عن العلم الحضوري وأن اراداته تمثل الارادة الالهية.

ومنه نستطيع الربط مع الاحاديث التي تبين كيفية تلقي الامام عليه السلام عن النبي الاكرم صلي الله عليه و آله حيث لا يكون التلقي من الوجود البشري للنبي صلي الله عليه و آله، بل هو تلقي عن مقام النورية للنبي وخصوصا في مثل الحديث القائل «علمني رسول اللَّه الف باب من العلم ينفتح من كل باب الف باب»، حيث لا يوجد تفسير لها علي نحو العلوم الحصولية، بل هي الوراثة النورية التي ورثها النبي صلي الله عليه و آله للائمة الاطهار، وعليه يكون أداء الائمة عن النبي ليس عن مرتبته الوجود الحسي له، بل عن المرتبة النورية.

وقد اورد علي هذا التقريب لفقه الحديث عدة نقوض حاصلها: انه قد ورد في الاحاديث والآيات القرآنية تصريح برضا اللَّه تعالي عن بعض المؤمنين، مثل «قَالَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 414

اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «1»

، وورد في موارد اربعة قوله تعالي «رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ» الفتح 18، المجادلة 22، البينة 8، التوبة 100، ما ورد في الحديث الشريف «رضي اللَّه عن عمار»، وان ابا ذر لا يكذب قط.

وهناك جواب تفسيري عن هذه الاحاديث ينفع جوابا كليا عن هذه الموارد نذكره: وهو ان العصمة علي درجات وليس كلها من نحو واحد، فإن منها العلمية ومنها العملية ومنها الذاتية ومنها الافعالية أي في مقام الفعل دون الذات، وكل منها فيه شدة وضعف، وقد مر بعض الحديث عن ذلك في آية استخلاف آدم والفرق

بين عصمته وعصمة الملائكة، كذلك هناك مقامات تتلو آدني مراتب العصمة كمقام الحكمة الذي من أوتيه أوتي خيرا كثيرا كما وردت الاشارة إليه في الآيات، وكمقام الصديقين ومقام أهل الفوائد ومنهم من يعطي علم البلايا والمنايا وغير ذلك من المقامات.

ويشير إلي تلك المقامات حديث الامام الصادق عليه السلام الذي رواه الخزاز القمي في كفاية الاثر: 253، وهي مقامات من سنخ غيبي وهيبة ملكوتية بحسب تولي الشخص وتسليمه لأوامر اللَّه تعالي ونواهيه الالزامية والندبية وطوعانيته لاراداته.

فلا يقال بامتناع انوجادها في من يتلو المعصومين من المؤمنين المتمسكين بحبل اللَّه كالاوتاد والابدال الذين اخلصوا في طاعة اللَّه، مثل لقمان الذي لم يكن نبيا ومع ذلك اوتي الحكمة وهي نحو يتلو العصمة العلمية، وكما في ذي القرنين الذي ورد عن امير المؤمنين عليه السلام أنه رجل أحب اللَّه فأحبه اللَّه وآتاه ما تذكره سورة الكهف، و مثل زينب عندما قال لها الامام زين العابدين يا عمة انك عالمة غير معلمة، وفي السيد محمد ابن الامام الهادي عليه السلام وابي الفضل العباس وغيرهم من ابناء الائمة وهكذا عمار وابو ذر، مضافا إلي انهم ممن ائتم بإمامة أهل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 415

البيت عليهم السلام وآمن بالمقام الغيبي للائمة ويتولون أهل الكساء وممن يتشفع بهم، وهذا المقدار لا يجعل مقامهم مقام الائمة.

وقد ذكرنا في علم الكلام وعلوم المعارف أن الصفات الكمالية وإن كانت مشتركة بين الخالق وعبده ولكنها ليست بمرتبة واحدة كالصدق فقوله تعالي «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا» و النبي الاكرم صلي الله عليه و آله هو الصادق الامين أيضا، لكن اتصاف الحق تعالي بهذه الصفة في مرتبة واجب الوجود- لا متناهية- غير مرتبة اتصاف الرسول الاكرم بها، وهذا التفاوت في

الدرجات حاصل أيضا بين المعصوم وغيره اذ ان رضا اللَّه لرضا المعصوم غير رضاه علي عمار او ابي ذر لأنهم آمنوا بالمعصوم واعتقدوا به فهم في مرتبة تلي المعصوم، وروايات كثيرة تشير إلي الاوتاد وان وجودهم هو حفظ لمدنهم او لمن يحيط بهم، كالذي ورد عن الرضا عليه السلام في زكريا بن آدم «1» والذي ورد في سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار «2»، كما تشير المصادر ان عمار انما وصف بهذا الوصف في سياق نصرته وولائه لعلي عليه السلام «3».

اما الجواب التفصيلي:

1- اما آية المجادلة «لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، وهذه الآية لا ينقض بها علي ما تقدم وذلك لأن الرضا الالهي مترتب علي الاتصاف بهذه الاوصاف الخاصة وهي الايمان باللَّه واليوم الآخر و عدم موادة من حاد اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 416

ورسوله، كتب الايمان في قلوبهم، التأييد بروح منه و الاتصاف بها مورد رضا اللَّه وهو يختلف عما نحن فيه حيث ان الرضا مترتب علي ذات فاطمة من دون تقييدها بوصف معين ولا زمان ولا مكان معين بل هو عام شامل ومطلق، اما ما ورد في الآية فهو رضا للوصف لا لذات هؤلاء بما هي هي.

2- وقريب منه ما في سورة البينة حيث أن الرضا هو للوصف ويزاد عليه ما ختمت به الآية من ان «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» أي مقيد بالخشيه منه تعالي وإلا ينتفي عنه الرضا،

مضافا إلي ان المفسرين ينصون علي انها نزلت في علي عليه السلام، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية خير البرية من السورة.

3- آية الفتح: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» وهذه الآية الشريفة تؤكد نفس المدلول من ان الرضا هنا بالوصف وهو الايمان لا انه مطلق وذلك مع ان مطلق المسلمين قد بايع لكن الرضا لم يكن عن الكل، ويؤيد ذلك «إذ التعليلية حيث أن الرضا نتيجة الفعل الصالح وهو المبايعة تحت الشجرة وليس رضا بالذات، ثم إن تمامية المبايعة والحصول علي الرضا الالهي مناط بالموافاة والبقاء علي العهد حتي الموت، وهكذا آية المائدة التي ذكر فيها الرضا مقيدا بالوصف وهو الصدق مع شرط الموافاة.

4- أما آية التوبة «وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» فالجواب عن النقض بها مضافا إلي الاجوبة السابقة..

أ- ورد في الحديث في ذيل الآية انهم هم النقباء وابوذر والمقداد وسلمان وعمار ومن آمن وثبت علي ولاية امير المؤمنين عليه السلام «1». ويشهد لذلك و لعدم إرادة العموم أن سورة التوبة تقسم من صحب النبي صلي الله عليه و آله من المكيين والمدنيين إلي اقسام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 417

عديدة كالذين في قلوبهم مرض، ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق، الذين يلمزون المطوعين، المخلّفون، الذين يؤذون النبي، المنافقون وغيرهم.

ب- إنه ليس فيها تعميم لكل المهاجرين والانصار بل خصوص السابقين، بل خصوص الأولين من السابقين، بل خصوص الاولين من السابقين.

ج- إن اصطلاح السابقون تشرحه الآيات القرآنية «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ومن هم المقربون «كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» فهم شهداء الأعمال الذين

لا يكونوا بشرا عاديين إذ لا يمكن أن يشهد الأعمال إلا البشر الذين يكون لهم نفوس خاصة هي عِدل النبوة، كما تقدم مفصلا.

د- إن الآيات في سورة المدثر تشير إلي أن بعض من أسلم أول البعثة من المنافقين من الذين في قلوبهم مرض أي أن اسلامهم لم يكن عن ايمان فلا يمكن أن يراد منها السابقون من المهاجرين والانصار علي العموم، وكذاما في سورة العنكبوت المكية الآية 1- 13 وسورة النحل المكية: 107- 110.

ه- ورد في الرواية ان المقصود من السابقين علي عليه السلام ومن الانصار الحسن والحسين، والذين اتبعوهم باحسان هم الائمة الذين لم يدركوا النبي صلي الله عليه و آله، ويشهد لذلك ما تقدم من إرادة شهداء الاعمال من السابقين الاولين.

و- ان (من المهاجرين) ليس متعلقا و لا معمولا للسابق بل للفاعل المضمر فيه إذ لا تصلح (من) التبعيضية للتعلق لمادة السبق، ولو أريد ذلك لأتي بلفط (في الهجرة) ونحوه، وهذا يعني أن (السابقون) وصف مستقل و (المهاجرين) وصف مستقل آخر لهؤلاء الاشخاص، لا أن المراد السابقون هجرة كما يريد البعض تصويرها.

ز- أنه ورد في العديد من السور تأنيب الصحابة الذين خالفوا أوامر الرسول، ونجد ذلك في سورة الانفال وهي من أوائل السور المدنية وتتعرض لغزوة بدر، وتقسم مَن شهد بدرا إلي صالح وبعضهم طالح، وكذا سورة آل عمران تتعرض لمَن شهد أحدا وتقسمهم إلي ثلاث فئات واحدة صالحة مخلصة واثنتين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 418

طالحتين، فلاحظ سياق مجموع الآيات في السورتين، وكذا سورة الاحزاب في مَن شهد الخندق وسورة محمد، وفي سورة التوبة نفسها وهي آخر ما نزل في المدينة تقسيم مَن صحب النبي صلي الله عليه و آله من المكيين والمدنيين إلي

فئات عديدة كما تقدم وتشير إلي فرار المسلمين في حنين إمام الزحف إلا ثلة من بني هاشم

ومن هنا لا نستطيع القول ان الآية شاملة لكل من أسلم مع الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

وهناك نكتة تشير إليها الآية وهي أن التابع موصوف بالمحسن فكيف بالسابق إذ مقام الاحسان ليس من المقامات العادية حيث ورد في القرآن «لَيْسَ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» «1»

، فهو مقام بعد الايمان والعمل الصالح والتقوي بدرجات من المنازل العلوية، ثم المذكور في هذه الآية هو التابعين المقيدين بقيد الاحسان، وهذا لا يكون إلا في المعصومين الذين لم يشهدوا الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

وورد في رواية أن عليا عليه السلام قرأ هذه الآية في زمن عثمان وقرأ بعدها آية السابقون السابقون وقال: من يشهد أنها نزلت فيمن؟ فشهد عدة من الصحابة أنها نزلت في الانبياء والاوصياء وفي علي، وكذا ينفي العموم ما ورد في مسلم (كتاب الفضائل- باب حوض النبي صلي الله عليه و آله) والبخاري (كتاب الفتن) مِن عرض الصحابة علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عند الحوض، إلا أن جماعات منهم يحال بينهم وبين رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ويذادون عن الحوض فيقول: اصحابي اصحابي، فيقال: لقد أحدثوا أو بدلوا بعدك، فيقول: بُعدا بُعدا «علي اختلاف في الفاظ الحديث، وهي تؤكد ان الصحبة ليست هي الموجبة للنجاة بل الموافاة علي منهاج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حتي الممات هو المناط في النجاة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 419

الحديث الخامس: … ص: 419

«علي مني وانا من علي»، هذا الحديث

الشريف الذي تواتر نقله في كتب العامة والخاصة، دال بلا ريب علي النشوية وهي ليست البدنية فقط بل هي وحدة بلحاظ الروح و النورية، وفي بعض الروايات قال جبرائيل وأنا منكما، وهذا يدل علي ان الوحدة من سنخ الملك الغيبي العلوي اللطيف، وقريب من هذا المعني ما ورد من «الناس معادن شتي واشجار شتي وانا وعلي من شجرة واحدة»، وبنفس البيان حديث النور الوارد كنت انا وعليا نورا بين يدي اللَّه..

الحديث السادس: قاتلت علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل … ص: 419

والتنزيل هو تلقي المقامات الكلية لحقيقة القرآن الكريم، والتأويل هو تطبيق تلك المقامات الكلية علي الموارد الدرجات المتوسطة و الجزئية العديدة، ولا يمكن لشخص أن يحيط بكل تأويل القرآن إلا أن يكون قد أحاط بمراتب القرآن وأن تكون قواه خالية من الزلل والزيغ ومنه يعلم أن النبوة في التنزيل والامامة في التأويل فهي تلو النبوة الخاتمة ومشتقة منها ومترتبة عليها، وفي كثير من الاحاديث نري ان النبي صلي الله عليه و آله يقرن بين النبوة والامامة المتمثلة بشخص النبي الاكرم صلي الله عليه و آله وعلي عليه السلام، مع بيان الفاصل بين الشأن النبوي والشأن الولوي.

تذييل: … ص: 419

بعد هذا الاستعراض لفقه الروايات الواردة في الامامة نحاول ان نذكر عدد من التوصيات التي تنفع في المقام:

اولا: أن قدماء الامامية تبعا للطرق المبيّنة في الكتاب والسنة للمعصومين عليهم السلام قد ذكروا عدة مناهج لأثبات امامة الائمة الاثني عشر- سواء من متكلمي الرواة أو متكلمي الغيبة كالشيخ المفيد والمرتضي والطبرسي- ونحن نشير إلي تغاير صياغات أدلتهم ومواد قوالبها تنبيها علي تعدد اشكالها وموادها المنطقية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 420

منها: التدليل علي الكبري بما ورد نصوص عديدة تنص علي ان الخلفاء بعد الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله اثنا عشر، وفي بعضها أنهم من قريش، وفي بعضها أنهم من بني هاشم، وهذه طائفة من الاحاديث.

وقد وقع العامة في بلبلة وتشويش في كيفية التطبيق الخارجي للخلفاء الاثني عشر، واختلفت اقوالهم وبعض جعل بينهم فاصل ولم يشترط التتابع، وبعض أنهاهم قبل يوم القيامة مع أن في بعض الالسنة أنه هؤلاء الخلفاء حتي يوم القيامة، ولو بحث الباحث عن الحقيقة بعيدا عن التعصب لا يري مصداقا لهذا الحديث إلا لدي الامامية الاثني عشرية

حيث لا يوجد طائفة لديها تفسير لهذه الطائفة المتواترة إلا لدي الامامية الاثني عشرية، حيث أن الامامة المنصوبة المجعولة من قبل اللَّه تعالي عندهم إلي يوم القيامة هي في الاثني عشر.

ونشير إلي نكتة مهمة يلحظها المطالع لكتب التاريخ انه لم يدّع احد لنفسه هذه المقامات وأنها خلافة الرسول طبقا لهذا الحديث إلا الائمة الاثني عشر، فكانوا يدّعون علم الكتاب كله وكانوا علي مرأي ومسمع من الدول الاموية والعباسية قرابة ثلاثة قرون، ولم تفتأ تلك الدولتين من امتحانهم في العلوم المختلفة ومسائل الدين وأحكامه، بل كانوا يمتحنونهم في الفنون المختلفة وفي الصفات البدنية بغية منهم أن يقطعوا عليهم دعواهم، ولم تكتفِ الدولتين بما كان لديها من أفراد في العلوم المختلفة بل كانت تستعين بعلماء النصاري واليهود والروم والهند وغيرها، وبأصحاب الرياضات المختلفة، وبمختلف وسائل القوي روما في دحض دعوي هؤلاء الائمة الاثني عشر.

لكن الرصد التاريخي ينبئنا بفشل الدولتين في ذلك، وفشل علماء الفرق الاسلامية الاخري في مقابلتهم، بل كان نجمهم يزداد تلألأ مما يضطر السلطات إلي تصفية وجودهم المبارك، فكان ذلك تحدي واعجاز للبشرية أجمع طيلة قرون ثلاثة.

وقد تحدوا جميع مَن حولهم أن يُقدِموا علي مساجلتهم وقطع حجتهم ولم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 421

يظفر احد علي ذلك، ومناظراتهم مع اليهود والنصاري اكثر من ان تحصي، بل انا نجد ان الائمة المعروفة الان قبورهم قد تواتر بين كل المسلمين انهم هم الذين ادعوا الامامة بهذا المعني من السفارة الالهية والخلافة للَّه في أرضه ولم يدعها غيرهم.

ثم اذا تساءلنا عن كيفية الخلافة وانها في أي شي ء؟ نجيب: أن الحديث مطلق واذا ضممنا إلي ذلك ان الزعامة الدنيوية لم يتولها إلا البعض منهم فقط، وحينئذ يكون الحديث لا اثر له مع

تواتره وتعدد المواضع التي ذكّر الرسول امته بهؤلاء، وهذا يدلنا علي ان مقام الخلافة عمدتها في المقامات الغيبية وهي المهمة بدليل انهم لم يتولوا الزعامة الدنيوية إذن مقام الامامة لا ينحصر بالزعامة الدنيوية بل يشمل المقام الغيبي.

ومنها: الاجوبة العلمية الاعجازية في المسائل العلمية التي كان علماء اليهود والنصاري وغيرهم من اصحاب الملل والنحل التي دخلت الاسلام يسألون عنها وهي اسئلة يمكن القول انها فوق افق البشرية، وهذه الاجوبة تكون مقدمة لكبري ان من يستطيع الاجابة عنها لا بد ان يكون له نحو من العلم يختلف عن بقية البشر ومستقي من معين خارج اطار القدرات البشرية العادية، ويثبت بذلك اهليتهم وامامتهم وافضليتهم وقد اعتبرها الطبرسي من الدلائل الصريحة علي امامتهم.

وهذه الاجوبة لا زالت تتحدي المعارف والعلوم البشرية و مادة اعجازية لبيان امامتهم من اللَّه تعالي، فمثلا في علم المعرفة الالهية ببركة كلماتهم المبسوطة المتكثرة ننفي التجسيم عن الذات الالهية ولوازم الجسم من الاين والمتي والكيف ونحوها، حتي أصبح الامر من البديهيات في الدين الاسلامي مع ان بعض الفرق الاسلامية لا زالت مجسمة فيما يسرونه من اعتقادات.

وكذلك ببركة كلماتهم عليهم السلام ننفي الجبر والتفويض حيث اثبتوا الاختيار والأمر بين الأمرين، وبكلماتهم أبانوا عن عينية الصفات للذات وأن الذات في عين بساطتها هي عين كل كمال حتي صفة العلم، بينما بقية فرق المسلمين يجعل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 422

الذات جوفاء خالية تتبعها الصفات الكمالية، بل أن ذلك حتي في فلسفة البشر المشائيين والاشراق فأنهم يخلون الذات من العلم وأنه عبارة عن الصور المرتسمة أو عين الفعل، بينما يقول الصادق عليه السلام: ان الذات الالهية علم لا جهل فيه قدرة لا عجز فيه نور لا ظلمة فيه حياة لا موت

فيه.

وكذلك كلامهم في التوحيد وتوحيد العبادة وأن مَن عبد الاسم دون المسمي فقد ألحد، ومَن عبدهما فقد أشرك، ومَن عبد المسمي دون الاسم فقد وحّد، ومراده عليه السلام مطلق مدارج و درجات الاسم، وهذا من البحوث العرفانية الوعرة التي لم تفتق معرفتها في البشرية قبل ذلك.

وكلماتهم في ان الارادة صفة فعل لا صفة ذات وغيرها من غوامض المعرفة، مثلا الصحيفة السجادية زبور آل محمد صلي الله عليه و آله فإن فيها من دقائق المعرفة والتهذيب للنفس ولطائف السير والسلوك لمَن رام الرياضة وآداب العبودية، هذا فضلا عما يجده الباحث في ما يبهر الالباب في نهج البلاغة وبقية الروايات عنهم عليهم السلام.

ومنها: الملاحم المذكورة عن كل واحد منهم عليهم السلام بدءا بأمير المؤمنين عليه السلام وما اخبر به من ملاحم عديدة في كيفية قتل اصحابه، وما يجري علي شيعته وعلي بقية المسلمين إلي قرون متمادية، وكذلك ما أخبر به الحسنان عن اعدائهما، وإخبار الصادق عليه السلام للمنصور الدوانيقي بوصوله للسلطة وأن بني الحسن لا يصلوا إليها.

ومنها: ريادتهم وسبقهم في كل فضيلة وكمال علمي وعملي في الصفة والاخلاق، ويكفيك التنبيه لذلك انهم عليهم السلام من السجاد للعسكريين لم يقوموا بنشاط للإطاحة بالنظام الحاكم من الامويين والعباسيين، ومع ذلك كان الحكام علي أشد هيبة وخوف منهم، وكأن اصل وجودهم الحامل لهذه المناقب والفضائل ينادي بحقانيتهم ونصبهم من قبل الباري تعالي.

ومنها: ان الاصل في الفكر البشري هو الاختلاف فلا يكاد يكون هناك اثنان يتفقان في طريقة معينة للتفكير، وهذا بخلاف الفكر السماوي الآتي من السماء حيث يكون واحدا لأنه لا يصطبغ بطبيعة الفرد بل يعبر عن المصدر الواحد، وهذه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 423

الكبري نطبقها علي ائمتنا حيث نلاحظ انهم

يصدرون عن فكر واحد ورأي واحد لا تضارب بين آرائهم وعقائدهم في ما لا يحصي من ابواب المعرفة والاعتقادات وابواب الفروع المتكثرة الهائلة، فما ثبت عنهم بطريق قطعي لا تخالف فيه، وما ثبت عنهم بالظن يندفع ما بينه من التخالف بطرق الجمع المعروفة، ونظيره في ظواهر الآيات فيما بينها، وذلك بقانون حمل المحكم علي المتشابه والمظنون علي ما يتفق مع المقطوع، وهذا القانون من أصول البيان في النطق البشري، والعمدة أن ما هو مقطوع به عنهم لا تري يه أي تخالف «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً» «1»

.ومن الطرق الاخري لاثبات الامامة النظر في نبوءات الاديان الاخري المتقدمة وتبشيرهم بأوصياء خاتم الانبياء كما ورد في الكتابة علي سفينة نوح وما هو مذكور في التوراة والانجيل والزبور، وقد استقصي عدة من محققي الامامية هذا الباب ووضعوا فيه كتبا جليلة، ويذكر هذا المنهج المسعودي في اثبات الوصية وفي تاريخه واليعقوبي في تاريخه.

ثانيا: ان البحث حول الامامة يتناول الكتاب والحديث ومن غير الصحيح أن يتناول الباحث أحدهما ويهمل الآخر بل يجب ضمهما إلي بعضهما دائما، حيث ان الآيات الكريمة توضح الامر الكلي ومواصفاته والروايات توضح المصاديق المتصفة، إذ ان الروايات تشير إلي وجود ثلة مع النبي وبعده لها هذه المواصفات ولها تلك المقامات ومن ثم نأتي إلي الاحاديث التي تنص علي التطبيق ومن له هذه الصفات.

وبعبارة أخري إن طوائف الآيات تثبت كبري هي وجود ثلة معصومة هم ائمة منصبون من اللَّه تعالي، ولهم ذلك المقام الغيبي إلي انقضاء هذه النشأة النبوية، وتدل بعض تلك الطوائف علي إمامة علي عليه السلام، وبعضها علي ضميمة الحسنين،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 424

ونظير اثبات الكبري كثير من الاحاديث النبوية

المتواترة كحديث الثقلين فإنه يدل علي دوام بقاء العترة حتي الحوض، وأنهم عِدل الكتاب، واللازم التمسك بكل منهما والائتمام بهما، وكحديث الاثني عشر خليفة كلهم من قريش، وحديث من مات ولم يعرف امام زمانه، وغيرها من الاحاديث التي إما تشمل جميع الائمة أو بعضهم، وعلي أية حال فإن اثبات الكبري ينضم إليها عدة تقريبات لاثبات الصغري والمصادق كما اشرنا إليه في النقطة السابقة.

ثالثا: من خلال قراءة التاريخ نستطيع أن نكشف عن طريقة اخري من الاستدلال، وهي إن التاريخ ينص علي وجود فرقة عاشت في الدولة الاموية والعباسية اسمها الرافضة، وهؤلاء كانوا يتبعون الائمة من أهل البيت عليهم السلام، وكان من المنطقي والطبيعي ان يقوم اصحاب الطوائف الاخري ان يقطعوا الطريق عليهم من خلال محاولة افحام ائمتهم في المناظرات والاسئلة، وأن يكون ذلك بمساعدة السلطة الحاكمة، والحال أن التاريخ لا يذكر لنا شاهدا ولو واحدا حول ابكات هؤلاء الائمة، بل علي العكس ينقل لنا صورا مشرقة عن العديد من المناظرات والمحاجات التي اجراها امراء الدولتين في محاولة للاطاحة والنيل من الائمة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان ما نقل الينا هو النزر اليسير الذي لم تستطع السلطة الحاكمة اخفاؤه عن الناس.

وعليه نستطيع القول ان منهج الاستدلال يكون بالآيات والاحاديث والعقل والتاريخ.

رابعا: يجب الالتفات إلي ما اشرنا إليه في حقيقة التواتر وانه لا بد من الرجوع إلي كتب الحديث والاخذ بالنصوص ولو فرض انها بمفردها غير تامة لكن بتظافرها و بمعية الجميع وبتراكم الاحتمالات كما وكيفا ينتج التواتر.

وقد أشرنا في الفصل الاول إلي تقسيم التواتر إلي ثلاثة أقسام لفظي ومعنوي واجمالي، وبيّنا كل قسم، كما ذكرنا إن دوائر التواتر تختلف سعة وضيقا وأن هذا الاختلاف لا يخل بضابطة

التواتر الرياضية البرهانية، فمن الخطير الغفلة عن ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 425

الخاتمة … ص: 425
الوظيفة الإجمالية في الإئتمام … ص: 425

بعد هذا الاستعراض كنموذج لفقه ماهية الامامة فقها عقليا وفقها قرآنيا وروائيا، وبيان مقتطف من المقامات التي للائمة عليهم السلام رأينا من المناسب ان نختم البحث في بيان الوظائف الإجمالية للمكلفين اتجاه أئمتهم حيث قال تعالي «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ» «1»

وقال تعالي «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2»

، وقال تعالي «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «3»

، وسوف نوجزها بالامور التالية:

1- معرفتهم كأمر اعتقادي وهو غير مرهون بحضورهم بل حتي بعد مماتهم في زمان غيبتهم فمعرفتهم واجبة، كما هو الحال في الاعتقاد بنبوة الرسول صلي الله عليه و آله.

2- كون الامامة من أصول الدين لا من فروعه، ومن تحريف الكلم عن مواضعه بمكان حصر توليهم علي الموالاة السياسية فقط، والتولي والتبري المذكور في الفروع صحيح ولكنه غير معرفتهم.

3- إن محبتهم وبغض اعدائهم من الامور الركنية في معرفتهم والاعتقاد بهم التي لا تتوقف علي حياتهم بل يجب اظهارها لأن المحبة من الامور التي تكون مصداقا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 426

للموالاة ألا تري في قوله تعالي «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ» «1»

حيث أن المحبة واظهارها مصداق من مصاديق الولاء، وأن حب اعداء اللَّه يوجب الخسارة وضياع الاعمال حسرات بل والخلود في النار، كما تشير إليه تتمة هذه الآية من سورة البقرة، وبقية الآيات الناهية عن موادة من حادّ اللَّه ورسوله.

4- تحليل فلسفي وذوقي معرفي لنكتة ما ورد في بعض الروايات «هل الايمان إلا الحب والبغض».

إن الايمان بنحو مطلق فعل من افعال النفس، و لا

يمكن للموجود البشري أن يعيش من دونه لأن الايمان والاذعان بشئ ما من كمال الفرد البشري، ولو عثر علي فرد بشري لا يعتقد بشي ء أصلا فهو لا يستطيع أن ينتهج أي جادة في حياته، ومن ثَمّ فسيكون من الممتنع أو الصعب علي بقية البشر التعامل معه لأن المفروض انه لا يتقيد بأي منهج ولا طريقة، إذ لا يؤمن بشي ء ما كي يتقيد به، وحينئذ سوف يكون مطلق العنان في جميع غرائزه ورغباته كالوحش الكاسر أو الحيوان أو الحيوان المسعور المخيف لمن حوله، ويتبين بذلك أن الايمان بأي نحلة كانت وبأي شي ء ما من الكمال بالمعني الاعم، بمعني أنه لا يستطيع احد ان يتركه ومن هنا وقع البحث في علوم مختلفة حول حقيقة الايمان بعض النظر عن متعلقه، فهل حقيقته هو الادراك ام المعرفة أم الاعتقاد والتصديق أو انه مجرد الانجذاب نحو الشي ء؟؟

وذكرنا فيما سبق أن الايمان ليس هو مجرد الادراك لأن بعض درجات الادراك الحصولي لا يلازمها الايمان وبتعبير آخر علينا معرفة ان الايمان من أفعال العقل النظري أو العملي؟

ومن الأمور التي تسهل البحث في الحكم في القضايا المدركة أن الحكم طبقا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 427

لآخر التحقيقات ليس جزء القضية، فقد ذكر الملا صدرا أن الادراك تارة يلازمه الاذعان فيسمي تصديقا وتارة لا يلازمه فلا يسمي تصديقا، ثم في التحقيقات الاخيرة فسروا الحكم بما تقوم به النفس من دمج المحمول بالموضوع وهو من افعال العقل العملي، ولكنه لا يقوم به إلا مع الادراك والوضوح بنحو يدفع العقل العملي للحكم والاذعان، ومن ثَمّ التسليم والاخبات، فاتضح انه من لوازم الادراك بدرجته العالية.

اما حالة الجحود التي تحصل عند استيقان الحق فهي ناشئة من أمراض النفس من استهواء

نزعات الغرائز او جربزة الخيال وانفعالات الوهم الذي يمنع من الانفعال الطبيعي الفطري لليقين، ولذا تقدم- في الفصل الاول- أن اليقين ليس علة تامة للاذعان ولكنه مقتض له.

ومن ثم نستطيع معرفة تعريف الامام أن الايمان هو الحب والبغض لأن الايمان يعني اذعان النفس فإن الحب والبغض من افعال العقل العملي، وهو من درجات العقل العملي فإن الايمان بشي ء يعني انجذاب النفس إليه وعدم الايمان بشي ء ما هو خلافه فتنفر النفس منه فالنفرة تعني البغض والابتعاد.

وبتعبير آخر نقول: إن افعال العقل العملي والنظري وجهان لعملة واحدة، والحقائق التي يدركها العقل النظري إثباتا لوجودها أو نفيا لها، إذا ادركها العقل العملي بعينها يكون لها آثار أخري كالحب والبغض.

ومن هنا يتضح ما ذكره أهل المعرفة من الامامية من أن التولي لاولياء اللَّه وهم الائمة عليه السلام، والتبري من اعدائهم من مظاهر الجلال والجمال الالهي، وذكرنا أن الجلال والجمال من لوازم الصفات الثبوتية والسلبية للذات الالهية، لأن معرفة الصفات الثبوتية يلازمها المحبة لأنه مفطور علي حب الكمال ومعرفة الجلالية يلازمه النفرة والخوف، وقد بينا ملازمة معرفة الذات لمعرفة الامام فمن لوازم الصفات الثبوتية الجمالية الايمان لوليه وانه مهبط لنافذية قدرة اللَّه ومحل لتنزل مشيئة اللَّه تعالي واراداته في مقام الفعل، وفيما ينكره العقل النظري فيوازيه في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 428

العملي التبري من اعدائه.

ومنه يتبين أن التولي والتبري بعض درجاته في الاصول وبعضها في الفروع فالذي يكون في القلب من الاصول ويتنزل إلي الجوارح فيكون من الفروع، كما أن المتابعة السياسية ليست وحدها من الفروع بل قبول أقوالهم ومودة اوليائهم ومعاداة اعدائهم في أفعال الجوارح ايضا منها.

وقد ورد عنهم عليهم السلام: «كذب من يزعم انه يحبنا ويتولي عدونا ويبغض ولينا».

والبرهان

عليه بنفس النحو: إذ كيف يمكن للانسان ان يجمع بين الكمال والنقص، ويثبت الصفات الثبوتية ولا يثبت الصفات السلبية لأن الصفات السلبية تعني نفي النقص عن الباري فالجلال لا يمكن ان لا يلازم الجمال

ومن ثمّ من لوازم اثبات الجمال والجلال والصفات الثبوتية ونفي السلبية هو اثبات كمال قدرة الباري تعالي بإرسال الرسول وجعل خليفته في الارض الهادي لمراضيه ما دامت النشأة الدنيوية- كما اوضحنا في صدر هذا الفصل كون الامامة ركن من اركان التوحيد- فالتوحيد واثبات القدرة الازلية يستدعي عدم مغلولية بد الباري عن خلقه أي تولي خلفائه في أرضه، كما ان توحيده بنفي الصفات السلبية عنه أي صفات الجلال يعني الخوف والابتعاد عن قهره ومواطن غضبه بالتبري من اعدائه.

5- إن الحب والولاء محدود بحد وهو عدم الغلو وهو الافراط، وعدم الجفاء وهو التفريط فيجب بيان الحد الذي يجعل الانسان مغاليا أو جافيا قاليا وخارجا عن جادة الصواب؟

قال بعض: بأن من يثبت صفة لهم خارجة عن نطاق البشر يوجب الغلو والخروج عن حد الاستقامة فهو يثبت لهم مقام العصمة العملية والعلمية فقط، وهذا مع انهم انفسهم يرون روايات احاطة أنوارهم لا اجسامهم بالعوالم والنشآت السابقة واللاحقة.

اما اصحاب السر كسلمان ورشيد الهجري ومحمد بن سنان ويونس بن عبد الرحمن وجابر بن يزيد الجعفي وامثالهم فانهم يعتقدون بهم فوق ذلك المقام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 429

«قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ» فالرسول في عين مثليته البشرية للآخرين إلا انه يغايرهم في (يوحي إلي) وأي مغايرة هذه وأي مفارقة. وانهم منذ بدء الخليقة كانوا أنوارا وأنهم مطلعون علي عالم الملكوت بما يزيد علي الانبياء من اولي العزم، ورواية تفسير الثمانية الذين يحملون العرش أربعة من الاولين وأربعة من

الآخرين وهم نوح وابراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام علي يسار العرش، ومحمد صلي الله عليه و آله وعلي والحسن والحسين علي يمين العرش، ومن المعلوم ان اليمين واليسار في الرواية يدل علي الدنو وعلو المقام وأنه لا من جهة المكان والأين إذ لا مكان جسماني للعرش الذي هو العلم

وقد عرفت في استخلاف آدم أنه يحمل علم اللَّه ما لا تحمله الملائكة، وقد أشير إلي تفسير الثمانية عند العامة (فقد رواه السيوطي في الدر المنثور عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: يحمله اليوم أربعة، ويوم القيامة اربعة، فإن اليوم اشارة إلي من يحملهم من هذه الامة، وقد صرح بأسمائهم في روايات أهل البيت).

وكل الامامية متفقون علي ان مستقي علومهم ليس بالعلم الحصولي الاعتيادي بل لهم العلم الواقعي، وانهم مطهرون مبرؤون من العيب والادناس والارجاس، وهذه كلها بعيدة عن الغلو.

فالمقياس العقلي هو أن الخروج بهم عن حد الامكان أو الخروج بصفاتهم عن صفات الممكن هو افراط، وأن كل ما عندهم هو من عند اللَّه العزيز الحكيم الذي اعزهم واقدرهم واعطاهم من نعمه ما لا يحصي، مع بقاء محدودية ذاتهم وانهم معاليل مخلوقون والمعلول لا يبلغ شأن العلة، بل يجب الاعتقاد انهم محتاجون إليه تعالي ولا يوكل اليهم الامور بنحو العزلة والاستقلال- والعياذ باللَّه- مطلق ومستقل فهم الفقراء إلي اللَّه واللَّه هو الغني المطلق، كما هو البحث والكلام الجاري في ادني فعل يوجده البشر من أعمال جوارحه أنها باقدار اللَّه لا بنحو التفويض العزلي الباطل.

واما جانب الجفاء والذي يجب الابتعاد عنه ايضا فمعناه هو تنزيلهم عن مقام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 430

كرامة الخلقة التي اولاها الباري تعالي لهم، وبيان ذلك علي نحو الاجمال:

إن الصوادر الاولي في عالم

الخلقة لها صفات لا يقاس بها سائر المخلوقات الاخري، وهذا يعني ان لهم مقاما، وانهم ليسوا كبقية البشر وبالنسبة إلي باقي الخلق فبينهم بون شاسع، وهم بوجودهم النوري لا بأجسادهم واسطة في الفيض، كما تقدم اثبات ذلك برهانيا في طيات البحوث السابقة قال تعالي «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ» ولم يقل تعالي عرضها أو اسماء هذه فهم ذوات عالية «أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ» وقد تقدم شرح ذلك، فكما ان افاضة الحياة في الزرع لا تكون إلا بواسطة مادة البذر وصورة الزرع واعداد التربة فهي في حقيقتها شرائط قابلية القابل ولذا كان الكمال من الباري يتنزل عن طريقهم، وهذا أيضا لعجز القابل المخلوق لا الفاعل جلّ وعلي علوا كبيرا وهذا كله لا يجعلهم شركاء للباري فهل التربة شريكة اللَّه وهل الصورة الزرعية ومادة البذر شريكة اللَّه.

والضابطة الشرعية- المتطابقة مع الضابطة العقلية المتقدمة- المهمة ما ورد مستفيضا أو متواترا علي لسانهم عليهم السلام «نزلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا» «1»

، وهناك طوائف عديدة من الروايات التي تثبت هذا المطلب، والمعني بلسان آخر كما في حديث الرضا «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام.. ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الالباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الالباء وكلّت الشعراء وعجزت الادباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شئونه وفضيلة من فضائله، واقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شي ء من امره» «2»

.وببيان فقهي نقول: ان المتابعة والتعظيم ليس فيه أي حد من حدود الشرك، بل ان كبار الفقهاء من المسلمين يذكرون أن التعظيم لغير اللَّه لا يكون شركا إذا كان لا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص:

431

عن عبادة، وانه يكون عبادة اصطلاحية وتأليها إذا كان تمام الخضوع مع اعتقاد الاستقلال لذلك لا يجوز، أما إذا كان مع اعتقاد حاجة المخضوع له وفقره إلي اللَّه سبحانه فانه لا يكون عبادة، هذا من جانب الحد الاعلي.

أما من جانب الحد الادني فإن ادني درجات الولاء هو المودة والمحبة القلبية وعليه يكون التشفع بهم وزيارتهم والتوسل والدعاء بهم لا يكون عبادة ولا يدخل تحت حد الغلو، قال تعالي «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «1»

، وقال تعالي مخاطبا نبيه «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» «2»

، وقال تعالي «أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» «3»

، وقال تعالي «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» «4»

، وقال تعالي «قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ء 97 قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «5»

، قال تعالي «مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «6»

.6- ولابأس بالاشارة مختصرا إلي ان شرك الجاهلية في العبادة كان بالتعظيم والتوسل بأمور من دون جعل اللَّه تعالي وإذنه، والتوحيد في العبادة هو نفي الطقوس التي لم تؤخذ من عند اللَّه سبحانه وتعالي، ونستطيع ان نجد ما يدعم نظرية الامامية في التوسل بهم:

أ- ان اللَّه يأمر بابتغاء الوسيلة إليه قال تعالي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 432

إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»»

، وقد تقدمت الاشارة إلي انهم السبيل إلي اللَّه.

ب- ان الشفاعة مذكورة بنص القرآن الكريم «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي» والعديد من الآيات وهذا الاستثناء يدل علي وجود اصل الشفاعة، والشفاعة تعني كرامة خاصة ومنزلة للشافع عند اللَّه تعالي.

ج- انه لا فرق بين الوسيلة ان

تكون تصرفا وعملا كالصلاة والصوم للَّه من اجل تحقيق حاجة معينة، وبين ان تكون بالتوسل بالنبي صلي الله عليه و آله بل ان آية المائدة المتقدمة تدل علي ان الوسيلة هي غير العمل الصالح والتقوي وأنها درجة فوق ذلك.

د- ان القرآن ذكر سجود الملائكة لآدم وابناء يعقوب ليوسف سجود احترام لا عبادة.

ه- ان النذر مباح في اصله فقد نذرت والدة مريم ما في بطنها لمكان العبادة، كما ينذر الشيعة للَّه تعالي الان مالا يختص بالائمة والصالحين أي يصرف في خيراته.

و- قوله تعالي «واسْتَغْفِرْ لَهُمْ» الواردة في العديد من السور القرانية.

ز- «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» فوجوده صلي الله عليه و آله كان حرزا لهم.

ح- «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» فلا بد من مطلق التسليم النفسي للرسول فضلا عن عمل الجوارح.

فوجوب الخضوع للتوقير ثابت في القرآن للرسول الاكرم وهو مغاير للعبادة، والتفريق بينه حيا وميتا مما يضحك الثكلي، و في بعض الروايات لدي العامة والخاصة ان المسلمين كانوا يتبركون بفضل وضوء رسول اللَّه (كما في ما حكاه مندوب مشركي قريش في صلح الحديبية من فعل المسلمين، فلاحظ كتب السير والتاريخ)، و في غزوة خيبر تنص الروايات التاريخية ان الامام علي كان به رمد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 433

فدعاه الرسول صلي الله عليه و آله وتفل فيها فبرأت، وغير هذا كثير جدا.

بل ان احد مبرزات التودد واظهار محبتهم هو زيارة قبورهم وتعاهدها وغير ذلك، وكل ذلك لكرامتهم عند اللَّه تعالي وشأن قربهم ومنزلتهم عنده وخاصتهم به وصدق مقاعدهم عنده.

ومن مراتب ولايتهم هي الولاية التشريعية بمعني انهم ليسوا رواة عدول ليس إلا بل ان علومهم مستقاة

من معين الغيب وان واسطتهم الروائية هي بالقناة النورية لا بالحس كما في عنعنة النبي صلي الله عليه و آله عن جبرئيل عن ميكائيل عن اسرافيل عن اللَّه تعال، وإن اختلفت القناة النبوية بالوحي والنبوة، وقناتهم بالعلم اللدني الجامع بالكتاب المكنون «لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»، «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

وكذلك ولايتهم التكوينية بإذن اللَّه تعالي وقد اشرنا إليها في موارد عدة ونشير هنا إلي بعض الآيات التي تنص علي وجود ولاية تكوينية للبعض منها قوله تعالي «إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَي وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَي بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1»

، «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» «2»

، «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ» «3»

، «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» «4»

، «قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 434

مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبِّي» «1»

.أخيرا.. فإن من الواجب علي الانسان الذي يوالي ائمة الهدي ان يثبت لهم هذه المقامات العلوية عند اللَّه من دون ان يكون هناك تحفظ او تردد في احدها،

فهم خلفاء اللَّه في ارضه وآيات قدرة اللَّه الواسعة التي لا يحدها شي ء يؤتيها من يشاء من عباده وهو تعالي أقدر بلا كفو علي الشي ء الذي يؤتيه.

وهؤلاء هم الذين عرفوا اللَّه حق معرفته واستحقوا بذلك تلك المقامات وهم علي ما هم عليه من المنزلة الرفيعة في جميع عالم الوجود إلا انهم يستشعرون النقص والفقر والعبودية اتجاه الذات المقدسة وانهم دونها منزلة وهل يقاس برب الارباب شي ء؟! ولذا نري عبادتهم- التي لم يبلغها بشركما وكيفا- تتناسب مع قدر معرفتهم بربهم، وعظيم تذللهم- الذي لا يُري لأحد غيرهم- لعلمهم أنهم امام العليم الجليل.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.